محمد أرسلان علي
في ظل غياب التعريفات السليمة للمصطلحات يفقد الموضوع أهميته وليتحول مع مرور الزمن لحالة من اللاشيء أو عديم الأهمية لذاته بالدرجة الأولى ولمن حوله مشكلة، ولربما تكون قضية شائكة تعاني منها مجتمعات وشعوب المشرق المتوسطي منذ أكثر من قرنٍ وحتى راهننا.
إذ، حينما يفقد الموضوع ذاته وجوانبه ومعناه، سنكون في مواجهة فقدان الهوية الذاتية بدءاً من الإنسان ومن خلاله العائلة فالمجتمع إلى أن نصل للوطن، وبالتالي سندخل مستنقع الصراعات الفكرية السفسطائية والدوغمائية وحتى البراغماتية في إثبات وتعريف الانتماء والولاء ولمن ستكون الأولوية.
العالمية أو الكونية شكلياً وخارجياً متناقضة تماماً مع النزعة الفردانية الفظة التي نحلم بها داخلياً. صراع لم يهدأ منذ القدم ولا زال مستمراً بكل عنفوانه في كل مفاصل حيواتنا. نعتقد أننا محور الكون وأن كل شيء ينبغي أن يدور ويلتف حولنا، وبنفس الوقت لا نفكر بما يحتاجه هذا الكون كي يستمر بدورانه حولنا وماذا سنقدم له، بل جلَّ تفكيرنا محصور بماذا سيقدم الكون لنا كي نبقى محوراً له. الفردانية التي نتشبث بها جعلتنا لا نفكر إلا بذواتنا الداخلية وكل ارهاصاتها وجشعها ونهمها الغريزي الذي باتت كجهنم تردد “هل من مزيد”. والفردانية لا يمكن لها الاستمرارية إلا اعتماداً على المركزية الفظة التي لا تقبل بوجود الآخر، لان الآخر والكونية تنتفي وجودها بإصرار النزعة الفردانية على وجودها على حساب الآخر. لهذا تأليه ال “أنا – الذات” على حساب الآخر لن يجر معه سوى مزيداً من الجشع والتمسك بالسلطة للتربع على عرش الأنانية المفرطة والتي لا تكون إلا على حساب المجتمع والشعب والتنوع والاختلاف، وبالتالي الوصول لمجتمع نمطي ذي لون واحد أصابه داء عمى الألوان.
ظاهرة الاغتراب عن الذات باتت صفة متلازمة لشخصيتنا ولذاتنا بعد حالات الانفصام التي ورثناها من الثقافات الدخيلة على ثقافة مجتمعاتنا الحقة. صراع الثقافات والهويات كانت ولم تزل مستمرة بأشكال مختلفة وبطرق مباشرة أو غير مباشرة، مع ثبات الأدوات في أداء أدوارها الوظيفية بحكم تربعها على عرش السلطة والتفرد به، وإيهام الآخرين بأنهم هم فقط من يدرك ويعرف ويعلم ماذا يريد المجتمع والإنسان وعليه يهندسون المجتمع وفق أمزجتهم الفردانية، لجعله صورة مستنسخة ومسخة منهم، يقلدون الفرد الفرداني الذي أحاط ذاته بهالة من القدسية الرثة.
ثقافات لا ترى ذاتها وماهيتها وكينونتها إلا بالقضاء على الثقافات الأخرى. كذلك فعل من حمل راية نشر الدين بأسمائه ورسله وأنبيائه المختلفة، وسار على نفس الدرب القومجيون واليساريون والمحافظون والدينويون والدنيويون، من يمينهم حتى يسارهم تشاركوا المنطق نفسه في جعل “كلٍ” بحد ذاته هو المحور وأما من تبقى فليسوا سوى عبارة عن شرذمة من الخوارج العملاء.
فها هي أمريكا تحاول بشتى السبل كي تبقى متربعة على هيمنة العالم كقطب وحيد ولا ينافسها أحد، فتنشر الفوضى بكل مسمياتها الخلاقة منها والهدامة، إن كان في سوريا أو العراق أو اليمن وليبيا وأوكرانيا وصولاً لتايوان، لجر روسيا والصين لحرب استنزاف تنهكهما من الداخل لعرقلتهما للمشاركة في الهيمنة القطباوية الأحادوية. وكذلك نرى تركيا وإيران وإسرائيل، كيف أن الصراع بينهما محتدم للهيمنة على المشرق المتوسطي، ليعمل كل طرف على إنهاء الآخر بأي وسيلة كانت، يراها كل طرف بأنها مشروعة في دفاعها عن ذاتها ووجودها وبسط هيمنتها الماضوية (الدينية)، بمسمياتها وتفرعاتها.
في ظِل فوضى المشاريع المطروحة في المنطقة، المشاريع الماضوية منها والحداثوية المرتبطة بالنيوليبرالية والوليدة من الثورات التكنورقمية من الجيل الرابع، والتي لا تعير للتاريخ ولا للجغرافيا ولا لثقافات المجتمعات والشعوب أي اهتمام ولا تفكر بهذه الأمور، بقدر ما تفكر في كمية الربح التي تسعى لربحه من كم الحروب التي نشرتها بأسمائها الدينية والقومجية.
فالصراع العثماني الصفوي المعاصر محتدم في المشرق المتوسطي وكل طرف يعمل جاهداً على اللعب بكافة الأوراق التي بجعبته كي يبقي مشروعه مستمراً وباقٍ ويتمدد. صراع ماضوي كان منذ قرون عدة، التقى فيه الطرفين (العثماني والصفوي)، بعد نزاع طويل على طاولة التفاوض فالاتفاق على ترسيم الحدود عام 1639 على مضض. الآن يحاول كِلا الطرفين التمدد فيما وراء تلك الحدود، وحدود الحرب الكونية الأولى والتي تم تثبيتها في الحرب الكونية الثانية على أنه لا يمكن المساس بها.
صراع ما بين أطراف ثلاث على حدود مقدسة وملعونة بنفس الوقت بالنسبة لهم. مقدسة بالنسبة للعالم العربي الذي يريد أن تبقى الحدود على ما هي عليه من دون المساس بها وخاصة بالنسبة للعراق وسوريا، ويعتبر هذا الطرف أن أي مساس بهذه الحدود هي الاقتراب من المقدسات والمحرمات، على اعتبار أن الأمن القومي العربي يبدأ من هاتين الدولتين. أما الطرف الثاني؛ إيران التي تعتبر هذه الحدود ملعونة ولا قدسية لها لأنها عملت على تقويض جغرافيا الحقبة الشيعية الممتدة من (الفاطميين مروراً بالصفويين). وعليه تحاول استرجاع ما فقدته عبر التاريخ. أما الطرف الثالث الذي يرى أنه لا قيمة لهذه الحدود وينبغي تجاوزها هي؛ تركيا التي تحاول منذ هجرتها الى منطقة المشرق المتوسطي على زمن التتار والمغول أي في أواخر المرحلة العباسية وتأسيسهم أمارة سلجوق. ترى أن هذه المنطقة وحتى الشمال الأفريقي من نصيبها، نظراً لاحتلالها هذه المنطقة وانتشارها أثناء الاحتلال العثماني لهذه المنطقة والذي استمر أربعة قرون ونيّف. وأساس الصراع ما بين هذه الأطراف الثلاث هي جغرافية #كردستان#، التي تم تقسيمها ما بين أربعة دول على مذبح اتفاقيات سيفر ولوزان وسايكس بيكو. وكان #الكرد# القربان الوحيد الذي تم تقديمه للإله الجديد الذي سمي فيما بعد “الدولة القومية”.
طرف رابع يريد أن يقحم نفسه في هذه الجغرافيا ليكون له موطئ قدم فيها. ويسعى هو أيضاً الى أن يفرض سيطرته على المشرق المتوسطي بتبنّيه لماضوي ديني موسوي واللعب على التاريخ والجغرافيا لينال حصته ووجوده في المنطقة تحت شعار “من الفرات إلى النيل”.
أربعة أطراف ارتدت عباءة الدين وقلنسوته لتفرض ما وعدهم الله به من تاريخ وجغرافيا على حساب الشعوب والمجتمعات والسكان الأصلاء لها. فلم يكن ماركس معتوهاً حينما وصف الدين بأنه “أفيون الشعوب”، حينما يتم الاستثمار به سياسياً واقتصادياً ومجتمعياً وثقافياً. حينها لا يبقى من الدين شيء سوى المصالح البعيدة عن القيم الحقيقية للدين. تشيؤ الدين وجعله سلعة، يعتبر أسوء عمل قامت به طبقة السلطة من أجل استثماره في حروبها العبثية. حينها لا يتبقى شيء اسمه قيم وأخلاق وليتحول كل شيء إلى سلعة تباع وتشترى في أرخص مواخير النخاسة. وأفظع ما تقوم به في راهننا قوى الهيمنة الرأسمالية هي تسليع وتشييء الشعوب والجغرافيا والتاريخ، كما فعلت مع الثقافة والفن.لهذا نرى أنه كل شيء تحول إلى مادة ومصالح على حساب القيم المشتركة.
الكرد، بات هذا الشعب المغلوب على أمره وكما تم وصفهم بأنهم “شعب الله المحتار”. فالكل محتار ولا يعرف كيف يتصرف معهم وكيف يتقرب منهم، ولا حتى الكرد باتوا يدركون كيف يتقربون ويتحالفون مع جيرانهم من الدول والشعوب. الكل محتار في ظِل الفوضى التي خلقتها القوى الرأسمالية المهيمنة والتي من أهم أهداف هذه الفوضى، هي أن يبقى الكل محتار في “كيف يعيش”؟
الكل يرفضهم ويعمل كل ما في وسعه للقضاء عليهم أو جعلهم ورقة بيدهم ليستثمروا بهم في مصالحهم وأجنداتهم وأطماعهم. فلا التركي يعترف بالكرد، وهم بنظره “أتراك الجبال”. ولا الفارسي يعترف بهم على أساس أنهم “فرس برابرة”. ولا حتى أشقائهم في الدين والتاريخ المشترك أي العرب، يعترفون بالكرد، وهم بنظرهم “عرب بدو”. والكل يحاول سرقة تاريخ الكرد وثقافتهم وينسبها إليه، لهدف صهر الكرد وجعلهم من دون تاريخ وثقافة ولا حتى جغرافيا. صلاح الدين الأيوبي، معظم العرب ينسبونه للعروبة، والأتراك ترَّكوه كما فعلها الفرس بتفريسه. تركيا تدعي زوراً بأن هذه الجغرافيا لها وكذلك إيران والعرب أيضا مع عدم إغفال إسرائيل. الكل عينه على كردستان. فقط الكرد ليس لهم أي شيء في هذه الجغرافيا الملعونة والمقدسة بنفس الوقت. مع العلم أن الكرد متواجدين ويعيشون على جغرافيتهم هذه قبل أن يأتي الأتراك العثمانيين والفرس والعرب.
فلا يمكن التقرب من الكرد على أساس أنه لا أصدقاء لهم تحت حجة سرقة تاريخهم وجغرافيتهم وثقافتهم. لأنه لطالما لعب الكرد دوراَ مشرفاً في كافة مراحل التاريخ وحتى الآن. ويكفيهم شرفاً أنهم الذين قضوا على داعش، في وقت هربت من أمامهم جيوش دول (سوريا والعراق)، ودعمتهم دول مثل تركيا، والتي لا زالت تقدم لهم كافة أنواع الدعم لإبقائهم أدوات وظيفية بيدها، لتنفيذ أطماعها في المنطقة.
بات الكرد اليوم أصحاب مشروع وفلسفة تعتمد العيش المشترك ما بين كافة ثقافات الشعوب على أساس فلسفة الأمة الديمقراطية للمشرق المتوسطي. فلسفة طرحها السيد أوجلان علَّه ينقذ ما تبقى من قيم المنطقة وشعوبها ومجتمعاتها. وبكل تأكيد اليوم ليسوا ورقة بيد أحد كي يلعبوا بهم كيفما شاؤوا وأينما أرادوا. بل بات الكرد اليوم أصحاب مشروع لإنقاذ المنطقة بشعوبها من الفوضى التي هم فيها. وحدهم المستبدين والظلام ولقطاء التاريخ والجغرافيا يعملون على إخضاع الكرد وجعلهم ورقة بيدهم أو أنهم “فرق عملة”. ومن حقائق المنطقة التي غابت عن المستبدين أنها، لا تعطي مكانة لأي مستبد كي يعيث فيها فساداً. الكثير منهم ظهروا وأرادوا ذلك، لكن إرادة وثقافة المنطقة قضت على أعتى الظالمين والفاسدين الذين يتقمصون الدين من أجل بلوغ أهدافهم. لم يفلح نمرود ولا فرعون بذلك. وبكل تأكيد لن يرحم التاريخ أمثال أردوغان وغيره من النظم المستبدة في المنطقة، وما أكثرهم في راهننا.
ثقافات الشعوب في منطقة المشرق المتوسطي غنية جداً من حيث النوع والكم، والتي من خلال هذا الغنى في التنوع، كانت مهداً للحضارة الإنسانية قديماً. وللخروج من هذا المستنقع الذي نعيشه لا بدّ من الرجوع إلى الذات والخروج من حالة الاغتراب التي نعيشها في ذاتنا. وكذلك وظائف ومسؤوليات جسام تقع على عاتق المثقفين في تعريف الشعوب بحقيقة الأنظمة السلطوية التي تستثمر بالدين والقومية، وأن لا شيء مقدس أكثر من الإنسان بحد ذاته. وألا يحثوا الشعوب على إتباع الأنظمة الاستبدادية تحت حجة الأمن والاستقرار. لأن الأنظمة المستبدة لا يهمها الشعوب ولا المجتمعات ولا الثقافات ولا الغنى الذي تتمتع به المنطقة، بقدر ما يهمهم بقائهم مستمرين على عرش السلطة، وليذهب عدا ذلك للجحيم.
وينبغي المعرفة أنه لا يمكن لثقافة واحدة أن تسطو على الثقافات الأخرى تحت أي مسمى كان. منطقة المشرق المتوسطي بغناها الثقافي يمكن لها أن تكون مرة أخرى مهداً للقيم الحضارية المعنوية البعيدة عن ال “أنا” الفردانية. لأن الوحدة الجيوثقافية والجيوتاريخية لمنطقتنا المشرق المتوسطي منذ آلاف السنين، كانت وستبقى معيناً ومصدراً للقيم المشتركة لكافة شعوب المنطقة.[1]