#علي سيدو رشو#
مع بدايات النهضة في المجتمع الإيزيدي، والتي أعتبرها منذ كتابة اسماعيل بك جول لمذكراته، كأول محطة مكتوبة بتفاصيلها عن بعض ما في المجتمع الإيزيدي من حقائق تستحق الوقوف عندها وتحليل حيثياتها بأيدي إيزيدية خالصة. وبالتأكيد قد سبقه آخرين من الكتّاب وبعض المستشرقين الاجانب في الكتابة عن الديانة والمجتمع الإيزيديين، بحسب ما توفرت لديهم من امكانية في التعرف على واقعهم، وقد أصبحت هذه المذكرات فيما بعد مصدراً للكثير من الأبحاث رغم بساطتها وطريقة سردها المتواضعة. وعلى الرغم من ظهور بعض النتف والمقالات البسيطة التي كانت تكتب سواء كانت باسمائهم أو باسماء مستعارة، كالتي كتبها السيد فائق رشيداني، لم تكن كافية لتلبية طموح المؤلفين في البحث عن حقيقة الايزيديين بمستوى ما كان ينسج حولهم من هالات ووطقوس وخرافات.
في فترة اربعينات القرن الماضي وبسبب نشاط بعض الاحزاب العلمانية وبالاخص الحزب الشيوعي، برز نشاط واضح بين الايزيديين وخاصة في منطقة بعشيقة وبحزاني؛ أولا، كونها قريبة من مركز مدينة الموصل وسهولة الوصول إليها والتواصل معها. وثانياً، بسبب انتشار الوعي بعد حصول التخالط فيما بين بعض الطلبة من الرعيل الاول أمثال المربين الأفاضل المرحوم شيخ صبري مراد وشيخ حسين إباهيم وحسن افندي وحسين سلو ومال الله ديوالي وسليما حجي وألياس خلو وعبدالله محيّر للدراسة في معهد المعلمين العالية وتبعهم في ذلك أجيالاً أخرى غيرهم. فانتشرت تلك الافكار بسرعة بين الايزيدية، وزحفت إلى سنجار حيث الغالبية من سكانها من الايزيديين وكان من بين أهم النشطاء السياسيين آنذاك المرحوم عزام قطو من قرية بارا، ومن المسلمين كان المرحوم سليمان صولبند.
إذن هكذا كانت وبدأت البدايات، ولابد لكل بداية من أن تعاني من صعوبات وتجابه تحديات تعتمد في قوتها وخطورتها على حسب المرحلة التي تنمو فيها (النهضة)، وكانت الحالة أيضاً مع أولى بوادر النهضة من الداخل الايزيدي. كانت تسير بالتوازي من هذا الامر، شهوة بعض الكتّاب والمؤلفين والمستشرقين في البحث عن هذه الهالة التي أحاطها الايزيديون بانفسهم، بل تلك التي أحاطتها الغير من حولهم وفرضتها عليهم. مما كانت تستدعي البحث والوقوف عندهم كأحد أغرب الاقوام التي عاندت الدعوة الاسلامية وبقت في وسط هذه الدعوة العنيفة محتفظة بقوتها في الابقاء على أفكارها وعقيدتها، رغم الويل الذي ذاقته بسبب رفض تلك الدعوة والابقاء على عقيدتها.
لقد كان، ولا يزال، المجتمع الايزيدي وما يحيط به من مجتمعات بكافة طبقاتها ودياناتها ومعتقداتها تعاني من التخلف، ولكن هذا المقدار من التخلف قد لا يكون بنفس الدرجة لدى الجميع بسبب عوامل توفرت للبعض منهم ولم تكن من السهولة أن تكون تلك العوامل متوفرة لغيرها مما جعل البعض تتقدم على بعضها الآخر بصورة نسبية. وبالتالي ظهر مقدار معين من التخلف على أساس المقارنة فيما بين تلك المجتمعات، كونهم عاشوا في نفس البيئة التي يمكن من خلال المقارنة بين المكونات تمييز درجة التخلف (والتقدم) بوضوح فيما بينهم. وهذا الامر وبسبب عوامل عديدة ومن أهمها الدعوات والفتاوى الدينية بتحريم وتكفير الايزيديين، جعلهم يتقوقعون على أنفسهم في بيئات جغرافية صعبة وبعيدة عن الحضارة، وبالتالي اصبح من السهل نسج الهالات والخرافات بما يحلو لهم بحيث يتم تصويرهم في وضع يجعل الانتقام منهم بأبسط ما يمكن ولمجرد الاعلان عن دعوة للجهاد. وهكذا بدأ التشديد يضغط عليهم وزاد مع ذلك مقدار العزلة والتخلف عما محيط بهم من أقوام.
من الطبيعي جداَ أن يزحف تأثير هذا التقوقع عشائريا من الداخل بحكم الضغط والتعايش في بيئة مغلقة ونمو المصالح الشخصية والمصاهرة والنفوذ والتحالفات على المستوى الداخلي مما تسبب في خلق المشاكل الإجتماعية ونمو التطرف والعشائرية. وكذلك نمو دور الجانب الديني بما يحمل من الخوف من الاخر الذي لم يدخر جهداً في الانتقام، ومصالح رجال الدين في الابتعاد عن التقدم والحضارة والتعليم والجمع مابين السلطة الدينية والعشائرية وتأثيراتها على الواقع الاجتماعي وزيادة العزلة الداخلية. ومن ثم جمع جميع السلطات الدينية والدنيوية بيد الامارة وبعض المحسوبين بحيث تصب جميع الخيارات في مصلحة الامير الذاتية.
إذن، هكذا كانت البدايات على الاقل حسب فهمنا ومعايشتنا للواقع، فالجميع مسئول عن هذا التخلّف سواء الداخل الايزيدي، أو المجتمع المحيط أو السلطات الرسمية أو الباحثين الذين لم يهتموا بالجانب المحايد وأصول البحث النزيه وتقديم النصيحة للدولة بمعالجة واقعهم، وإنما كان الامر فقط تماشياً واسترضاءً لرغبة الشارع الاسلامي، أو جهلاً بالحقائق والاعتماد على النقل الاعمى. عليه، فإنه هنالك أسباب أساسية لهذا التخلف منها ذاتيه فرضه الواقع بعد العزلة بحيث ظهرت العشائرية بأوجها وسيطرت بعض القبائل على غيرها وبالتالي سببت في خلق نزاعات دموية في الداخل الايزيدي وما ارتبط بها من تحالفات مما ساهمت في إضعاف الضعيف. ومن الجانب الثاني تنمية دور رجال الدين والامارة وجمع السلطات التنفيذية والتشريعية بيد الامير.
ومنها عوامل موضوعية مرتبطة بالمحيط الخارج من حيث إهمال الدولة وعدم معالجة الامور بعقلانية ومن ثم التأثيرات العشائرية والدينية للإنتقام مما أضطر معه المجتمع الايزيدي بتغيير الكثير من سلوكياته وهيئته لتفادي الاحراج كما هو الحال في تغيير الاسماء وهيئة اللبس حسب الظروف والمنطقة الجغرافية التي يعيش فيها. ومع كل هذا يجب أن لا ننزه الايزيديين على أنهم ملائكة لم يساهموا في خلق صعوبات، بل راح الكثير منهم في تلك الفترة يعمل كقطّاع طرق واعتراض سبيل القوافل بدافع الجوع أو إبعاد الخطر، أو إثبات الذات للخصم بقوته على التمسك ببعض زمام الامور على الاقل في منطقته التي يعيش فيها لكي يحافظ على هيبته (ومملكته). وقد تم تفسير هذه السلوكيات من المقابل بوحشية الايزيدي مما يستدعي القيام بالإنتقام والاستنجاد بجهد الدولة في كثير من الاحيان لتحقيق الهدفين؛ الديني والدنيوي معاً.
وحسب فهمي للحال فإن موضوع التراث كإحدى أهم البوابات التي تسلط الضوء على تاريخ الشعوب، يعد واحداً من اهم النقاط الاساسية التي يجب التعامل معه بدقة وتحذير الشباب والباحثين من القراءات غير المتوازنة، لان ذلك سوف يخلِف أفكاراً مشوشة عن تاريخ ونضال المجتمعات وخاصة تلك التي تعتمد على النقل الشفاهي كما هو الحال مع المجتمع الايزيدي والتي تعد واحدة من الاسباب الرئيسية التي ساهمت في تعزيز التخلف، لكونها لم تعمل على تواصل الاجيال. وكان للباحثين الشابين خليل جندي وخدر سليمان الدور الرائد في هذا الحقل في ثمانينات القرن الماضي. ولكن بسبب عدم الاستقرار والتهديدات والغزوات لم نقف على مرحلة أبدع فيها الإيزيدي في مجال الطب أو التكنولوجيا أو الادب إلا حالات استثنائية كما هو الحال مع الحكيم الشعبي والجرّاح المشهور مراد براهيمكو الذي (قد لم يسمع به أحد خارج منطقة سنجار)، وهو من قرية المجنونية في ستينات القرن الماضي، حيث كانت جميع حالات وقضايا الجرحى بعيدة عن عيون السلطة. وكان هنالك آخرين مثل عطو شيخ خضر الذي كان خبيراً في طب الاعشاب، وعائلة فقير كَسو المعروفة في الحساب والفلك، وقاسمي ميري في وصف الحوادث والمعارك التاريخية من خلال الادب الشفاهي ونقلها عبر الاغنية والمقام، وعيدو كتي من خلال الاغنية القصيرة، وبعض الرواة مثل فرمان شمو تويني في نقل الملاحم والبطولات والمواقف كما في حالة قصص بطولات درويشي عفدي في الحب والقتال، وإيزيدي ميرزا وشيخ ميرزا القوسي في التضحية من أجل المباديء والوفاء، وشيخ كالو في التضحية بالنفس فداءً للدين، وعلي بك في مقاومة الظلم، وصمود الايزيديين بوجه حملات الابادة مثل سمو فاطمي في سنجار، ويجب أن لاننسى الدور الاساسي للباحث الفاضل أبو آزاد في التدوين المرئي للتراث واسهاماته البارزة في نقل الحقيقة من خلال الصورة والصوت. فلكل هؤلاء وغيرهم الدور المشّرف في خلق التراث، ولكن علينا متابعته والاهتمام به وتبويبه ونقله بأمانة إلى الاجيال، لأن التراث يعتبر بمثابة الوعاء الذي يودَع فيه مراحل التاريخ والدروس التي يمكن استنباطها منه، وهو بالتالي يعد المرجع الذي يمكن أن ينهل منه ما يحتاجه الباحث.
لقد كان هذا الحكيم الجرّاح الأمي (مراد براهيمكو)، بالامكانية بحيث يعمل على إجراء أعقد العمليات الجراحية الناجمة عن الاطلاقات النارية أثناء النزاعات العشائرية (وقد عايشت الكثير منها شخصياً)، ولو كان في حينه قد تم تسجيل امكانياته، لكان من الممكن ان تدرّس أفكاره في الكليات العلمية الآن، وكنت اتخيل حركاته وسرعة البديهة وقوة القرار لديه عندما التقيت لاول مرة بالدكتور عجيب علي وهو يمشي بين الردهات ويعطي الاوامر بكلمات قصيرة وحادة وبثقة عالية. وبهذا الاهمال وترك التراث وعدم الاهتما به، ضاع الكثير من الجهد وانقطعت حلقات التواصل التراثي بين الماضي والحاضر وساهمت في تخلفنا لغاية اليوم. فبدلاً من تنمية تلك الافكار والكفاءات والقدرات ورعايتها، راحت الكثير من الجهات تكيل لها التهم الباطلة والكيدية بهدف تعطيلها والانتقام منها. فالذي أريده من هذا الموضوع والمقدمة للدخول في حلقات لتلسيط الضوء على لماذا تخلّف الايزيديون؟، هو إظهار وإبراز دور تلك الكفاءات والقدرات لكي لا نقول بأننا لم نساهم في البناء الانساني رغم مأساتنا. ثم بيان أسباب تخلفنا من مختلف الأوجه في حلقات متتالية.
ملاحظة: أرجو من كل مَن لديه فكرة أو متابعة أو إهتمام بهذا الموضوع إسعافنا بما يحقق الفائدة ويحفظ حقوق الناس للتاريخ.[1]