الفيليون، جرح امة
طارق كاريزي
يوم كانت الاسرة منفية ومبعدة الى مدينة الكوت مركز محافظة واسط جنوب شرق العاصمة بغداد، لمست بشكل ميداني معاناة الكورد من ابناء المنطقة، “وأهل الكوت خليط من الاعراب والاعاجم.” (انظر: العراق قديما وحديثا، السيد عبدالرزاق الحسني، الطبعة الخامسة، بيروت، ص 199). والاعاجم بحسب تعبير الحسني شيخ المؤرخين العراقيين، هم الكورد من اهل المدينة الذين كانوا يشكلون اكثر من ثلث سكانها قبل حملات القمع والتهجير القسري التي مارستها السلطات العراقية ضدهم، بدءا من مطلع سبعينيات القرن الماضي وانتهاء بأواسط الثمانينيات.
العرب من سكان مدينة الكوت كانوا يسمون الكورد المبعدون من محافظات كوردستان العراق الى مدينتهم ب(الشمالية) بناء على قدومهم من محافظات الشمال، فيما كانوا يسمون الكورد من اهل المدينة ب(الكورد). أي ان بموجب التعريف الشعبي لسكان مدينة الكوت (وهنا الكلام عن نصف قرن قبل الآن) ان الكورد هم جزء من السكان الاصليون للمدينة، أما عشرات الاسر الكوردية المبعدة من محافظات كوردستان الى المدينة آنذاك، فهم طارئون على سكانها قادمون من الشمال. وهذا خطأ كان شائعا بين العامة لم يتصدى، ربما من باب الرهبة والقمع، لتصحيحه أي شخص، وقد تم قبول هذا الاشكال المعرفي دون نقاش، والحقيقة الجلية ان الشماليون والكورد من سكان الكوت، كلاهما جزء من الامة الكوردية وهما من ارومة واحدة.
القصد من الرجع السردي هذا، هو الوصول الى مفتاح الحديث عن احد الشرائح المهمة من الامة الكوردية، الفيليون الذين يتحدثون باللهجة الكوردية الفيلية وهي احدى لهجات مجموعة اللهجات الكوردية الجنوبية التي تمتد جغرافية المتحدثين بها في العراق بدءا من خانقين باتجاه الجنوب وصولا الى المناطق الحدودية مع ايران بين العمارة والبصرة. هذه الشريحة هي جزء من احد بطون الكورد الاربع (الكرمانج، الكوران، الكلهر واللر)، والفيليون ينحدرون من الاخيرة. وقد دفعوا باهضا ثمن انتمائهم القومي حيث مارست السلطات العراقية منذ بداية عقد السبعينيات من القرن الماضي وصولا الى عام 1984 سياسة قمع رهيبة ضدهم، وذلك عبر استهدافهم من خلال تنفيذ سياسة عنصرية قررت التشكيك بمواطنتهم ومن ثم السعي لقلع جذورهم بشكل نهائي ومارست حملات قمع رهيبة ترجمت من خلال تهجير (650) الف اسرة كوردية قسرا الى ايران واعتقال (22) الف شاب كوردي من الناطقين باللهجة الفيلية مازال مصيرهم منذ 42 عاما مجهولا.
الكورد العراقيون (الناطقون باللهجة الفيلية) الذين هجرتهم الحكومة قسرا من العراق الى ايران بحجة كونهم من التبعية الايرانية، عاملتهم ايران كأجانب غير ايرانيين، والموقف الايراني هو الاقرب الى الحقيقة لأن هؤلاء المسفّرين (المهجرين قسرا) من العراق عاشوا منذ تأسيس الدولة العراقية وقبل ذلك أبا عن جد في جغرافية العراق الحالي، وهم جزء من نسيج الكورد العراقيين وبالنتيجة هم جزء من المجتمع العراقي، وجاء التعامل الرسمي من جانب الدولة العراقية معهم من منطلق عنصري يعتبر الكورد أينما كانوا في العراق تهديد للأمن القومي العربي العراقي.
ومن الواجب توضيح الحقيقة كما هي، ان الدولة العراقية تشكلت من جزء من الوطن العربي مضافا اليه جزء من الوطن الكوردي (كوردستان)، وسكان الوطن الكوردي (كوردستان- العراق) على اختلاف انتماءاتهم الاثنية بالنتيجة اصبحوا عراقيين بالواقع ومن حيث التبعية القانونية، وهذا يصح على سكان كوردستان تركيا (شمال كوردستان) وسكان كوردستان سوريا (غربي كوردستان) من حيث حق اكتساب هوية هذين البلدين بحكم الواقع، فبعد تداعي الدولة العثمانية والغاء الخلافة نهاية الربع الاول من القرن العشرين، تشكلت هويات قانونية جديدة في الشرق الاوسط رسم حدودها السياسية الاستعمارين البريطاني والفرنسي اللذان كانا يتحكمان بجغرافية المنطقة.
مظالم النظام العراقي السابق، الذي انتهى بسقوط الجمهورية الاولى، ضد العراقيين عموما وضد الكورد خصوصا كبيرة ورهيبة، رغم التغييرات الايجابية التي تلت سقوطه (2003)، الا ان الكورد لم يتم انصافهم من قبل الجمهورية الثانية حتى الآن، ولم يتم تعويض الملايين منهم، بدءا من ذوي ضحايا الفيليين (اكثر من نصف مليون اسرة مهجرة و22 الف شاب مغيّب)، وحلبجة (المدينة التي ضربت بالسلاح الكيمياوي الذي خلف 5 آلاف ضحية و10 آلاف اصابة علاوة على تدمير المدينة بالكامل)، والانفال (حوالي 200 الف ضحية كان مآلهم المقابر الجماعية وتدمير حوالي 5 آلاف قرية مع عشرات المدن والبلدات الكوردستانية)، والبارزانيون (8 آلاف مغيّب علاوة على تدمير بلدة بارزان 18 عشرة مرّة وحرق جميع قرى المنطقة لمرّات عديدة وتهجير سكانها)، وكل هذا ليس كامل ضحايا الكورد العراقيين في ظل الجمهورية الاولى.
السلطات العراقية الحالية تواصل معاقبة الكورد بمختلف الوسائل عوضا عن تعويضهم وضمان عدم تعرضهم لحملات القمع والقتل والابادة. نسمع وفي أحيان كثيرة اصوات وعيد وتهديد يطلقها البعض من المسؤولين العراقيين الحاليين ومن منطلقات شوفينية ومصالح جهوية ضيقة لا ترى للكورد حق العيش بحرية ورفاه، وبذلك تبددت احلام الكورد التي رسموها ضمن سياق سقوط النظام الدكتاتوري وتباشير بناء النظام الجديد الذي تبنى الديمقراطية وعجز عن تنفيذه.
[1]