عباس البدري
المصارع حميد عبد علي الفيلي
احد البغداديين اللطفاء الظرفاء. بعث برسالة شفهية الى “الزاوية” معاتبا بالقول: (هل شغلتكم اتفاقية “واشنطون” عن استذكار المزيد من تواريخ “بغداد” قديمها وحديثها؟) ونقول بدورنا: “اتفاقية السلام الموقعة في واشنطون بين الزعيمين الكرديين الطالباني والبارزاني،
هي ليست فقط لخير وفائدة كردستان العراق، بل لكل العراقيين. فاراقة قطرة دم واحدة في كردستان تعني اسقاط نخلة في الجنوب، مثلما تعني تحويل حفلة زفاف في بغداد الى مأتم للعزاء، لاسمح الله.
وفي وسط اجواء الارتياح التي تسود كردستان العراق الان، وحيث ينتظر الجميع هنا عودة حمامات السلام نهائيا الى سماء كردستان العراق، نقدم لاعزائنا “البغداديين” هذه اللمحات الحلوة لجانب منسي من حياة البغداديين في مطلع القرن العشرين، وحتى نهاية الخمسينات.
وهذا الجانب يتعلق ب “#الزورخانات# البغدادية”، اي حلبات المصارعة كما يصطلح عليها عالميا.
ففي كتاب للسيد “جميل الطائي” حول هذا الموضوع يقول: “ان اول شيء كان يلاحظه المرء عند دخوله لاماكن (الزورخانة)، هو بابها الصغير الضيق، ذلك الباب الذي كان لايسمح بالمرور فيه لاكثر من شخص واحد فقط، والذي يضطره لان يطاطئ رأسه وينحني قليلا ليتمكن من الدخول الى ارضها. اما الغاية من صغر بابها وطأطاة الرأس هذه، فهي للدلالة على احترام ارضها وطهر تربتها، ولتذكر الانسان دوما بأنه مهما اوتي من قوة فائقة يجب عليه ان لا يصاب بالغرور او الغطرسة او التعالي على الاخرين”.
نعم وهكذا هي اخلاقيات البغداديين وكل العراقيين الشرفاء حيث كانت “جفرة المصارعة”، وهي الجفرة التي يجري فيها النزال، مكانا نموذجيا لممارسة هذه الاخلاقيات العالية السامية.
ومن الزورخانات المشهورة آنذاك في بغداد “زورخانة قمبر علي” و الدهانة” و”جامع المصلوب” و”العوينة” و”خان الدجاج” و”صبابيغ الآل”.
ومن ابرز المصارعين في تلك الفترة الحاج غني صوان، وجميل ابو النيكل، وعباس الصندقچي، ومهدي زنو، ومجيد لولو، وموسى ابن ابو طبرة، والحاج حسن كورد، ومجيد كسل، وحميد عبد علي اللملقب ب “حميد ليوه”، والمصارعون الثلاثة الاواخر هؤلاء من الكورد الفيلية.
لقد كان (موسى ابن ابو طبرة) معروفا بشهامته ونجدته للمستضعفين، مثلما كان مشهورا بقوته البدنية الخارقة. ويقول المؤلف عن الوجبات الغذائية التي كان يتناولها المصارع ابن ابو طبرة (كان يقوم بمزج عدد كبير من البيض مع كميات كبيرة من الحليب ويضعها في سطلة ويقوم بضربها دفعة واحدة!).
اما الحاج “حسن كورد” فقد ابتكر مسكة في المصارعة سميت ب (الدراو الكردي)، وكانت مسكة صعبة تقتضي القوة البدنية والفن ورباطة الجاش، مما جعلها من المسكات الصعبة في المصارعة التي لا يقوى الامصارعون معدودون على اتقانها.
ويورد المؤلف السيد جميل الطائي في كتابه اسماء اشهر المسكات في المصارعة ومنها: “ الكلنك چكن”، اي مسكة النمر، و”الدراو”، و”الخاك”، و”الكنده”، و”الارنج”، و”كفتر بند”، “بخاو”، و”اللكنه”! اما “خه لاوي الكوردي” فقد لاحق مصارعا هنديا الى البصرة وحتى منطقة الميناء، حيث انزله من الباخرة بكلمات طيبة داعيا اياه الى المنازلة!
وامام دهشة الحاضرين واستغرابهم، خلع المصارعان ثيابهما، وخاضا مصارعة لم تدم سوى فترة قصيرة حيث تمكن “خه لاوي الكوردي” من التغلب على منافسه بسهولة وعاد البطل الى محلة “سراج الدين” في بغداد منتصرا!
يقول المؤلف ان اول نزال تغلب فيه المصارع (عباس الديك)، كان مع المصارع الهندي (حسين غلام).
وفي عام 1921 زار كربلاء، ودخل الى “زورخانة الجميكاه”، حيث نازل المصارع البارز “آغا صدري”. كما نازل المصارع الشهير (صادق پلو فروش) والمصارع الالماني “الهر كرايمر”!
ويتطرق المؤلف الى جوانب من حياة المصارع العراقي الفيلي “مجيد كسل” قائلا: لقد نازل العديد من المصارعين العراقيين والاجانب. وقد تغلب على المصارع المصري عثمان في منازلة اقيمت في “زورخانة بني سعيد” ببغداد، وتغلب على المصارع التركي المدعو “محمد”. كما شارك الكردي الفيلي العراقي “مجيد كسل” في نزالات المصارعة التي كانت تقام لمنفعة شهداء الشرطة العراقيين ولانقاذ فلسطين، والتي غالبا ما كان يحضرها “الوصي عبد الاله” وكبار رجالات الدولة!
وقد حدث “مجيد كسل” مؤلف الكتاب قائلا: نازلت في يوم من الايام احد المصارعين الهنود. وبالرغم من كسره اصبعي، الا انني تغلبت عليه! ولكني ما ان عدت الى البيت حتى شعرت بشلل في يدي، وما كان من والدي الا واخذ يوبخني قائلا “لك والله فد يوم ايكتلوك! يوميه متصارع ويه واحد، يوميه كاسر جتف واحد!”.
لطالما تصور الكثيرون، وما يزالون، بان المصارعة عملية تقتصر على استعراض المسكات الفنية واتقانها، او ان المصارع رجل قوي البنية ليس الا!
ولكن المصارعين العراقيين، ومنهم المصارعون البغداديون، عرضوا نماذج مشرفة للبطولة والشهامة ونجدة الناس المعرضين للخطر، وذلك في العصر الذهبي للمصارعة.
ويسجل مؤلف كتاب “الزورخانات البغدادية”، السيد جميل الطائي في كتابه المصور القيم، نماذج كثيرة من تلك الصور والمشاهد التي تعكس الاخلاقية السامية للمصارع العراقي، سواء في ميدان المصارعة، (الجفرة) او في حياته الخاصة.
ويورد المؤلف حكايات بالغة الروعة والاهمية من حياة المصارع البغدادي الحاج “محمد ابن اسطه بريسم” المولود في محلة الفضل ببغداد 1854 والمتوفى عام 1948 للميلاد. لقد نازل الحاج محمد العديد من المصارعين العراقيين والاجانب ومنهم ايرانيون وانكليز وهنود، ومنهم المصارع الهندي المدعو اشرف حيث نازله الحاج محمد وتغلب عليه، لا بقوته وحسب، بل وبفنونه وجرأته.
لقد دام النزال بينه وبين المصارع “محمد الخياط” اربع سنوات دون نتيجة!
فقد كانا يتنازلان كل يوم جمعة، وفي النهاية اعلنا الهدنة بينهما، واقسما على ان لا ينازل احدهما الاخر!
وفي يوم من الايام سقط ثور في بالوعة ضيقة بمحلة الفضل، وكان الحاج (محمد ابن اسطه بريسم) يزاول تدريباته في الزورخانة القريبة من مكان الحادث.
وبين شخير الثور المسكين وصيحات الناس غادر الحاج محمد الزورخانة وهرع الى نجدة الثور واخراجه من البالوعة سالما بين هتافات الحاضرين ودعاء صاحب الثور!
ان الكورد العراقيين، ومنهم الكورد الفيلية، يغمرهم الفرح، ويسعدهم في اجواء السلام التي تخيم على مرافق الحياة في كردستان العراق الان، ان يستذكروا من وسطهم ابطالا لمعوا في ميادين المصارعة العراقية منذ زمن بعيد.
ومن ابطال الكورد الفيلية في المصارعة في حقبة الثلاثينات المصارع “حميد عبد علي”. زاول تدريباته في زورخانة محلة “بني سعيد” ببغداد والتي كان يشرف عليها آنذاك المصارع “نايل الصباغ” ثم ارتاد زورخانة “الدهانة” التي كان يشرف عليها الحاج “عباس الديك” وزورخانة “العوينة” التي يشرف عليها الحاج “حسن كورد”.
تغلب على العديد من المصارعين، ومنهم الايراني “آغا بلوري” وعندما جاء الى العراق المصارع الياباني “بوت رونوس”، طلب المصارع حميد تحديه في نزال يقام بينهما، الا ان المصارع الياباني تراجع عن ذلك!
وفي مدينة كربلاء، تغلب المصارع حميد عبد علي على المصارع الايراني دشتي ، كما تغلب ايضا على المصارع “يعكوب النجفي” في زورخانة “خرمشهر”.
لقد اسس المصارع حميد عددا من الزورخانات على حسابه الخاص، ومنها زورخانة في الكويت، كذلك في البصرة، وقد اشرف على تدريب عشرات الشباب الرياضيين على فن المصارعة.
يقول المؤلف: شارك المصارع حميد عبد علي في العديد من المهرجانات الخيرية وشارك في تهيئة ناد للمصارعة قرب القوة الجوية يعود للاستاذين “اكرم فهمي” و”حفظي عزيز”.
وفي ايام الصيف كان يقيم “جفرا للزورخانة” على شواطئ دجلة، منها تلك التي اقامتها خلف المحكمة الشرعية بشارع النهر.
ترك المصارعة عام 1952 بعد ان امضى فيها عشرين سنة تقريبا، وكان يلقب بين اقرانه ب “حميد ليوه”، وذلك لاندفاعه وعصبيته البالغة!
ولم تكن المصارعة ايام زمان تقتصر على النزالات الفنية، والالتزام الفائق والملزم بالتعليمات والاعراف والمبادئ المعروفة بهذا الصدد.
بل كانت العروض الفنية والنزالات في “الجفرة” تعكس وتحتوي جانبا اخر لاعلاقة مباشرة له بالمصارعة، بل بالمصارعين انفسهم.
لقد كانت تلك العروض والنزالات مناسبة مشهودة وطيبة لتجمع العرب والكورد والتركمان في مكان واحد، وتحت شعار واحد: “المصارعة النظيفة، مصفاة للقلوب!”.
وبهذا الخصوص يورد السيد “جميل الطائي” في كتابه الزورخانات البغدادية تعليقات كتابية مدعمة بالصور الفوتوغرافية الرائعة.
ففي احد الاحتفالات القديمة، هناك صورة تمثل المصارع “صادق الصندوق” وهو يقوم بتمزيق (صينية نحاسية) الى قطعتين، ويشاهد خلفه في الصورة مجموعة من المع المصارعين العرب والكورد والتركمان، ومنهم: (الحاج ظاهر مسعود، ورضا عنجر، وحسين القندرچي، وتوفيق الكركولي، ومهدي زنو، وحميد عبد علي، ومحمد حسين البصراوي، ومجيد كسل، وصبري الجنابي).
ان البغداديين الذين عايشوا حقبة الاربعينات والخمسينات، يتذكرون اسما رياضيا كان يرن في اوساط المصارعة والسباحة والدراجات والجمناستك. وهذا الاسم هو “عوسي الاعظمي”.
يقول المؤلف في كتابه “الزورخانات البغدادية”: (ولد المصارع جاسم محمد طه) والملقب ب “عوسي الاعظمي” في محلة الشيوخ بالاعظمية عام 1917.
تدرب تحت اشراف البطلين “الحاج عباس الديك” و”الحاج حسن كورد” في زورخانة “الدهانة”.
تغلب على العديد من المصارعين، وهو اول من اقام لعبة “السكيتنك” في الاعظمية، ابتداء من دار (رشيد عالي الكيلاني) لغاية نادي الاعظمية الرياضي. افتتح له مكتبة رياضية مقابل مقهى “حجازي”، وكان يراسل ابطال العالم مثل “ساندو” و”مكفادن” و”ليدرمان”.
ان من الحقائق التاريخية الجديرة بالتدوين مجددا، بعض الاحداث وصانعيها واروميتهم القومية، ومنها احداث تعود الى عشرينات القرن الراهن، كان صانعوها من الكورد الفيلية ايضا. هؤلاء اجتاحت مساكنهم واماكن عملهم حملات التهجير والتسفير والمصادرة والاستيلاء الظالم على ممتلكاتهم المنقولة وغير المنقولة!.
فالاحتفالات التي كانت تقام برعاية الملك فيصل الاول، ويقدم لهم الهدايا الثمينة كان يشارك فيها ابطال المصارعة العراقية امثال “مهدي الزنو” والحاج “عباس الديك” والحاج “نصيف” وغيرهم.
اما حكام تلك النزالات فكانوا كلا من “الحاج محمد ابن اسطه بريسم” و”الحاج حسن كورد” و”الحاج غني محمود القره غولي”!
وهناك صورة نادرة بين دفتي كتاب “الزورخانات البغدادية” تضم لفيفا بارزا من ابطال المصارعة العراقيين وهم علي دبو، محمد جعفر سلماسي، الحاج عباس الديك، خلف يونس، صبري الخطاط، الحاج محمد بريسم، السيد ابراهيم ابو يوسف، الحاج حسن كورد، جميل ابو النيكل، اسماعيل الخياط، الحاج حسن نصيف، نايل الصباغ، محمد علي شحم، الحاج مهدي الصفار، المرشد مهدي قچو، هادي البياتي، اسماعيل ترك، صادق الصندوق، ورضا اسماعيل.
لا نعرف الكثير عن اوضاع الوسط الرياضي في العراق الآن، ولكن معلوماتنا لاتقتصر على كرة القدم والسلة والالعاب الاولمبية المنوعة الاخرى.
فالمصارعة بمعناها القديم والمألوف لم يعد لها وجود الآن في العراق، فيما هناك، وعلى ما يبدو انحسار ملحوظ في النشاطات الرياضية الكبرى، سيما وان الحصار الدولي لم يسقط من قائمة محظوراته حتى الالعاب الرياضية. انه في كتابه “الزورخانات البغدادية” يتطرق السيد (جميل الطائي) جانب طريف من تاريخ الزورخانات وفعاليتها، فيقول: “... اما (الجرص) الكبير المعلق امام المرشد بواسطة سلسلة حديدية من الاعلى، فالغرض من وجوده هو القيام بالضرب عليه عند دخول احد اسطوات الزورخانة او احد ابطالها الكبار، حيث يقوم بقرع “الجرص” تحية لقدومه مع الترحيب به بصوت عال، وفي الوقت نفسه يطلب من الحاضرين التهليل بالصلوات.
حدثني الاستاذ “قهرمان” الابن الاكبر للحاج “حسن كورد”، مدرب ابطال العراق في المصارعة في تلك الفترة قائلا: (حينما كان والدي يدخل الى مكان الزورخانة، كان مرشدها، السيد “مهدي قجو” ينادي باعلى صوته قائلا: ياهله بأبو قهرمان! رحم الله والديكم، الكاعدين فوك واللي جوه، جروا صلوات على النبي! اللهم صلي على محمد... وآل محمد.
ومن الطقوس الخاصة بالزورخانات البغدادية، الخضوع التام من قبل المصارعين للتعليمات، والتعامل مع “ارض الجفرة”، باعتبارها مكانا مقدسا اشبه ما يكون بالمعبد الديني! وبهذا الخصوص يقدم لنا المؤلف وصفا بديعا ودقيقا لما كان يحدث في الزورخانات البغدادية آنذاك.
يقول السيد جميل الطائي: (كان لايجوز للمصارعين مزاولة تمارينهم الرياضية وهم غير مغتسلين من “الجنابة”. وكان المرشدون ينادون من فوق منابرهم بين الحين والآخر، وبصوت عال قائلين: “لعنت بر تارك الصلاة لعنت بر جنبات!”.
وهناك طرائف ونوادر رياضية وشخصية كثيرة رافقت ولاحقت المصارع والرياضي المعروف “صادق الصندوق”. لقد تعرفت شخصيا على المصارع المذكور في الستينات، وبالضبط اثناء حوادث اضراب البنزين في عهد الجنرال الراحل عبد الكريم قاسم.
فقد القي القبض علي اثناء تلك الحوادث، واودعت في معتقل الامن العامة بمنطقة “القصر الابيض” ببغداد. واثناء وجودي في المعتقل، جئ بالمصارع (صادق الصندوق) واودع في الزنزانة التي كنت فيها مع جمع كثير من المعتقلين كانت التهمة الموجهة الى المصارع (صادق الصندوق)، هي اتصاله بضابط باكستاني وللعلم فان المصارع (صادق الصندوق) هو نفسه من اصل باكستاني، ولم يكن ينكر ذلك.
واثناء تواجدنا في الزنزانة كان المصارع المذكور يقوم بالعاب رياضية خارقة وحيل سحرية، كنا نستحسنها كثيرا وتدخل التسلية الى وجودنا الاعتقالي المرير!
اما مؤلف الكتاب السيد “جميل الطائي” فهو يقول: كانت هواية صادق الصندوق قبل مزاولته المصارعة هي الملاواة بالايدي وتمزيق (الصواني النحاسية) بيديه المجردتين. وفي فترة اخرى كان يعرض بعض الحركات البهلوانية على المارة في احياء وازقة بغداد، ومنها قيامه بوضع رأسه على الحائط ومن ثم تقديمه مكأفاة نقدية لمن يستطيع من اولئك المارة ان يقوم بابعاد رأسه عن الحائط!
وفي يوم من الايام صادف مرور الحاج “حسن كورد” ومشاهدته هذا المنظر، وتحدث معه واتخذه تلميذا له في زورخانة “الدهانة”.
وبذلك احتضن الحاج المرحوم “حسن كورد” ورعى بطلا اصبح له اسم وشهرة في ميادين المصارعة العراقية. لقد مضت تلك الايام..، ولكن ذكر ابطالها ما زال باقيا صفحة مشرقة من تاريخ بغداد والعراق.[1]