بيار روباري
في إطار هذه الدراسة التاريخية الموجزة، سوف نتناول تاريخ وهوية مدينة “گر براك”، التي تقع في مثلث #الخابور#، والتي تعد واحدة من بين أهم المدن الخورية – #الميتانية# في منطقة الجزيره الكردية. ولا شك أنها واحدة من الحواضر الخورية القديمة، في منطقة الجزيره العليا وتقع فوق مدينة الهسكه الكردية بحوالي (40) كيلومتر على نهر الخابور، وتقع تقريبآ في منتصف الطريق بين مدينة الهسكه وقامشلو التي تقع إلى الشمال منها. وفي دراستنا عن مدينة “الهسكه” الكردية، شرحنا وبشكل تفصيلي معنى إسم “نهري الخابور وجقجق” وإسم “الجزيره”، وبإمكان كل واحد العودة إليها، لمن لم يقرأ تلك الدراسة.
إن الأسباب التي تدفعنا إلى تناول هوية وتاريخ هذه المدينة الخورية – الميتانية – الكردية، وغيرها من مدننا الأثرية والتاريخية والكتابة عنها هي عديدة منها:
1- إبراز تاريخها الحقيقي عبر الوثائق التاريخية والإكتشافات الأثرية، وثبيت هويتها القومية الخورية – #السومرية# – الإيلامية – الكاشية – الميتانية – اليهيتية – الميدية – الكردية.
2- تعريف أبناء الشعب الكردي بتاريخ مدنهم الأثرية وأسلافهم، وما أنجزوه من تقدم في جميع مجالات الحياة، والحضارة التي بنوها في تلك العصور السحيقة.
3- قطع الطريق على سراق التاريخ من العربان والتتر (الأتراك) والفرس وغيرهم من اللصوص، الذين إحتلوا أرضنا، والأن يحاولون سرقة ذاكرتنا (تاريخنا) أيضآ.
4- أهمية هذه المدينة من الناحية التاريخية، والدور السياسي والإجتماعي والعسكري والإجتماعي والثقافي الذي لعبته في تلك الحقبة الزمنية أي قبل الميلاد بألاف السنين.
5- تفنيد أكاذيب الكتاب والسياسيين العرب، الذين يدعون أن مدينة “گر براك” الأثرية، مدينة عربية وهذا عاري عن الصحة بشكل تام، وسنثبت ذلك بالوثائق في معرض هذه الدراسة.
6- فتح المجال أمام الكتاب والمؤرخين الكرد من جيل الشباب والشابات، من خلال وضع هذه الدراسة التاريخية الأولى من نوعها. ولا شك أن هذه الدراسة ستكون بمثابة اللبنة الأولى على هذا الطريق.
7- إبراز أهمية هذه المدينة من جميع النواحي، كونها واحدة من المدن الكردية الفراتية القديمة في هذه المنطقة، وعلاقتها بالمدن الخورية المجاورة لها مثل مدينة: “درزور، رقه، هسكه، .. “. وأخيرآ فضح أولئك الدجالين، الذين يسوقون الأكاذيب ويزورون التاريخ ويدعون أن المدينة عربية. وسوف نتناول في هذه الدراسة المحاور الرئيسية التالية:
1- مقدمة.
2- جغرافية مدينة گر- براك.
3- أثار مدينة گر- براك.
4- تاريخ مدينة گر- براك.
5- معتقدات سكان مدينة گر- براك الأصليين.
6- أصل تسمية مدينة گر- براك ومعناها.
7- الوجود الكردي في مدينة گر- براك والمنطقة المحيطة بها.
8- الحياة الإقتصادية في مدينة گر- براك.
9- الخلاصة.
10- المصادر والمراجع.
أولآ، مقدمة:
للتاريخ أهمية كبرى في حياتنا كبشر أفرادآ أكنا أو جماعات، فمن لا تاريخ له فلا ذاكرة له. فالتاريخ هي ذاكرتنا جميعآ، ومن هذه الذاكرة نستمد العبر والدروس ونخطط للمستقبل، لأنها تكونت عبر التجارب والسنين الطويلة التي عاشها أسلاف الكرد، وفي حالة الشعب الكردي للتاريخ أهمية مضاعفة. فمن جهة يمثل ذاكرته ومن الجهة وجوده مرتبط بهذا التاريخ. لأن أعداء الشعب الكردي سعوا على مدى مئات الأعوام ولا يزالون محو وجوده جسديآ وتاريخيآ، أي إزالته من الذاكرة بشكل كامل، ولهذا رأينا المحتلين (العرب، التتر، الفرس) ينكرون وجود الشعب الكردي، ومن هنا هجمتهم الشرسة على تاريخه وتاريخ أسلافه، وسرقة تاريخهم القديم والحديث على حدٍ سواء.
من هنا يجب الحفاظ على هذا التاريخ، وقطع الطريق على لصوص التاريخ من العرب، التتر (الترك) والفرس من سرقة هذا التاريخ، لأن التاريخ هو الحافز الذي يدفع لإنسان للتطور والتقدم وتحقيق مزيد من الإنجازات وعلى جميع الأصعدة. ولهذا على الكرد الإهتمام بكتابة تاريخهم وقرأته وإستيعابه وإستخلاص الدروس من ذاك التاريخ الثري والمليئ بالإنجازات العلمية المختلفة والحضارية، والثقافية، والإنتقال من جديد إلى إنتاج الثقافة والإبداع العلمي والحضاري، بدلآ من حالة الإستهلال التي يعشها الكرد في الوقت الراهن.
فما هو التاريخ، ونحن نتحدث عن التاريخ وبصدد كتابة دراسة تاريخية عن مدينة أثرية؟؟
التاريخ علم مستقل كباقي العلوم، ويستند على حقائق علمية ثابتة من خلال الأدلة المادية المكتشفة في الأماكن الأثري مثل مدينة “گر براك”، حيث إكتشفت اللقى، نصوص طينية، أفران، تماثيل، معابد، … إلخ، التي تركتها الأجيال السابقة أي الأسلاف في هذا المكان وهي دلائل عن طرق حياتهم وطقوس عباداتهم، طرق الزراعة، الأمراض التي تعرضوا له، الحروب التي خاضوها، كيف إنتهت حضاراتهم. وعلم التاريخ يقوم بتأصيل كل ذلك، والأحداث الهامة التي مرت على الأرض والبشر، والأحداث التي تسبب بها الإنسان نفسه، وهو ما يُعرف بالتاريخ البشري أو التاريخ الإنساني. والتاريخ، يُعطينا تصوراً دقيقاً وواضحاً عن العالم القديم، والتجارب التي مرَّ بها الإنسان، صائبة أو عكس ذلك.
وبالتالي دراسة تاريخ ماضينا سواء ككرد أو أي شعب أخر، هو محاولة للإستفادة من دروس تاريخ أسلافنا بإيجابياته وسلبياته، في عملية التخطيط للمستقبل، وعندما نعرف كيف قامت الحضارات السابقة وما هي العوامل التي أدت إلى إزدهارها وتطور نهضتها، والأسباب التي أدت إلى دمارها وزوالها، فإننا دون شك نختصر الكثير من الجهد والوقت، ويمكننا تفادي الأخطاء التي هم إرتكبوها، ونمضي قُدماً نحو المستقبل بخطآ ثابتة وواثقة.
هذا إلى جانب يمنحنا دراسة التاريخ، فهم أفضل لعمل الإنسان في السابق وعملية التطور الوعي البشري عبر ألاف السنين، وكيف وصلنا إلى هذه المرحلة من التطور، وكيف حققت البشرية هذه الحضارة العظيمة التي نعيشها اليوم، والتكاليف التي دفعها ألاف الأجيال قبلنا إلى أن وصلنا إلى ما نحن عليه اليوم، من علم ومعرفة، فن وأدب ووعي، وإنجازات علمية هائلة وتنكنالوجية عملاقة بكل معنى للكلمة. ودراسة هذا التاريخ بحلوه ومره يجعل الإنسان على تواصل مع أجداده وجذوره القومية والثقافية، ونحن إمتداد طبيعي لهم سواء كان ذلك لغويآ أو ثقافيآ، فنيآ، قيميآ وروحيآ.
علم التاريخ يمكن أن يُنصف الأمم، إذا كان القائمين عليه أناسٌ محايدين، ويمكن أن يحفظ تراث الأمم والشعوب المختلفة ومنهم تاريخ أسلاف الشعب الكردي: “الخوريين، الإيلاميين، السومريين، الهكسوس، الكاشيين، الميتانيين، الهيتيين، الميديين، الساسانيين”، وتراث العديد من الأمم والشعوب حفظت بفضل جهود علماء الأثار والباحثين الجادين، وتمكننا من الإطلاع عليه ومنهم تراث أسلاف الشعب الكردي صاحب أقدم حضارة في تاريخ الإنسانية، والتي إنطلقت من مدينة “گوزانه وهموكاران” التي تقعان في منطقة الجزيره العليا، ومنهما إنتقلت إلى جنوب الرافدين، أي بلاد إيلام وسومر والكاش، وإلى مدينة:
“ألالاخ، مبوگ، الباب، گرگاميش، أرپاد، شمأل، پاتين، دلبين، دارازه، هلچ، دمشق، قطنه، أوگاريت، هتوسا” في الغرب والشمال.
وإلى جانب كل ذلك فإن التاريخ يطلعنا أيضآ، على تطورالعلوم، الفلسفة، الأدب الشعبي الملحمي والأدب الروحي، أساليب التجارة، إكتشاف المعادن، تطور أساليب الزراعة، وأساليب القتال وشكل الحروب، وتطور صناعة الأسلحة، وطرق معالجة الأمراض والأوبئة، وسن القوانين وغير ذلك من الإمور مثل تنظيم الأسرة. من هنا تشاهدون معي مدى أهمية دراسة التاريخي الإنساني من بداياته وإلى يومنا هذا، وفهمه والحفاظ عليه للأجيال القادمة، كما قلت في الأول فالتاريخ ذاكرتنا وشعب بلا ذاكرة لا مستقبل له.
ثانيآ، جغرافية مدينة گر- براك:
تقع مدينة “گر براك” إلى الشمال من نهري “جقجق وخابور” وتحديدآ عند رأس المثلث الذي يشكله هذين النهرين، وعلى مسافة نحو (40) أربعين كيلومترآ فوق مدينة الهسكه. وتفصل المدينة عن الضفة الغربية لنهر “جقجق” مسافة (4) كم، ونفس هذه المسافة تفصلها عن نقطة التقاء النهرين عند وادي الرد الواقع إلى الجنوب من المدينة. إن هذا الموقع المميز للمدينة الذي يقط بين مجرى نهرين، والذي يحيطه الأودية والسهول وذلك جنوب المثلث الخابوري- الجقجقي، منح المدينة أهمية خاصة تميزها عن بقية المدن الخورية في المنطقى. إن موقع مدينة “گر براك” الجغرافي أعطاها أهمية خاصة سواءً في الزمن الماضي البعيد أوفي الزمن الحاضر، وذلك لأسباب رئيسية عدة منها:
1- إطلالتها على نقطة إلتقاء النهرين “جقجق والخابور” الكرديين.
2- الأراضي الزراعية الخصبة التي يتمتع بها منطقتها، بفضل فيضانات النهرين الموسمية، وتوفر المياه العذبة بكثرة.
3- تحكم المدينة بالملاحة النهرية وخاصة في نهر جقجق.
4- تأمين النهرين نوع من الحماية للمدينة، كحاجزين طبيعيين يحيطان بها من ثلاثة جهات (الشرق، الغرب والجنوب).
5- إطلالة المدينة على وادي (رد) والمعبر الواقع على نهر جقجق.
6- توفر الثروة السمكية لأهل المدينة.
7- تحكم المدينة بممر “بارا” الذي يقع بين جبل شنگال وگربه، الذي كان يربط بين حوض الخابور وسهول وادي الرافدين الشمالية.
8- وقوع الموقع على الطرق التجارية، بين شمال غرب كردستان مثل مدينة (ماردين وآمد) حيث مناجم النحاس، وجنوب بلاد الرافدين (سومر وإيلام).
لهذه الأسباب وغيرها إختار الخوريين أسلاف الشعب الكردي هذا الموقع المميز للغاية، والإستراتيجي في نفس الوقت والصالح للعيش والسكن، بفضل توفر عناصر المياه العذبة والأرض الصالحة للزراعة. ولم يكن إختيارهم لهذا الموقع صدفة، وإنما جاء عن معرفة حقيقة وجيدة بجغرافية منطقة حوض نهري الخابور وجقجق، نبعي الحياة لسكان المنطقة منذ الأظل وليومنا هذا.
وتعد مدينة “گر براك” واحدة من كبريات المدن الأثرية الخورية في حوض نهر الخابور في منطقة الجزيره العليا، وقد إجتذبت إهتمام الآثاريين بسبب حجمها الكبير، والسبب الثاني كونها عاصمة الإقليم لفترة زمنية طويلة، خلال العصور القديمة السابقة. وتكونت لدى علماء الأثار قناعة أن التنقيب في هذا الموقع يمكن أن يوفر لهم، أدلة على تطورات سياسية وإقتصادية مهمة حدثت قبل الميلاد بألاف السنين. التلة التي تتربع عليها المدينة شكلها شبه بيضوي، وتبلغ أبعادها نحو 800 متر من الشرق إلى الغرب، و600 متر من الشمال إلى الجنوب، وتبلغ مساحتها الإجمالية حوالي (43) هكتاراً من الأرض، ولكن هذه المساحة يمكن أن تصل مع إمتدادات الموقع إلى نحو (100) هكتار. والجزء الأكثر إرتفاعاً من التلة هو الطرف الشمالي منها، ويبرز فيه مرتفعان أعلاهما في الشمال الغربي، حيث توجد أعلى نقطة فيها وتبلغ إرتفاعها حوالي (43) متراً فوق مستوى السهل المحيط بالمدينة. أما المرتفع الشمالي الشرقي، فيبلغ إرتفاعه نحو (35) متر. وإلى الجنوب من هذين المرتفعين ينبسط سطح التلة على إرتفاع يتراوح ما بين (10 – 20) متراً.
إتصفت بيئة مدينة “گر براك” الأثرية بالتنوع والغنى، حيث إلى جانب تعدد مصادر المياه فيها، وتوفر تربة خصبة صالحة للزراعة، كان هناك إلى الجنوب الغربي منها، حقل من الصخور البركانية، شكله البركان الخامد منذ القديم جبل “كوكب”. ويمتد هذا الحقل إلى مقربة من نهر الخابور في الغرب وحتى أطراف المدينة. وإستطاع العلماء تحديد آثار لخشب الدردار، والبلوط من الصنف الأحمر، إضافة لخشب الدلب والحور. ووجد خشب صنوبر من النوع الصلب في بيوت متأخرة في المنطقة. ولكن لم يستطع العلماء من معرفة أي من الأشجار المذكورة كانت تنمو في هذه المنطقة بالضبط، لكن المؤكد فإن البلوط والدلب كانتا ينمويان في المنطقة، وإستمرا وجودهما حتى العصور الحديثة. ومن بين البقايا العظمية التي عثر عليها العلماء في مدينة “گر براك”، هو عظام أسود وخنازير وحيوانات من فصيلة الكلبيات ورباعيات الأرجل، فضلاً عن أصناف الماعز والأبقار، وإلى جانب ذلك وجود كميات كبيرة من حبوب الشعير والقمح.
وتبلغ مساحة مدينة “گر براك” اليوم، حوالي (116) كم2، ويتبعها نحو (252) قرية ومزرعة مثل قرى: بئرالحلو، وأم حجرة، قورديس، بونجغ، قولو، أم الروس، تل الفرس، خرب السرت، نصتل، العطشانة، رجم الفنوش، سميحا، …. إلخ. ويبلغ عدد سكانها حوالي (50.000) خمسين ألف نسمة.
ثالثآ، أثار مدينة گر- براك:
بحسب تقديرات علماء الأثار الذين نقبوا في موقع مدينة “گر براك”، ودرسوا أثارها، قدروا عُمر المدينة بحوالي (5000) بخمسة ألاف عام قبل الميلاد وأكثر. وأول من نقب في الموقع كان العالم البريطاني “ماكس مالوان” بين أعوام (1937-1938). ويعتبر هذا الموقع من المواقع الضخمة في غرب وشمال كردستان وتحديدآ في حوض الخابور بمنطقة الجزيره الكردية. حيث أبعاد المدينة تبلغ (1000 × 850) أي نحو (850.000) متر مربع، وترتفع نحو (45) متر عن السهول المجاورة لها، ويحيط بها العديد من الخرب التي يعود تاريخها إلى (4000) أربعة ألاف عام قبل الميلاد.
يعود إكتشاف مدينة “گر براك” إلى عشرينات القرن الماضي، أثر مسح جوي لكامل المنطقة ونتيجة هذا المسح إكتشف العالم “بوادبار” تلة ضخمة وإعتقد بداية أنه عثر على حصن روماني، ولم يخطر بباله أنه عثر على كنز أثري ذو قيمة تاريخية بالغ الأهمية. بعد ذلك قام بفحص التلة، من خلال حفر مجس في جزئها الشمالي، وأثناء الحفر عثر على فخار يعود إلى (1000) ألف عام قبل الميلاد. وهنا إكتشف أنه إعتقاده الأول كان خاطئآ، وأن التلة هي مدينة أثرية تعود لألاف السنين قبل الميلاد.
التنقيب الفعلي بدأ في الموقع في ربيع عام (1937) عندما شرعت البعثة الأثرية البريطانية – من معهد
الأثار البريطاني في العراق، التنقيب في الموقع لموسمين متتاليين، وقاد البعثة العالم البريطاني “ماكس مالوان”، وتوقف عمل البعثة في الموقع بسبب نشوب الحرب العالمية الثانية. ظل العمل متوقفآ في موقع مدينة “گر براك”، حتى عام (1975) ميلادي، حينما أجريت فيه أعمال مسح أثري، أجراه عالم آثار والأكاديمي البريطاني “ديفد أوتس (1927- 2004) بالتعاون مع عالم الآثار السوري (قاسم طوير، 1936-2021)، وعلى أثر ذلك إتخذ قرار باستئناف التنقيب في الموقع.
أحد الأسباب التي رجحت إتخاذ هذا القرار، هو عدم وجود سكنى رئيسية في التلة بعد (2000) الألف الثاني قبل الميلاد، مما سهل عملية الوصول إلى طبقات السكنى الرئيسية من (4000-3000) الألفين الرابع والثالث قبل الميلاد، وهذا أمر نادر الحدوث في المدن الخورية الميتانية ذوات الطبقات المتعددة، ويعتقد السبب في ذلك هو التراكم الكثيف لطبقات السكنى المتأخرة فيها، وتحديدآ من (2000) الألف الثاني قبل الميلاد فصاعداً.
وعلى أثر ذلك المسح الأثري الذي قام به السيدين (ديفد أوتس وقاسم طوير) أستؤنفت عمليات التنقيب في الموقع في ربيع عام (1976) وقاد ذلك “ديفيد أوتس” حتى عام (1993). في المرحلة التالية تولى العالم “روجر ماثيوز” إدارة البعثة الأثرية البريطانية خلال أعوام (1994-1996)، قبل أن تنتقل إدارة العمل التنقيبي إلى السيد “جيوفري إيمبيرلنغ” خلال المواسم اللاحقة.
يعود تاريخ أقدم الطبقات السكنية التي تم الوصول إليها في قطاعي التنقيب (ت – و) و(ج – ها) تعود للعبيد وذلك في الفترة الممتدة بين الأعوام (4400 – 4200)، لكن هذا لا يعني عدم وجود طبقات أقدم من ذلك. لأن التنقيبات لم تشمل كل مساحة مدينة “گر براك”، فأدنى الطبقات في القطاع (ت – و)، التي تقع في وسط القسم الشمالي من التلة، تقع على ارتفاع (15) متر فوق مستوى السهل المحيط بالمدينة، وهذا دليل على تراكم طبقي من عصور أقدم لم تستكشف لحد الأن. وإتضح من التنقيبات في القطاع (ج – ها) في وسط القسم الجنوبي من التلة، أن الطبقات التي هي أقدم من دور العبيد، يبلغ إرتفاعها نحو (12) متر فوق مستوى سطح السهل المحيط بالمدينة.
كما وإكتشف العلماء في الموقع عدداً كبيراً من الكسر التي تعود إلى فترة مدينة “گوزانا” مهد الخوريين اسلاف الشعب الكردي التي يطلق عليها زورآ (تل حلف)، فضلاً عن فخار العبيد. والتنقيبات اللاحقة كشفت عن قطع فخارية من دور العبيد متميزة عن الطراز الخاص بجنوب وادي الرافدين أي حضارة السومريين والإيلاميين الكرديتين. كما عثر في الركام المتأخر على كسرة من فوهة إناء فخاري يعتقد أنها من دور حسونة. وهذا ما يرجح وجود سكنى تعود إلى الألفين السادس والخامس قبل الميلاد.
كما عثر العلماء على الكثير من الأثار المتنوعة في الموقع مثل: اللقى الأثرية، القصور، المعابد، التماثيل وأشياء كثيرة أخرى، تعود إلى فترات تاريخية مختلفة، وكما عثر العلماء في الموقع على رقم مسمارية تحتوي على معلومات مهمة عن عملية تدوين قرارات رسمية بحضور ملكين ميتانيين أبرزهم: الملك الميتاني “توشرات” المعروف بعلاقاته مع فراعنة مصر (امنفس واخناتون). وفي ساحة الإحتفالات عثر على تمثال لثور جاثم له رأس إنسان، وبينت الرقم المسمارية أن هذا التمثال كان رمزاً تعبيرياً للمتعبد في ساحة الإله “شمش”، الذي خصص له هذا المعبد في القرن الثالث عشر قبل الميلاد.
لقد غزا الآشوريون الهمج هذه المدينة الخورية – الميتانية مرتين ودمروها، والمكتشفات الأثرية دلت أن الموقع السكني الثاني تمركز في السهل المنبسط إلى الشرق من التلة الرئيسية مع بعض البيوت على قمة التلة. ووجود تمثال بازلتي ضخم لثور برأس إنسان، له دليل على قيام بناء ضخم إستخدم لأغراض عامة خلال القرنين التاسع والعاشر قبل الميلاد.
وأكدت الإكتشافات أن أقدم إستيطان في الموقع يعود إلى الألف الخامس قبل الميلاد أي المرحلة الخورية لأنهم هم بناة المدينة القديمة بمعنى الطبقة الأولى، أما أكبر مساحة إستيطان فتعود إلى الألف الرابع قبل الميلاد أي عصر مدينة “أوروك” السومرية، حيث وصلت مساحة المدينة إلى (100) هكتار، وإكتشف قرب البوابة الشمالية للموقع بيوت من عصر مدينة “أوروك” السومرية المتأخر، وهذا أمر طبيعي لأن السومرين هم خوريين في الأصل وإنتقلوا من شمال غرب كردستان وتحديدآ من منطقة الجزيره الفراتية الكردية نحو الجنوب وشكلوا ثلاثة حضارات هي: حضارة إيلام، سومر وكاش. وخلال دارستي لتاريخ وأثار العديد من المدن الخورية، لاحظنا وجود تشابة كبير بين أشكال البيوت والعمران، المعابد، اللغة، الثقافة، العادات، الطقوس الدينية، … إلخ.
وتحت تلك البيوت عثر على سلسلة من السويات الأثرية أقدمها تعود إلى (3800) عام قبل الميلاد، وهي عبارة عن مبنى ضخم إستخدم لأغراض عامة، عثر فيه على فخار يحمل رموزاً رقمية، إن السويات المكتشفة يفي المنطقة المرموز لها بالحرفين (ت – و)، معاصرة لتلك الموجودة في معبد الإلهة “ناگار” ، الذي اكتشفه العالم “ماكس مالوان”، في الجانب الجنوبي من التلة وأطلق عليه تسمية معبد (العيون)، بسبب كثرة التماثيل الصغيرة ذي العيون الكبيرة، وإتضح للسيد مالون أن الإستيطان البشري لم ينقطع في المدينة لمدة (1000) ألف عام، وذلك بدأ حوالي (3500) قبل الميلاد، وقد بلغت أهمية مدينة “گر براك” قمتها في المجال السياسي حوالي (3000) الألف الثالث قبل الميلاد، في منطقة شمال غرب كردستان. كما كشفت الحفريات عن وجود بناء ضخم يحيط به جدار بيضوي في المنطقة المرموز لها بحرفي (ت – س)، وقد تعرض هذا المبنى مع مناطق أخرى من الموقع إلى حريق أدى إلى سقوطه، وربما تزامن مع تدمير المدينة في تلك الفترة. وفي العام (2335) وقعت مدينة “گر براك” تحتل سيطرة الإمبراطورية الأكادية بفعل الإحتلال والغزو الإجرامي والبربري، وجعلوا منها العاصمة الشمالية لدولتهم التوسعية.
++++++++++
ماكس ماكس مالوان:
هو عالم بريطاني عاش بين أعوام (1904 – 1978) وهو من أب نمساوي الأصل وأم فرنسية. درس في جامعة أكسفورد متخصصآ في تاريخ الشرق الأوسط القديم، وعُين في عام (1925) كمساعد عام للعالم “لليونارد وولي” في حفريات مدينة “أور” السومرية الكردية. من خلال إكتشف الشرق وعلم الآثار، وقضى خمسة أشهر في العام في هذا الموقع، وذلك حتى عام (1931). وهناك التقى المستقبلية أجاثا كريستي.
معبد الإلهة “ناگار”:
من بين الأبنية التي تم إكتشافها في مدينة “گر براك” هو معبد “ناگار” الذي أطلق عليه تجاوزآ تسمية (معبد العيون)، وهي تسمية مجازية أطلقها الباحث ماكس مالوان على المعبد، بسبب عثورهم على مئات الدمى الصغيرة المسطحة المنصوعة من حجر الكلس، حيث تبرز في كل منها العينان والرقبة والكتفان من دون سائر التفاصيل الأخرى. والأحجام التي صنعت منها هذه الدمى مختلفة، ولكن لا يزيد طول الواحدة منها على (11) سم فقط. بعض هذه الدمى يمثل شخصاً واحداً، ذكراً أو أنثى، وبعضها الأخر يمثل زوجاً أو زوجاً مع طفل، وأحياناً أربعة أشخاص معاً، أو امرأة وطفلاً. إكتشفت هذه الدمى في أسس معبد الإلهة “ناگار” الخورية، ويعتقد العلماء أن عدد الكسر التي عثروا عليها من هذه الدمى لربما كان بالآلاف. والتفسير لوجود هذه الدمى بشكل كبير، هي أنها تمثل البشر بشكل رمزي، ولهذا كانت توضع في المبنى كهدايا نذرية تمثل أصحابها. وثمة تمائم عُثر عليها هي الأخرى في ذات المعبد وفي شرفة العيون وتمثل حيوانات مثل: الضفدع، القنفذ، الدب، الأسد وغيرها من التماثيل والتمائم.
جاء إكتشف المعبد على يد العالم “ماكس ملوان” في عام (1938) أسفل الجزء الشمالي الغربي من قصر الملك الأكدي (نرام- سين/ 2209 – 2155) قبل الميلاد، وذلك في القسم الجنوبي من المدينة. ويعود تاريخ بناء المعبد إلى منتصف الألف الرابع أي (3500) قبل الميلاد، وإكتشاف هذا المعبد أوضح مدى تقدم الهندسة المعمارية في المدينة، وقد أعيد بناؤه في القرن الرابع والعشرين (2400) قبل الميلاد، من قبل الملك الأكادي “نارام سن” الذي بنا قصره على قسم كبير منه، لكن المعبد لم يلبث أن هدم إثر حريق كبير دب فيه لأسباب غير معروفة لليوم، ليعاد بناؤه في زمن سلالة (أور الثالثة) في عهد الملك “أور نامو”، وتشير الدلائل الأثرية إلى أن هذا الموقع الحضاري الهام، قد هُجر في نهاية الألف الثاني قبل الميلاد.
مذبح معبد الإلهة “ناگار” هو نموذج خوري على شكل صليب متساوي الأضلاع، إتخذه الميتانيين رمزآ وطنيآ لهم، ويرمز هذا الصليب إلى جهات الأرض الأربعة ومأخوذ عن الديانة اليزدانية، وتجده أعلى أبواب المعابد وحتى البيوت الكردية العادية، أما الأبنية الملحقة بالمعبد، فتشبه المستودعات التي تستخدم
لحفظ الكنوز والثروات، والمعبد كان بمثابة القلب الاقتصادي للمدينة، وله جدران سميكة وتضم أكثر من طابق، وهي مزينة بزخارف على شكل ورود وبألوان متعددة، وبلوحات فسيفسائية على شكل القمع
مزينة الرأس مغروسة في جدران البناء تبعاً للطريقة المستخدمة بكثرة في المدن السومرية المعاصرة له.
إكتشف في المعبد أختام مسطحة، ومجموعة من التماثيل الصغيرة، بشكل أقنعة ورؤوس صغيرة تحمل في قسمها العلوي أخاديد أفقية يمكن أن تثبت بواسطة المسامير، ولم يتم التوصل لمعرفة ما إذا كانت منفصلة عنها أم أنها توضع على رأس التمثال، وما يميز تلك التماثيل الصغيرة، بروز عيونها وشدة إتساعها، الأمر الذي قد يوحي بأن العينين الواسعتين من المميزات الجمالية لذلك العصر، وقد اكتشف في هذا المعبد وحده، على قرابة (300) تمثال صغير من هذا الطراز، مما دفع بالعالم “ماكس مالوان” يطلق على المعبد تسمية “معبد العيون”.
أبعاد معبد الإلهة “ناگار” (30×25م)، أي أن مساحته تبلغ (750) متر مربع، ويتألف المعبد من ثلاثة أجنحة مختلفة التفاصيل عن معابد الثلاثية الأجنحة التي عرفت في مدينة “أوروك” السومرية، وهذا أمر طبيعي لأن الحياة في تطور مستمر، والسومريين أدخلوا بعد التعديلات على المعابد التي بنوها في مدنهم عما أقامه أسلافهم الخوريين في شمال وغرب كردستان، وخاصة في منطقة الجزيره الكردية.
الجناح الأوسط من هذا المعبد تشغله غرفة عبادة طويلة، أبعادها (18×6م)، وعلى الجانب الغربي منها يمتد صف من الغرف وتكون الجناح الغربي من بناية المعبد، ويتم الدخول إلى هذا الجناح عبر مدخل واحد يربطه بغرفة العبادة. أما الجناح الشرقي فيتصف مخططه بنوع من التعقيد، حيث يضم غرفتين كبيرتين، إضافة لثلاثة أزواج من غرف ضيقة، رجح العلماء أنها كانت تستخدم كمخازن للمعبد. ويعد وجود هذه المخازن تعديلاً محلياً مبكراً على المخطط الثلاثي لأبنية المعابد. لم يتمكن المنقبون من تحديد موضع بوابة المعبد بسبب فقدان أجزا كبيرة من جدران المعبد، ويرجح أنها كانت في الطرف الشمالي من الضلع الشرقي، حيث يؤدي إلى إحدى الغرفتين الكبيرتين في الجناح الشرقي، ثم إلى غرفة العبادة
عبر غرفة صغيرة مقابل مدخل الجناح الغربي. وبحسب السيد “ماكس مالوان” كان للمعبد مدخلين في الضلع الشمالي لغرفة العبادة، ولكن لم يظهر دليل يؤيد صحة هذا الافتراض. ومن الملاحظ في مخطط (معبد العيون) أن أضلاعه الأربعة موضوعة على الجهات الأربع بخلاف معابد (وادي الرافدين)، التي كانت زواياها موجهة نحو الاتجاهات الأربع وليس جدرانها.
شيد معبد الإلهة “ناگار” على مصطبة بلغ إرتفاعها نحو (6) أمتار، وطولها بلغ نحو (40) مترآ بإتجاه الجنوب من بناية المعبد. وشيدت جدرانه باللبن وكسيت بملاط طيني. وكانت الجدران الداخلية لغرفة العبادة مطلية باللون الأبيض، ومزينة بمخاريط لها رؤوس على شكل أزهار “الروزيتا” من الحجر الكلسي الأحمر. فضلاً عن ذلك زينت جدران هذه الغرفة بأشرطة من الزخارف المتكونة من الحجر الجيري باللون الأحمر والصفائح المعدنية. وعند منتصف الجدار القصير الجنوبي لغرفة العبادة وجدت دكة المذبح بارتفاع ثلاث أقدام، وقد كسي الجز الأعلى من وجه المذبح الأمامي والوجهين الجانبيين بزينة فخمة، قوامها شريطان ذهبيان يحصران فيما بينهما ثلاثة حقول من حجر الكلس الجيري والمرمر الأبيض والأردواز الأخضر. كانت هذه الزينة مثبتة أصلاً على لوح خشبي بمسامير من الفضة برؤوس ذهبية تبدو واضحة في الشريطين الذهبيين، في حين أن اللوح قد إندثر. أما الأجزاء الحجرية فقد ثقبت من الخلف وثبتت على اللوح الخشبي بوساطة سلك من النحاس.
كما عثر الباحثين تحت بناية هذا المعبد عن تعاقب ثلاث بنايات أقدم، كانت كل منها تسوى وتدفن لتكون بمنزلة مصطبة للبناية الأحدث في سلسلة إعادة بناء المعبد عبر العصور المختلفة. سميت البناية الأعلى في هذه السلسلة بإسم (معبد العيون البيض)، نسبة إلى طلاء أرضياتها المكسوة بالجبس الأبيض، وتأتي تحتها بناية (معبد العيون الرمادية) نسبة إلى اللون الرمادي للبن التي شيدت به. وهذه البناية معاصرة للطبقات (14-17) الموجودة في القطاع (ت – و)، أي تعود العصر الحجري – النحاسي المتأخر الثالث. وضمت بقايا هذه البناية كمية هائلة من المواد الأثرية من بينها عدد كبير من دمى العيون ومواد نذرية
أخرى مختلفة، مثل دلايات حجرية على شكال حيوانات، وأختام مسطحة وأختام أسطوانية، ورؤوس دمى بشرية مصنوعة من المرمر، هذا إضافة إلى مئات الآلاف من الخرز. وأقدم بنايات المعبد المكتشفة كانت بناية (معبد العيون الحمر)، المشيدة بلبن طينة حمراء اللون. وتقترن هذه البناية بفخار من طراز الطاسات ذات الفوهات البارزة الحافات، إضافة إلى الكسر الفخارية المصقولة والمطلية.
أما المبنى الثاني من حيث الأهمية، الذي تم إكتشافه في مدينة “گر براك” كان القصر المبني فوق المعبد، لأن المعبد أقدم تاريخيآ بكثير من القصر الملكي. فالقصر يعود تاريخ بنائه إلى حوالي منتصف الألف الثالث (2400) قبل الميلاد. بينما المعبد اليزداني الذي يتوسط المدينة، يعود تاريخ بنائه إلى ما قبل (4000) الألف الرابع قبل الميلاد.
مبنى القصر ضخم وسماكة جدرانه تصل إلى (10) عشرة أمتار، لهذا إعتقد العلماء أنه بالأصل كان مركز عسكري أو تجاري، وهذه الجدران السميكة للغاية الهدف منها حماية ساكينها والذخائر والمواد التي كانت يضمها بين جنباته. وخاصة أن المدينة تقع على طريق التجاري بين شمال بلاد الرافدين وشمال غرب كردستان (الأناضول) في عهد الملك (نارم سن). ولم يبق منه سوى بعض الأساسات، التي جرى الاستفادة منها في إعادة تصميم البناء على شكل مربع، يصل طول ضلعه إلى (100) متر تقريباً، ويتألف من غرف طويلة مخصصة للخزن وحولها عدد من الساحات، ويتميز البناء بجدران خارجية سميكة، ويبدو أن حال القصر عند إكتشافه كان قد تعرض للسلب والنهب بعد إنهيار الدولة الأكادية، ثم أتت عليه النيران وإلتهمته، وحل محله بناء أقل متانة منه في الفترة الواقعة بين أعوام (2113-2096) قبل الميلاد.
يتبع …[1]