الفيليون: أصالة و عَراقة و آمال و هموم ( 13) شخصيات فيلية معروفة
د. مهدي كاكه يي
شخصيات فيلية معروفة
في المقالات السابقة تناولتُ جانباً من التأريخ الفيلى القديم و الحضارات العريقة التي بناها أسلاف الفيليين و دراسة التحديات و المشاكل التي يواجهونها و تقديم بعض الآراء و المقترحات للتصدي لتلك التحديات و المشاكل و إيجاد حلول لها و التغلب عليها أو تخفيف وطأتها و الحد من أضرارها. في المقالات التالية من هذه السلسلة، أحاول توثيق أسماء بعض الشخصيات الفيلية الذين ساهموا أو لا يزالون يساهمون في الأنشطة الفكرية و السياسية و الإجتماعية و الإقتصادية و الأدبية و الفنية و الرياضية و الذين رفدوا شعبهم الكوردي و الإنسانية بإبداعاتهم و أفكارهم و فنهم و موسيقاهم و أثبتوا نكران ذواتهم و عظمة تضحياتهم. هذا التوثيق يأتي لرد الجميل لهؤلاء المبدعين و المصلحين و للإعتراف بدورهم في حياة شعبهم و مكافأة متواضعة للخدمات التي قدموها و يقدمونها. إنّ صفحات التأريخ الكوردي و تأريخ شعوب المنطقة تحتفظ بالآلاف من الأسماء الفيلية اللامعة، لذلك فأنّ التحدث عن كل هذه الأعلام يحتاج الى مجلدات عديدة و لا يمكن لبضع مقالات أن تستوعب كل الأعلام الفيلية. لذلك أقدم عيّنة محدودة جداً من هؤلاء المبدعين و الذين تُسعفني ذاكرتي بتذكّرهم أو إهتديتُ إليهم في القصاصات الورقية التي إقتطعتُها من الصحف و المجلات و المقالات أو عثرتُ على أسمائهم في بواطن الكتب.
الشريحة الفيلية، كما هو الحال بالنسبة للشرائح الكوردية الأخرى، لا تزال العلاقات القبلية و العشائرية مترسخة فيها. هذه العلاقات تزداد رسوخاً كلما إنتقلنا من المدن الكبيرة الى القصبات الصغيرة و المناطق الريفية و القروية. أكبر قبائل الفيليين هي قبيلة ملكشاهي وتليها قبائل (علي شيرواني) و (شيرواني ) و (باوي) و (كلهور) و (ممسني) و (قيتول) و (كالاوي) و (ماليمان) و (كردلية) و (داراواني) و (سيسية) و (زورية) و (كاكا) و (خزل) و (زنكنه). هناك عشيرة فيلية بإسم (السوره مَيري) و التي هي من أقدم العشائر الفيلية، قد يكون إسمها متأتياً من إسم أسلافهم السومريين. العشائر الفيلية لها فروع متشعبة، و نجد فيها قبائل مستعربة مثل عشيرة (عرب رودبار).
1. الحكماء و العلماء
الحلاج (857 – 922 م): هو الحسين بن منصور بن محمي الحلاج. وُلد الحلاج في الطور الواقعة في إيران الحالية. إستقر الحلاج في واسط (الكوت) في عام 253 هجري. عاش في بغداد في أواخر القرن الثالث الهجري.
يذكر عز الدين بن الأثير أنّ الحلاج كان رجلاً متصوفاً زاهداً و صاحب كرامات. كان الحلاج يعتنق الديانة الكاكائية (أهل الحق)، و أنّ الكتب الدينية للكاكائيين تذكر ذلك. يذكر المعري أيضاً، في رسالة الغفران في صفحة 348، بأنّ الحلاج كان يؤمن بتناسخ الأرواح، حيث أنّ الكاكائيين يؤمنون بذلك أيضاً.
في عهد الخليفة العباسي، المقتدر، تمّ إتهام الحلاج بالشعوذة من قِبل المعتزلة، حيث تم إلقاء القبض عليه من قِبل رجال الشرطة العباسيين. أمضى الحلاج ثماني سنوات في سجن بغداد. بعد ذلك أمر الوزير حامد بقتله بعد محاكمة دامت سبعة أشهر، بمقتضى فتوى أقرّها القاضي أبو عمر المالكي. حُزّ رأس الحلاّج و جُلّد و قُطّعت يداه ورجلاه و من ثمّ تم صلبه على جذع شجرة و أبقوه هكذا الى اليوم التالي، حيث في ذلك اليوم، قُطعت رقبته و أُُحرقت جثته في ساحة السجن الجديد ببغداد على الضفة اليمنى لنهر دجلة أمام باب الطاق و ُرمي رماد جثته في نهر دجلة.
كان الحلاج يدعو إلى التأمل والتفكر وإعمال العقل و هو القائل:
تأمل بعين العقل ما أنا واصف
فللعقل أسماع و عاة و أبصار
دعوة الحلاج إلى التفكير لم تكن تُلزم غيره بأكثر من دعوته إلى التفكير فيها، حيث أنه كان يدعو الى لغة العقل والتفكير بوضوح و إخلاص. يقول عن ذلك: (خذ من كلامي ما يبلغ علمك، وما أنكره علمك فاضرب بوجهي، ولا تتعلّق به، فتضلّ عن الطّريق) (أخبار الحلاج لإبن الساعي، صفحة 12). لم ينظر الحلاج للدين الإسلامي أو المسيحي أو اليهودي نظرة شك أو إستخفاف أو تكفير، بل كان ينظر إلى تلك الأديان على أنها وسائل مختلفة لتحقيق نفس الهدف. يقول: (يا بنيّ، الأديان كلّها للّه عز ّوجل، شغل بكل دين طائفة لا اختياراً فيهم بل اختياراً عليهم، فمن لام أحداً ببطلان ما هو عليه فقد حكم أنّه اختار ذلك لنفسه، و إعلم أن اليهودية والنصرانية والإسلام هي ألقاب مختلفة وأسامٍ متغيّرة والمقصود منها لا يتغير ولا يختلف) (أخبار الحلاج لإبن الساعي، صفحة 38-39).
كان الحلاج متصوفاً، أحب الخالق حتى ذاب فيه وتوحد معه، وقال وهو من أجمل ما قيل في التوحد:
أنا من أهوى ومن أهوى أنا
نحن روحان حلّلنا بدنا
نحن مَن كنا على عهد الهوى
نضرب الأمثال في النّاس بنا
فإذا أبصرْتني أبصرته
وإذا أبصرته قلت: أنا
كما في قوله:
مزجتَ روحك في روحي
كما تمزج الخمرة بالماء الزلال
فإذا مسّك شيء مسّني
فإذا أنت أنا في كل حال
وقوله أيضا:
قد تحققتك في سري فخاطبك لساني
فاجتمعنا لِمعان وافترقنا لِمعان
إن تكن غيبتك التعظيم عن لحظ العيان
فلقد صيرك الوجد من الأحشاء دان
بهلول ( ؟- 190 ﮪ): إسمه هو أبو وهيب بهلول بن عمر الصيرفي الكوفي. ولد في الكوفة و عاصر فترة حكم هارون الرشيد. كان بهلول من أصحاب الاِمام الصادق. هارون الرشيد أراد من بهلول أن يتولى القضاء، إلا أنه تظاهر بالجنون تفادياً لإداء تلك المهمة (راجع كتاب أعيان الشيعة للاَمين، الجزء الثالث، صفحة 617 623). كان بهلول فيلسوفاً و عالماً و شاعراً. توفي في سنة 190 ﮪ و تمّ دفنه في بغداد.
كان منظر بهلول بملابسه الرثة وحركاته، تلفت إنتباه الأطفال، فيسخرون منه و يصيحون وراءه و يرمونه بالحجارة، إلا أنّ إساءات الأطفال له كانت لا تثير حفيظته، ولا تخرجه عن طوره، بل يقابلها بنظرة الفيلسوف الهادئ، و تثير فيه العطف والشفقة على هؤلاء الأطفال. رموه مرة بحجارة فأدموه فقال:
حسبي الله توكلتُ عليه
ونواصي الخلق طراً بيديه
ليس للهارب في مهربه
أبداً من روحهٍ إلا إليه
رُبّ رام لي بأحجار الأذى
لم أجد بداً من العطف عليه
نجد عظمة هذا الفيلسوف الذي سبق زمانه بكثير، حيث يكتشف المرء المبادئ و القيم السامية عند بهلول. سأله البعض: لِمَ لا تشكو هؤلاء الاطفال لآبائهم؟ فقال لهم: أسكتوا ايها المجانين! لعلّي إذا متُ يذكرون هذا الفرح فيقولون: رحم الله ذلك المجنون. قال له آخر: تناول الحجارة و إرمهم به كما يرمونك! قال له بهلول: يا مجنون إني إنْ فعلتُ شيئاً من هذا، رجعوا الى آبائهم، فقالوا لهم هذا المجنون بدأ يُحرّك يديه فيجب ان يغّل ويُقيّد، فلا يكفيني ما ألقاه منهم حتى أُغل وأقيّد.
كان بهلول رجلاً زاهداً و شجاعاً، نصير الفقراء و الضعفاء و يقف بوجه الجور و الظلم. يُروى بأنّ هارون الرشيد خرج الى الحج، فمرّ بالكوفة، فرأى بهلول يعدو على قصبة وخلفه صبيان، فقال الرشيد: كنتُ أشتهي ان أراه، فأدعوه من غير ترويع، فلما حضر بين يديه جرى الحوار التالي بين هارون الرشيد و بهلول:
الرشيد: يا بهلول، كنتُ إليك مشتاقاً
بهلول: لكني لم اشتق اليك
الرشيد: عظني!
بهلول: و بِم أعظك؟ هذه قصورهم وهذه قبورهم
الرشيد: زدني!
بهلول: كم أعطاه الله مالاً و جمالاً، قعف في جماله، و واسى في ماله كتب في ديوان الأبرار
الرشيد: قد أمرنا بقضاء ديونك إن كانت
بهلول: لا، إنه لا يقضي دَين بدَين، أردد الحق الى أهله، وأقضِِ دَين نفسك
الرشيد: ألك حاجة؟
بهلول: أنا وأنت عيال الله. فمحال ان يذكرك وينساني.
ثم ركب قصبته وجرى.
كما يُروى أنّ بهلول كان جالساً بين المقابر وهو يلعب بالتراب فقيل له: ماذا تصنع؟ قال: أُجالس قوماً لا يؤذونني!
من أشعاره:
يا من تمتع بالدنيا وزينتها
ولا تنام عن اللذات عيناه
شغلت نفسك فيما ليس تدركه
تقول لله ماذا حين تلقاه
يقول لهارون الرشيد :
هب أنك قد ملكت الأرض طراً
و دان لك العباد فكان ماذا
أليس غداً مصيرك جوف قبر
و يحثو عليك التراب هذا ثم هذا
يا خاطب الدنيا إلى نفسه
تنح عن خطبتها تسلم
إنّ التي تخطب غرارة
قريبة العرس إلى المأتم
يقول أيضاً:
توكّلتُ على الله
وما أرجو سوى الله
وما الرزق من الناس
بل الرزق من الله
[1]