صفاء خلف
يمتلك #الكُرد# في أنحائهم التاريخية الأربعة نحو 300 ملحمة اجتماعية وسياسية تتداول شفهيًّا، بعضها يرددها المغنون الفطريون الجوالون على القوى الكُردية فتعلق بالذاكرة المحكية، غير أن كُرد المدن أنفسهم ومجاوريهم من العرب والأتراك والإيرانيين لم تصلهم سوى عدة ملاحم شهيرة مدونة ومنتجة باحتراف كواجهة للأدب القومي الذي يعاني الاندثار، وأبرزها «كاوة الحداد» و«مَمّ وزين» و«دُمْ دُمْ»؛ لارتباطها بالمشغول السياسي والمحمول العاطفي والهم القومي، فيما تضيع الملاحم المتبقية في مغاور الجبال، رهينة اللهجات العصية على الفهم، والتي تعسّر التواصل بين الكُرد ذاتهم.
$تيه اللغة$
يواجه الكُرد أكبر تحدٍّ لهويتهم الثقافية متمثلًا في «اللغة» التي تكاد تنشطر وتضيق وتنفتح، وتلملم ذاتها في مصبات لفظية مختلفة، حتى بات الكُرد شعوبًا «لغوية» رغم الدم القومي الذي يشحنهم بالعاطفة والانتماء الأبدي، فالانقسام اللغوي شكّل ديموغرافية ما يُعرف ب«#كردستان# الكبرى»؛ فاستحوذت اللهجات على الأرض والعرق، وباتت كردستان «كرمانجية شمالية» و«كرمانجية جنوبية، ويطلق عليها #السورانية#» فيما ظلت كردستان العراق حبيسة «السورانية» و«#البهدينانية#»، فتغلبت الأولى وصارت «اللغة الرسمية» في دواوين الحكومة والكتابة والنشر وحتى الصحافة. فرئيس إقليم كردستان العراق مسعود بارزاني الذي ينطق وقبيلته وأنصاره ب«البهدينانية» وجّه باعتماد «السورانية» كلهجة رسمية تفاديًا للاختلافات، وكخطوة تمهد لمشروع توحيد اللغة العسيرة ب«لهجة واحدة».
وفي الأصل فإن اللغة الكُردية المتشعبة التي التقطت خلال عمرها المضطرب تبعًا للتحولات آلاف المفردات العربية والفارسية والإنجليزية والتركية، تعدّ لغة «هندوأوربية» وبها لهجتان أساسيتان هما «الكرمانجية» و«البهلوانية»، اللتان تنقسمان إلى 18 لهجة محلية. وتبعًا لأمين شحاتة الذي يعد كتابه «الكُرد.. معلومات أساسية» مرجعًا مرموقًا لدى الكُرد وجميع المهتمين بقضيتهم، فإنه يؤكد أن «كرد تركيا وسوريا وبعضًا منهم في إيران والعراق يتكلمون البهدينانية، في حين يتكلم معظم كرد العراق وإيران السورانية».
لذا فانقسام اللغة ضيّع فرصة عظيمة لظهور تاريخ محدد للآداب الكُردية، كما ضيّع فرصة أعظم منها لتدوين أدب كردي بملامح أكثر خصوصية. ويعزو المثقفون الكُرد مآزق تشتُّت اللغة وعدم توحيدها إلى الاضطهاد السياسي المتعاقب!
يُرجع مؤرخون أكراد بداية الأدب القومي إلى القرن السابع (ق.م)، لكن الدلائل التاريخية تضعف كثيرًا إزاء تلك العودة المغمورة، فمحاولات أرشفة وأرخنة الأدب الكُردي غالبًا ما تعود إلى عام 1071م، مرتبطة بسقطة سياسية، فجّرت قيامة الكتابة الكُردية تدوينًا، فيما ظل هناك تاريخ أدب محايث يتداول شفهيًّا، رغم التحوّل الذي طرأ على الهوية الكُردية الدينية.
ففي عام 1071م، ضاعت أحلام الكُرد بالحفاظ على أنفسهم كقومية تمسك بالأرض الممهدة لقيام الدولة في يوم ما. خسر الكُرد مناطقهم وهويتهم المحضة، إثر انتصار الجيش الإسلامي السلجوقي على الدولة البيزنطية المسيحية، في موقعة «ملاذ كرد» (ملازكير)، ويشدد المؤرخ الكُردي محمد أوزون (من كرد تركيا) في كتابه «بداية الأدب الكُردي» (ت: دلاور زنكي) أن «لهذا التاريخ أهمية بالغة لدى الأكراد، حيث اقتحمت القبائل الطورانية الغازية المدن، وفتحت بوّابة الأناضول، وتشبثت بالأرض، ورسخت فيها أقدامها، في هذا التاريخ اندحر سكان الأناضول البيزنطيون، ولحقت الهزيمة بالأكراد في موقعة [ملازكير] لدى مقاومة الغزاة والتصدي لهم، وغدت هذه الانتكاسة مصدر ويلات ومآسٍ للأكراد لا تنتهي».
وتعود أُولى #رباعيات كردية# معروفة مماثلة لرباعيات الخيام الشهيرة إلى الشاعر الكُردي #بابا طاهر الهمذاني# (935– 1010م).
تبعثر الكُرد في الأرض، وباتت هويتهم متناثرة، ومنذ الدخول الأول لهم في الإسلام حتى اللحظة، لم تظهر لهم ديانة إبراهيمية سوى «اليهودية»، فيما المحاولات الضعيفة والخجولة في تأسيس ديانات كردية محضة خرجت أيضًا من المرجل الإسلامي ك«الكاكائية» الشبيهة ب«الدرزية»، بينما المسيحية ماتت في نفوس الكُرد منذ (ملازكير) لجهة قسوة ألب أرسلان السلجوقي.
الوقائع الكارثية للأمة الكُردية خلقت أدبها المدوّن، وباتت «مم وزين» في القرن السابع عشر الميلادي -أبدع في ترجمتها وتخريجها العلّامة الراحل محمد سعيد رمضان البوطي (دمشق، دار الفكر، 1982م)- أول تاريخ عابر للشفاهية إلى الكتابة في #تاريخ الكُرد# على يد مؤلفها ملا أحمد خاني (1650 – 1708م) التي يورد فيها نتفة عن هزائم الكُرد المكررة في تأسيس دولة.
الأدب الكُردي في غالبه شعر؛ فالكتابة تميل إلى الاستقرار، والشعر يميل إلى الإنشاد، وما بين الكتابة والإنشاد نشأ للكرد أدب، ابتداءً من الشاعر الكُردي (اللاأدري) حاج قادر كويي (1815- 1892م نسبة إلى كويسنجق شمال أربيل)، الذي حكمت عليه السلطات العثمانية بالإعدام، وأمرت بحرق كتبه وأشعاره. بينما الشاعر «فقي طيران» يعد أول شاعر قصيدة نثر كردية عبر منجزه الملحمي «برسيس» وتتحدث عن صراع الجان والعمالقة.
وعلى الرغم من التحديات المرعبة التي يواجهها الكُرد إزاء هويتهم الأدبية، لجهة عدم مأسسة كتابة التاريخ الأدبي وجمع الآثار الفنية والغنائية والشعرية لشعب تغرّب في الجبال، وأضاعته الدول والممالك، فإن منجزًا مهمًّا بات هو البوابة الواسعة لفهم العالم المتشعب لأدب الكُرد، أنجزه الكاتب الكُردي الدكتور معروف خزندار بموسوعة «تاريخ الأدب الكُردي» في سبعة مجلدات (3815 صفحة من القطع الكبير) صدرت عن (دار آراس) في أربيل (2001 – 2006)، دوّن فيها تاريخ الأدب الكُردي عبر ألف عامٍ حتى عام 1975م. مستكملًا مشروعه ب«موجز تاريخ الأدب الكُردي المعاصر» الذي طبع عام 2008 ب200 صفحة من القطع المتوسط عن «هوشنك كرداغي» بدمشق.
أفرزت البداية الكُردية في الكتابة شعراء مؤسسين، هم آباء هذه الأمة المتورطة في التيه، كمولوي (1806- 1852م) الذي ابتكر المقاطع الشعرية الملتزمة بالقافية، و مُلا خيزر ميكائيلي (ملا خضر) من شهرزور (1797- 1855م) الشهير ب«نالي» (تعني الأنين بالعربية) بعد أن شهد انهيار الإمارة البابانية، وسالم الشيخ السُّليماني الكبير (1845- 1909م) الذي اتصف شعره بالأسى والرثاء لشقاء الحياة في هذا العالم. سميت بأسماء هؤلاء الثلاثة أشهر شوارع وساحات وأسواق مدينة السُّليمانية.
$تيه الحداثة$
ومثلما يقول الشاعر الفلسطيني محمود درويش «ليس للكردي سوى الريح»، فليس للأدب الكُردي سوى الشعر، والشعر وحده يُلخص تاريخ الكُرد، رغم المشغولات الأخرى في الرواية والقصة والمسرحية والنقد، غير أن للشعر سطوة.
ويفتتح عصر الكتابة الحديثة المُعلم عبدالله گوران (1904-1963م) شاعرًا تجديديًّا، مُطلقًا انقلابًا على الآباء المؤسسين، برفقة شيخ نوري شيخ صالح (1892- 1959م) الذي يعد منظِّرًا لحركة التحديث الكُردية، فكان گوران وصالح الأبوين الروحيين للشعر الحديث، وصاحبي الموجة الأولى المعاصرة أو ما يُعرف ب«شعراء الحداثة الأولى»، التي امتدت حتى أوائل السبعينيات من القرن العشرين لتبدأ الموجة اللاحقة، بعد أن ظهرت بواكيرها في الستينيات والتي يعتبرها المثقفون الكُرد حقبة أدبية مظلمة؛ لخلوها من أي منتج حداثي، رغم أن العالم كان يشتعل لحظتها تجديدًا وحداثة.
موجة الحداثة الثانية كما يُثبتها الشاعر والمترجم عبدالله طاهر برزنچي، في مقدمة أنطولوجيا الشعر الكُردي الحديث (1920– 2007م) التي صدرت عام 2008م عن «ديوان المسار للترجمة والنشر»؛ إذ يقول: إن «الموجة الجديدة أو الحداثة الثانية، تأخر ظهورها في الشعر الكُردي إلى السبعينيات؛ لأسباب متعلقة بالشاعر وظروفه الموضوعية والاجتماعية والسياسية (…) إن الحداثة الثانية أرادت في خطوتها الجادة تجنب الركود». ويشير إلى أن الشاعر الكُردي أنور شاكلي «فرها شاكلي» أعلن الانقلاب بمجموعته «مشروع انقلاب سري» (بغداد 1973م) عبر مقدمة مقتضبة لكن غاضبة «بكل فخر واعتزاز تتوجه قصائدي نحو القرّاء وتاريخ أدبنا، وتعلن عن نفسها كريادة لمرحلة تتجاوز مرحلة عبدالله گوران، وتحدد معالم شعر الحاضر والمرحلة الراهنة في كردستان».
لكنّ ثمة تاريخًا أسبق من بيان انقلاب شاكلي الذي صدر من طرف واحد، وهو بيان جماعة «روانگة» (المرصد) اللاذع، من طرف الشاعر الراحل شيركو بيكس، والقاصّ كاكه مم بوتاني، والشاعر جلال ميرزا كريم، والقاص جمال شاربازيري؛ إذ أعلنت الجماعة بوضوح رفضها لأنماط الكتابة السائدة، وبحثها، أو محاولاتها تحقيق أشكال إبداعية جديدة، وبعد عام فقط من إصدار البيان الشعري لجماعة شعر 69 العراقية، الذي أطلقه فاضل العزاوي.
ولحق بيان «روانگة» بيان شعري ظل مخبوءًا غير معلن عنه في المدة ذاتها، حتى كشف في عام 1992م في مجلة «بروژة» (المشروع) للشاعرين لطيف هلّمت وأنور شاكلي. وفي تسعينيات القرن الماضي، انطلقت الحداثة الثالثة، والتي لم تخلق مغايرة حقيقية، بل كانت متأثرة بواقع الانفتاح السياسي، والتبدلات الطارئة على المصير الكُردي الجديد في العراق، بعد الانفصال الذاتي عن مشيمة بغداد عام 1991م، وبحسب برزنچي فإن شعراء هذه «الحداثة» استثمروا المخيلة ف«كثرت الانزياحات، وعمت الفوضى (…) وكتبت نصوص كونكريتية».
لكني أشير إلى أن هناك موجة حداثية جديدة رابعة في الشعر الكُردي المعاصر، بانت ملامحها البكر بعد عام 2003م، رغم غياب بيان شعري جامع، أو مُنظّر يُثبتها كريادة جديدة، لكنها برزت في ظل ركود مزعج، مع شعراء مجددين أبرزهم الشاعر طيب جبار والشاعرة لازو.
$تيه الريادة$
كانت أول صحيفة كردية هي صحيفة «كردستان» التي أصدرها مدحت بك، في القاهرة عام 1898م، واختلف أيضًا فيها المؤرخون الكُرد بتحديد تاريخ صدورها ومؤسسيها، فيما ظهرت أول مجلة تعنى بالمرأة وهي «ژن Jin» الأسبوعية عام 1924م، وفي عام 1929م صدر في يريفان (عاصمة أرمينيا السوفييتية) صحيفة «رِياتازه- الطريق الجديدة»، ومجلة كَلاويژ (نجمة سهيل) ببغداد بين عامي (1939- 1949م)، و(هتّاو) في أربيل عام 1954م، وصحيفة «كردستان» بإيران (1959- 1963م)، وفي دمشق أصدر أبناء بدرخان صحيفة «هاوار- الصرخة» في المدة (1932- 1935م) و(1941- 1943م) إذ صدر 57 عددًا منها، وصحيفة «روناهي» (1942- 1945م) ب28 عددًا، وفي بيروت صدرت صحيفة «روژا نو rujanu» أي «اليوم الجديد»، في المدة (1943- 1945م).
ويرجع تاريخ أول #قصة كردية# إلى عام 1925م، وفقًا إلى القاص حسين عارف في فهرسته للقصة الكُردية، فيما كانت رواية «الراعي الكُردي» لعرب شمّو، كأول رواية كردية صدرت في أرمينيا عام 1935م، وفي النقد، كتاب «النقد النثري التأثري» لشيخ نوري شيخ صالح، المنشور في 25 حلقة في جريدة (ژيان الحياة) بين عامي 1925- 1926م.[1]