د.#فَرست مرعي#
لقد ثار جدل كبير بين الباحثين والكتاب حول التسمية الحقيقية للدين الذي بشر به (زرادشت)، هل هو الدين المجوسي، كما ذكرته الآية القرآنية: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالمجوس وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}([1])، والحديث النبوي الذي رواه (أبو داود) في سننه: حدثنا موسى بن إسمعيل حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم قال حدثني بِمِنىً عن أبيه عن ابن عمر عن النبي (صلى الله عليه وسلم): ((القدرية مجوس هذه الأمة))([2])، أو عبدة النار والشمس - كما ورد
في الإنجيل (= العهد الجديد)، وغيره من المصادر والكتابات النصرانية، لا سيما وأن رجال الدين النصارى تعرضوا إلى حملة دموية شرسة لتغيير معتقدهم النصراني والسجود للشمس- أو (المزديسنية) كما يحلو للكتاب الإيرانيين تسميتهم، أو (الزرادشتية) وفق كتابات المستشرقين الأوروبيين والباحثين الكورد.
وعلى أية حال سنحاول بقدر الإمكان الخروج من هذه الإشكالية؛ التي في حقيقة الأمر تخص التسمية أو الشكل وليس المضمون، فمضمون الديانة المجوسية، أو المزديسنية، أو الزرادشتية، واحد لا غير، وهو: الإيمان بقوتين أو إلهين. واختلف الباحثون في هذا المضمون في اعتبار هذه الديانة ديانة توحيد، أو شبه توحيد، أو ثنوية تؤمن بإلهين اثنين (= آهورا مزدا، وآهريمن)، ويحاول (البارسيون) (= الزرادشتيون الجدد) المتواجدون في مدينة (بومباي)، في (الهند)، اعتبار أنفسهم من الموحدين، رغم أن النصوص المبثوثة في (الآفستا) لا تؤيدهم في هذا المجال. ومهما يكن من أمر فإن المسلمين الفاتحين، عندما فتحوا الهضبة الإيرانية، سنّوا بهم سنة أهل الكتاب.
(المجوس) معرّب كلمة (ماكوسيا) (Magucia) البهلويّة، وهي في الفارسيّة القديمة، لغة الأخمينيّين: (مكوش) (Magush)، وفي اللغة الآفستائيّة: (ماكاو) (Magaw)، وتُعرف اليوم في الفارسيّة الحديثة باسم (مغ)، (Magh) وهي مادة اشتقاق (مغان)، و(مغ) لقبٌ كان يُلقّب به رجال الدين القديم في الهضبة الإيرانيّة قبل ظهور زرادشت، وقد تسرّب الكثير من عقائدهم إلى الزرادشتيّة، كتقديس العناصر الأربعة (النار، التراب، الماء، الهواء)، وقد اشتهروا بالسحر والإتيان بغرائب الأمور، وهذه الشهرة هي السبب في أنّ كلمة (مغ) اقترنت في اليونانيّة بالسحر والشعوذة، ومنها أتت (Magic) و(Magicien) في اللغات الأوربيّة الحيّة([3]).
وقد عُرف أتباع هذا الدين، في المصادر النصرانيّة، باسم: عبدة النار، أو عبدة الشمس، وجاء ذكرهم في المصادر الإسلامية، وتحديداً القرآن الكريم، باسم (المجوس): {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالمجوس وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}([4]).
و(المغان) أو (المجوس) في الأصل قبيلة ميديّة، أو طبقة خاصّة من الميديّين([5])، وكان لهم امتياز الرئاسة الروحيّة في الدين المزديسني أو المزديّ، الذي سبق الدين الزرادشتي، وعندما تغلّبت الزرادشتيّة، أو بالأحرى أصبحت الدين الرسمي في الدولة الفارسيّة الساسانيّة، في عهد الملك أردشير الأول (224-241)، أصبح (المغان) السادة الروحانيون للدين الجديد. وقد استمر (المغان) أو (المجوس) يحسبون أنفسهم طبقة من الناس نشأت من قبيلة واحدة هي (ماكنا الميديّة)، جُبلوا على خدمة آلهة كذا، وهذا ما حدا بالمستشرق الدانمركي (آرثر كريستنسن) إلى مقارنتهم بالسادة عند (الشيعة)([6]). وقد وردت كلمة (مغ) في (الآفستا)، وهذه الجملة: وما استقاها مغان از مجوس هي جملة من جمل (الآفستا)، في الجزء الذي يطلق عليه (أليسنا)([7]).
عقائد الآريّين قبل ظهور (زرادشت):
إنّ عقائد الطوائف الآريّة القديمة كانت مبنيّة على نوعٍ من العبادة الثنويّة، مشركةً معها البعض من مظاهر الخلق، كالماء والتراب والنار والرعد والبرق والصواعق، وبعض الحيوانات الضارية الكاسرة. وعبادة هذه المظاهر كان للظنّ بجذب عطفها وخيرها، وعبادة مظاهر أخرى ضارة، كي تكون في مأمنٍ من شرّها، وكانت هذه المجموعات الآريّة تزعم أنّ لهذه العوامل روحاً وإدراكاً وشعوراً وإحساساً.
وعلى أيّة حال، فهذه المظاهر التي كانت تُعبد بظنّ الانتفاع بها في هذا العهد، كانت على نوعين: عوامل نافعة، وعوامل ضارة ظاهراً؛ وبذلك يظهر أنّها كانت منذ البدء تقول بنوعٍ من الثنويّة في الآلهة، وتعبد إلهين([8]).
ظهور (زرادشت):
(زرادشت) يُذكر بأنّه المؤسس الحقيقي للدين الإيراني القديم؛ فشخصيّته وتعاليمه قد صبغت هذا الدين بصبغة قويّة ميّزته عن أيّ دينٍ آري، لكنّ بعض العلماء أظهر شكّاً في وجود هذا الرجل، وذكروا أنّ كلّ ما ذكر عنه يدخل تحت باب الخرافات والأساطير. ولكنّ الأبحاث الحديثة أثبتت أنّ (زرادشت) شخصيّة تاريخيّة، وأنّه حكيمٌ من أكبر الحكماء الذين ظهروا في الشرق القديم. فقد ذهب الكتّاب القدماء من اليونان واللاتين إلى أنّه ظهر عام 6000ق.م، بينما ذكر آخرون أنّه ظهر في بداية الألف الأول قبل الميلاد. أمّا الروايات الزرادشتيّة والكتابات البهلويّة فتقول بظهوره بين القرنين السابع والسادس قبل الميلاد.. وقد اختلف الباحثون المحدثون في صدق هذا التاريخ، وتوصّل أحدهم وهو الإنكليزي (ويست (West إلى القول إنّ (زرادشت) عاش من عام 660 إلى 583 ق.م.
وأيَد هذا الرأي كلٌّ من العالم الفرنسي (دارمستيتر Darmesteter)، والأمريكي (جاكسون (Jachson، وخلاصة هذا الرأي أنّ أمر (زرادشت) قد ذاع وازدهر في النصف الثاني من القرن السابع قبل الميلاد، أي في عصر الدولة الميديّة، قبل ظهور الدولة الأخمينيّة الفارسيّة، وإنّ توقيت ولادته ووفاته يختلف من مرجعٍ إلى آخر([9]).
أمّا أتباع (زرادشت)، الذين يُطلق عليهم في الهند اسم (البارسيين)، فيرون أنّ ولادة (زرادشت) كانت في اليوم التاسع من آذار، أو شهر (مرداد ماه)، (خورداد هورتات) في (الآفستا)، وهو الشهر الخامس في التقويم الزرادشتي من سنة 628ق.م، الذي يوافق اليوم الثلاثين من شهر أيار (مايو) حسب التقويم الميلادي، وإن كانت مصادر أخرى ذكرت ولادته في سنة 589ق.م([10]).
مسقط رأسه:
لم يخلتف المؤرخون، المقرّون بوجود (زرادشت)، في مكان مولده، كما اختلفوا في زمانه؛ فقد ذكر (الطبري)، وعنه نقل (ابن الأثير) رواية أنّ (زرادشت) من أهل الكتاب ( اليهود)، ومن (فلسطين)، كان يخدم بعض تلامذة النبي (إرميا). ولكنّ الأبحاث الحديثة أثبتت بطلان هذه الرواية، وغيرها من أقاويل أهل الكتاب.. والرأي المتفق عليه أنّ (زرادشت) ميديّ الأصل، ولد بمقاطعة (أتروباتين Atropatene) (= أذربيجان الحاليّة – الغربيّة في (إيران)، إحدى مقاطعات ميديا، على مقربة من (بحيرة أورمية([11])Urmie)، التي تسميها بعض المصادر ب (بحيرة المجوس).
ول(زرادشت) تسميات عديدة حسب اللغات الآفستيّة والفارسيّة القديمة، والبهلوية الوسطى؛ فهو زردشت، زرادشت، زرتشت، زرتشتر، زرتشترا، زرادهشت، زردهشت، زرتوشترا، زردشتر، زرين شتر، زرين هوش([12]).. وهو ابن بورشَب، من أسرة سَبتيمان في (أذربيجان)، في بلدة قريبة من مدينة أورمية - أرومية، وقد سمّيت في العهد البهلوي باسم (رضائيّة)، تيمّناً باسم شاه إيران (رضا بهلوي)، وينتمي والد (زرادشت) إلى إقليم أذربيجان، وتحديداً من مدينة(الري)، بناءً على ما ذكره (الشهرستاني)([13]).
غير أن بعض الباحثين البارسيين (= الزرادشتيين) يعدون منطقة شرق إيران مسقط رأسه، فيذكر (مهرداد مهرين) أن (زرادشت) ولد في مكان يقع شرق إيران، بالقرب من (ونجهرتي دارتيا) في منطقة بلخ (= مقاطعة باكتريا، في المصادر اليونانية)، وإنه ذهب في سن الثلاثين إلى (جبل سَبَلان)، الواقع غرب بحر قزوين، والمطلّ على بحيرة أورمية من الشمال الغربي، وهناك عاش في عزلة حتى حصل في النهاية على الجوهر الذي يبحث عنه([14]).
أمّا كتاب (زرادشت) الديني، فيُعرف باسم (آفستا- آوستاAvesta)، و(آفستا) مجموعة مؤلفة من خمسة أجزاء مستقلة، أو خمسة كتب، اختلف في تاريخ تدوينها، وأقدم قسمٍ منها يرجع إلى عصر (زرادشت) نفسه. وهو يشتمل على أقواله وتعاليمه، التي جمعها من بعده تلاميذه وأتباعه الأوّلون، ودوّنوها، ثم أضاف إليها رجال الدين (المجوس) القدامى من الأحكام والتقاليد الدينية، وهكذا استكمل بالتدريج أقسامه الخمسة، وظهر بشكل كتاب ديني موحّد، كان ولا يزال معوّل القوم في عبادتهم وأحكام دينهم([15]).
وتذكر المصادر الإسلامية أنّ (الآفستا) دوّنت في عهد الملك (كشتاسب) (=ويشتاسب، في المصادر اليونانيّة (Hystasp)، على جلد اثنتي عشر ألف بقرة، وبنسختين، احتفظ الملك بنسخة منها، وأرسل الأخرى إلى مدينة (برسيبوليس) (= اصطخر) عاصمة الإمبراطوريّة الأخمينيّة الفارسيّة.
وعندما قضى (الإسكندر المقدوني) على الإمبراطوريّة الأخمينيّة سنة330ق.م، وأحرق العاصمة (برسيبوليس)، في نشوة فرح أثناء شربه الخمر مع جنوده، التهمت النيران أجزاءً كبيرة من (الآفستا)، ولم يسلم منها إلا الربع أو الثلث([16]).
وفي عهد الدولة البرثيّة الإشكانيّة (= ملوك الطوائف في المصادر الإسلامية)، أمر الملك (ولغاش الأول) (51-78م) بجمع كلّ أجزاء الآفستا المتفرقة، المكتوبة منها أو الباقية في صدور رجال الدين (المجوس) عن طريق التواتر، فأعيد كتابتها باللغة البهلويّة (= الفارسيّة الوسطى).
وبعد مجيء الساسانيّين إلى الحكم، أمر مؤسس الدولة (أردشير الأول)، سنة (224-241م)، بجعل الزرادشتيّة الدين الرسمي للدولة الساسانيّة، وأمر أحد كبار رجال الدين، وهو الهربدان هربد([17]) (تنسر) بجمع النصوص المبعثرة من الآفستا البرثيّة، وكتابتها باللغة الساسانيّة (= البهلويّة الساسانيّة)، فقام (تنسر) بعمله، وبعد أن أتمّه عرض النص على بقية كبار رجال الدين من (الهربدان) و(الموبذان) في الدولة الساسانية، وإثر موافقتهم عليه، أجيز من قبل الملك أردشير الاول([18]).
وعندما جاء إبنه الملك (سابور الأول) (241-272م)، أمر بشرح نصوص الآفستا، وزيادة نصوص أخرى عليها، لم تكن تتعلق بالدين فقط، بل كانت تبحث في علوم الطب والنجوم والميتافيزيقيا (= الغيب)، والتي كانت بحوزة بلاد الهند واليونان وغيرها من البلدان، وقد سمّيت تلك الشروح وما زيد على الآفستا البرثيّة باسم (زند آفستا)، أي: (شرح آفستا)، ووضع الملك نسخة من (الآفستا) و(الزند) في معبد نار (آذر كُشَناسب)، الواقع في مدينة (شيز) (جنوب بحيرة أورمية).
ولكن ظهر الخلاف فيما بعد بين بعض رجال الدين الزرادشتي حول تلك الزيادات، وبعض النصوص الأخرى، فأمر الملك (شابور الثاني) (309-379م) بعقد (مجمع - مؤتمر ديني) لوضع حد للخلافات بين رجال الدين، برئاسة الموبان موبد (آذر بد مهر سبندان)، الذي حدد نهائياً نص (الآفستا)، وقسّمها إلى واحد وعشرين نسكاً (سفراً- قسماً)، على عدد كلمات الصلاة (المقدسة) (يتا آهرو ئيريو)، ولإثبات قداسة هذا النص أدى الموبدان موبد(آذر بو مهر) الابتهال بالنار، بصبّ المعدن المذاب على صدره، على طريقة (زرادشت)([19]).
تعاليم الزرادشتيّة:
أهم خصائص دين (زرادشت)، من خلال ما ذكر في كتابه، هي: التثنية، أي الاعتقاد بوجود قوتين تسيطران على هذا العالم: قوة الخير وقوة الشر، أو إله الخير، والشيطان. وقد نادى بعض أعلام الباحثين، في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، بأنّ دين زرادشت دين توحيدٍ ناقص، وأوّل من قال بذلك المستشرق الألماني (هاوج Haug)، الذي يؤكد بأنّ دراسة الكاثات (= الأناشيد)، وهي الجزء الوحيد من الآفستا الذي يمكن أن يُنسب إلى زرادشت؛ تقنعنا بأنّ زرادشت لم يجعل الشيطان ندّاً لله،كما يُفهم من النصوص المتأخرة من الآفستا.
وكما تعلم (هاوج) من (الكاثات)، فإنّ الله واحدٌ لا شريك له في إيمان (زرادشت)، وأنّ (سبنتامنيو) SpentMainyu (الروح الطيب)، وأنكرامينيو AnkraMainyu (الشيطان)، ليسا إلا (صفتين) مزعومتين من صفات الله، يخلق بها الأضداد من خيرٍ وشرٍ، ونورٍ وظلام، وصحةٍ ومرض، ونصرةٍ وذبول، وما إلى ذلك. وقد تحمّس (البارسيّون المحدثون)، وهم أتباع زرادشت المقيمين بغرب الهند في الوقت الحاضر، وتحديداً في مدينة (بومباي)، تحمّس هؤلاء لهذه النظرية، وعملوا على ترويجها؛ منادين بأنّ دينهم دين توحيد.. واتخذوا من هذه الدعوى سلاحاً يواجهون به نشاط المنصّرين النصارى، الذي كانوا يصفون الدين الزرادشتي بأنّه دين شرك يدعو إلى الاعتقاد بوجود إلهين.
على أنّ هذه النظريّة لم تلاق قبولاً من جميع الباحثين، الذين يرى القسم الأكبر منهم أنّ التثنية هي أهم خصائص دين زرادشت؛ فالمعلوم من تعاليمهم أنّ العالم منقسم إلى قسمين كبيرين بينها هوّة واسعة، وعلى جانبي هذه الهوة تقوم مملكة النور ومملكة الظلام، أي عالم الخير وعالم الشر، والله هو في ذلك النور اللانهائي، كما يظنّون، وهو نور السموات والأرض، وفي الظلام اللانهائي يقيم الشيطان([20]).
وفي هذا الصدد يقول المستشرق البريطاني (كيريشمان)، المتخصص في معرفة إيران:
إنّ دين زرادشت لم يكن مبنيّاً على أساس التوحيد، إلا أنّه في العهد الساساني تقبّل التوحيد تأثراً بنفوذ الأديان الكبرى كالمسيحيّة([21]). فهل آمن (زرادشت) بالله إلهاً واحداً، وأنّ من خلفه، أو حرّف أو غلا في دينه، كانوا وراء تعظيم الشر، والتخويف منه، لحدّ جعله إلهاً، وجعل شريكٍ لله (ملكاً)، سمّوه قوةَ خير، أو الشيطان؟ ذلك ما يراه أحد الكتاّب، الذي يرى أنّ الزرادشتيّة اختلط فيها الحق بالباطل.
ويرى بعضهم أنّ الفصل في هذا الأمر حول توحيديّة إيمان (زرادشت)، أو ثنويّته، يكون بالعلم بما كان يراه من قوله في الخالق، الذي سمّاه (آهورا مزدا)، هل هو خَلَقَ الشيطان، الذي سمّاه (الأهريمان)؟ أم إنّه يقول بأنّ الشيطان لم يُخلق؟ وأنه كان يرى -كما يُقصّ عنه- أنّ (آهورا مزدا)، أو (سبنت ميئينو)، أعظم من أن يخلق الشر؛ وأنّ أساس الإيمان بإلهٍ واحدٍ لا يثبت على هذا الأسلوب من التفكير، سواءً كان آهورا مزدا خلق أهريمن، أو لم يخلق؟!.. فإذا ثبت أنّه ذهب إلى القول الأول، فقد تم المطلوب، وثبت أنّ دين زرادشت دين توحيدي.. ومع ذلك يبقى الشكّ يحوم على ما اختلط بهذا الدين من تحريف وزيادة. لكنّ بعض الآثار، ومنها (الكاثات) (=الأناشيد الواردة في الآفستا) يُعلم منها: أنّ الشرّ كان يشغل بال (زرادشت) كثيراً، تماماً كسائر القدماء الآخرين، وأنّه كان يقول: إنّ هذا العالم ليس على وفق التقدير المعقول الذي يقتضي أن يكون عليه؛ لوجود الشر فيه، سواءً كان آهورا مزدا خلق أهريمن (الشيطان)، أو لم يخلقه..([22])؟!.ويتساءل ذلك البعص عن (أنكرامي نيوش) أو الشيطان، ما دوره؟ هل يخلق شيئاً، كما ذكر في (الآفستا)؟ أو أنّه يعملً بإرادة الله، الذي يسمّى (آهورا مزدا)؟ فإن زعم أنّه يخلق، فقد اتخذوا ل(آهورا مزدا) شريكاً في الخلق، وهذا هو الشرك بحد ذاته، وان لم يكن له خلقٌ بنفسه، فلا أثر مستقلاً له، ولا داعي أن نظنّ أنّ الله يرضى بالشر.. والحقّ أنّ الله يبلونا بالشر والخير، والزرادشتيّة قد حُرّفت، وتمييز تحريفها غير ممكن، والأفضل تحكيم القرآن والرضا بالإسلام ديناً، كما رضي به آباء هذه الشعوب. وحينذاك يتبيّن للجميع أنّ الله خلق كلّ شيء، ومنه (إبليس) الذي لم يكن قد عصى ربّه بعد، كما خلق الملائكة لتدبير أمر الخير الذي جعل لهم. فالله بيده الخير، والشر من عمل العامل، أيّاً كان. وتقديس النار، وجعلها رمزاً ومطافاً، أثرٌ من التحريف، والغلو، أو ضلال.
إنّ جذور الثنويّة تنشأ من تصور البشر أنّ الأشياء على نوعين: خيرٌ وشر، لكنّ ذلك لا يقتضي وجود مبدأين للخير وللشر. والأسماء الحسنى لا يضيرها ما نراه في الحياة من شرّ، لأنّ ذلك قد ابتلي به الإنسان. فلم يُفترض مبدأ آخر للشر، فإنكار الإنسان إمكان وجود شر في العالم - والله لا يرضى بعمل الشر - هو الذي جرّه إلى افتراض مبدأ آخر للشر، يقتضي أن يُتقى، سواء ظنّوه مخلوقاً، أو زعموه شريكاً في الملك، أو الخلق، أو ما سواه من أسماء الله.. والحق أنّ هذا الأسلوب من الفكر، الذي يحار في مسألة الخير والشر، ليس من شأن نبي ولا فيلسوف، وإنّما هو من شأن متفلسف ناقص في الفلسفة والفكر والبرهان.([23])
وعلى هذا يمكن القول أنّ دين زرادشت ليس ديناً توحيديّاً ناقصاً، كما يقول الباحث الدانماركي المتخصص في الإيرانيّات (آرثر كريستنسن)، وقد يكون فلسفة ناقصة([24])؛ إذ هو أشبه بحال متفلسف ناقص في الفلسفة([25]).
الهوامش:
[1]) سورة الحج، الآية 17.
[2]) الحديث رقم 4071.
[3]) د. محمد محمدي: الأدب الفارسي في أهم أدواره وأشهر أعلامه، طهران، 1995،ص71-72.
[4]) سورة الحج الآية 17.
[5]) الدولة الميدية : هي أول دولة آرية (= إيرانية) حكمت الهضبة الايرانية للحقبة من سنة 700ق.م ولغاية سنة 529ق.م، في رواية، وفي رواية ثانية: سنة 550ق.م، وقد أسقط هذه الدولة الملك الأخميني(كورش الثاني)، وكانت عاصمتها مدينة (همكتانا– أكبتانا – همدان الحالية)، ويعتقد بأن (زرادشت) قد عاش في أثناء حكم هذه الدولة.
[6]) آرثر كريستنسن: إيران في عهد الساسانيّين، ترجمة يحيى الخشّاب، بيروت، دار النهضة العربيّة، ص45.
[7]) أليسنا، 44- قطعة11، 125. انظر: أدوارد براون: تاريخ الأدب في إيران، ترجمة: أحمد كمال الدين حلمي، مطبوعات جامعة الكويت.
[8]) مرتضى مطهّري: إيران والإسلام، ص76.
[9]) حامد عبدالقادر: زرادشت الحكيم نبي قدامى الإيرانيّين، مكتبة نهضة مصر، ص 75-77.
[10]) علي أصغر حكمت: نه كفتار در تأريخ أديان، أي: تسع مقالات في تأريخ الأديان،شيراز، 1339ﮪ 1960م،ج1 ص63
[11]) حامد عبدالقادر: المرجع نفسه، ص29؛ ويرى أنّ (زرادشت) ولد في مدينة (شيز)، حسب المصادر العربيّة، و(كنجك) حسب المصادر الأرمنيّة، و(كات سكا Gatsaka)، حسب المصادر اليونانيّة، الواقعة على مسافة 25كم جنوب بحيرة أورمية، و 70 كيلو متر جنوب شرق مدينة (مياندوآب). انظر: دكتر محمد جواد شكور: نظري به تأريخ أذربايجان، ص105.
[12]) رحيم أشنوئي محمود زاده: معاني بعض أز أسامي كهن إيراني در زبان كردي، تهران، جاب أول، 1383ﮪ.ش، ص261.
[13]) الشهرستاني: الملل والنحل، دار الكتب العامة، بيروت، الطبعة الأولى، 1990،ص265.
[14]) فلسفة الشرق: ترجمة محمود علاوي، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، الطبعة الأولى 2003، ص195؛ ومدينة بلخ تقع حالياً في أفغانستان.
[15]) د. محمد مهدي: الأدب الفارسي في أهم أدواره، ص72؛ ومما تجدر الإشارة إليه أنّ عمليّة زيادة النصوص على الآفستا قد تمت في العهد القديم على مراحل شتى، شأنها في ذلك شأن الكتاب المقدس عند اليهود والنصارى على حد سواء.
[16]) طه باقر وزملاؤه: تاريخ إيران القديم، جامعة بغداد، 1979، ص 182-183.
[17]) هذه الدرجة تعد الأعلى في سلم النظام الكهنوتي الزرادشتي، على غرار النظام البابوي عند النصارى.
[18]) فارس عثمان: زرادشت والديانة الزرادشتيّة، دار آية، بيروت،2002-2003، ص68.
[19]) فارس عثمان: المرجع السابق، ص 68-69.
[20]) د. محمد عبدالسلام كفافي: في أدب الفرس وحضارتهم، دار النهضة العربية، بيروت 1971، ص198-199.
[21]) إيران أز أغاز تا إسلام.. إيران إلى الغزو الإسلامي، ص 264، والمعلوم أنّ الدين الذي بشّر به المسيح عليه السلام كان قد داخله الشرك والتثليث، عدا ما آمن به الآريسيّون، أتباع آريوس.
[22]) انظر: مرتضى مطهري: الإسلام وإيران.. عطاء وإسهام، دار الحق، بيروت، 1993م -1414خ، ص176.
[23]) المرجع نفسه، ص176-177.
[24]) إيران في عهد الساسانيّين، ص50.
[25]) مرتضى مطهّري: المرجع السابق، ص177- 178.[1]