$بداية الأدب الكردي (الحلقة الرابعة)$
تأليف: محمد أوزون
ترجمة: #دلاور زنكي#
من المعروف أن زهاء ثلاثمائة ألف كردي يقيمون في الاتحاد السوفياتي في تبعثر وبؤس. والأكراد المقيمون في حدود الجمهوريات السوفياتية نالوا حقوقهم الثقافية بعد ثورة عام 1917م وظلوا على هذه الحالة حتى أواخر عام 1930م في مستهل سلطة ستالين الإرهابية. وفي الفترة الواقعة بين أعوام 1917-1930م أنشئت مدارس باللغة الكردية وكذا إذاعة كردية وصحف ومجلات ودور للنشر. واستطاع الكتاب الأكراد أن يحسنوا أحوالهم ويسيروا قدماً سعياً وراء أدب متزن حقيقي، وهذا التطور الهائل حصل بدعم وتحريض ومؤازرة أرمينة وجورجية، وعلى الرغم من ضآلة عدد الأكراد في الاتحاد السوفياتي فقد ظهر بينهم كتاب وشعراء وأدباء أكثر مما ظهر في الجمهوريات الأخرى. حيث صدرت كتب كثيرة في بحوث عن اللغة الكردية واختلاف لهجاتها وآدابها. وفي هذا المجال صدرت روايات وملاحم وقصص وأساطير وكتب في الأمثال وحكم وأقوال القدماء والسلف فكان ذلك بعثاً جديداً لللغة الكردية وإنعاشاً. إلا أن هذا الرخاء لم تكتمل مسيرته ولم تدم هذه الأحوال طويلاً. ففي أواخر عام 1930م بدأت هذه المسيرة الثقافية تتعثر وتكبو وتتراجع بعد قرار “ستالين” السياسي في مسألة “النفي”. ونتيجة لهذا القرار الذي أصدره “ستالين” زالت منطقة الحكم الذاتي التي أسست للأكراد، وهُجِّروا إلى المنفى في قفقاسيا وآسيا الوسطى. وفي خضم هذا التطور الايجابي في مجال الآداب والثقافة نتذكر مجلس “مؤتمر””مؤتمر الثقافة والأدب واللغة الكردية” عام 1934م الذي عقد في “روان”. وعنه يتحدث باسيل نيكيتين على الشكل التالي:
“لقد ضم المؤتمر شمل الأدباء في جلسته المهمة وأرسى قواعده على بناء راسخ و وطيد من الثقافة واللغة والأدب وتعزيز هذا الصرح في خارج البلاد وتوثيق العلاقة والروابط بين الثقافة واللغة والأدب.(69) وقد تباحث المشاركون في المؤتمر، في الأوضاع الاجتماعية والأحوال الثقافية والأدبية واللغوية الكردية في أنحاء “قفقاسيا” واتفقوا بالإجماع على ترسيخ وتثبيت المداميك والقواعد الأساسية لصيانة اللغة الكردية وحماية آدابها والسير بها نحو التقدم والرقي. يقول باسيل نيكيتين مرة أخرى مبدياً رأيه: “لقد حقق المؤتمر هدفاً جيداً وأنجز حلولاً لكل المعضلات والمسائل التي تداولها المؤتمرون”.(70)
يقول الشاعر المكسيكي الذائع الصيت: “أوكتافيو باز” مبدياً رأيه الملفت للبال في الأدب الأمريكي اللاتيني على النمط التالي: “إن الكلمات والعبارات المقتطعة من اسبانيا وأوربا بدأت الآن تمد جذورها عميقاً في التربة وها هو النفي ينمو وينبت ويورق ويزهر”.
وهذا الكلام تعبير صادق ينطبق تمام الانطباق على وضع الأكراد في الاتحاد السوفياتي، دون أن يخامرنا أيُّ شك في ذلك. والأدب الكردي إن لم يكن أدب مهجر أو منفى بكل معنى الكلمة في الاتحاد السوفياتي إلا أنه نبت وترعرع وأثمر ورداً بعيداً عن الوطن وعلاقته الحميمة وروابطه به.
كانت ظروفه قاسية وصعبة. وكان رأي الأدب الشيوعي يتمثل في هذه المقولة: “إنه قومي في مظهره صيني في جوهره”. كل هذا وذاك كان يسد السبيل ويضع العراقيل والعقبات أمام الأدب الكردي ويمنعه من الانتعاش وإنشاء علاقات بالوطن. وفضلاً عن ذلك كان النظام السوفياتي يؤازر ويساند –دون شك- النظام القائم في الحكومة التركية الكمالية وكان ينظر في شك وريبة. إلى الحركات السياسية والأدبية والثقافية في كردستان وتحسب ممثلي هذه الحركات والقائمين بشؤونها جواسيس وعملاء للامبريالية… ولهذه الأسباب ظل الأدب الكردي الذي ظهر في الاتحاد السوفياتي معزولاً ومنطوياً على نفسه بكل المقاييس والمعايير.(71) ولكن هذا الأدب الكردي في “قفقاسيا” نبت وتفرع وتجذر على الرغم من كل الصعوبات والمعوّقات.. في مجال الكتابة ليس من بون شاسع بين الأدباء في الاتحاد السوفياتي وفي قفقاسيا سوى فوارق طفيفة في مفردات لغوية لا تكاد تذكر وليس بينهما سوى ذلك. والأدب الكردي في الاتحاد السوفياتي يثير الإعجاب والدهشة من حيث التخيّل العميق والوصف الدقيق في الحين الذي حافظ فيه على هويته الكردية وظل موثقاً إلى لغة الوطن.
ولم يكن هذا التطور نحو الأفضل من نصيب النثر وحده أو الشعر وحده بل كان شاملاً لهما جميعاً كما شمل الرواية.
في أعوام مستهل الثورة صدر زهاء /30-40/ ثلاثين إلى أربعين كتاباً. وأكثر هذه الكتب كانت من تأليف: عرب شمو وجاسم جليل وحاجي جندي وخليل مرادوف وقنات كردو و وزير نادر. وكان هؤلاء الأدباء قد عرفوا باسم شعراء وكتاب “ثورة أكتوبر”، ورغم بُعد هؤلاء عن الوطن أضافوا إلى اللغة ملامح زاهية وكتبوا كثيراً وجعلوا كتابة القصة القصيرة ركناً من أركان الأدب الكردي.
إن الشاعر: عسكر بويك أحد الكتاب الأكراد الذين يكتبون أدباً حديثاً في الاتحاد السوفياتي يرى أن هؤلاء الكتاب والشعراء يمثلون المرحلة الأولى في كتابة الأدب الكردي في الاتحاد السوفياتي،(72) وحسب اعتقاده فإن المرحلة الثانية بدأت عام 1950م وفي هذين الزمنين أو المرحلتين يسير تطور الشعر بشكل خاص بخطوات حثيثة. ومن أشهر كتاب هذه المرحلة: شكو حسن، و فريك يوسف، وميكائيل رشيد، وسِمو شمو، و جردو أسعد، و كارلان جاجان، وعلي عبدالرحمن، و رزائيل رشيد. أما المرحلة الثالثة التي ازدهر فيها الأدب فقد بدأت بريادة: توسين رشيد، و سعيد إيبو، وعلي طبري، وجركس رش، وعلي خاني ممي، وعسكر بويك، عام 1960م وفي هذه “الثالثة” ظهر تطور جديد على اللغة من حيث التجديد وكذا على الأدب وكان لهذا الجيل من الرعيل الثالث تجارب أدبية مستحدثة وأساليب مبتكرة في كتابة المسرح والقصة والرواية… كما كتبوا- علاوة على الأدب القديم- تجاربهم الحديثة.
في صدد البحث في فن الرواية والقصة نتذكر اسم الكاتب: علي عبدالرحمن ونذكر أعماله: خاتي خانم عام (1959)م والأم عام (1965م) وقرية الشجعان عام (1968)م ومن أعمال حاجي جندي روايته “الاستغاثة Hewarî” عام 1967م ومن أعمال سعيد إيبو الذي لقي مصرعه على أيدي أشخاص مجهولين في “روان” عام 1991م روايته “Kurdên Rewî -1981م”. ورواية علي عبدالرحمن الأخيرة اقتبست فكرتها من ثورة جبل “آكري” وهي بعنوان “فوق الجبال”. والشيخ ظاهر- الذي كان من زعماء الانتفاضة- أحد أبطال الرواية. والرواية محبوكة عن حياة البطل ويعرضها في مشهد شامل من السياسة والثقافة والمجتمع من مشاهد تلك الأيام.
يقول الكاتب روهات “من الكتاب الأكراد في تركيا” متحدثاً عن هذه الرواية: إن هذه الرواية هي صفحة مهمة وناصعة في تاريخ الأكراد من حيث الأدب والثقافة.
ثم يقول: إن الرواية وإن كانت رواية تاريخية خالصة فإن أحداثها تبدو في كثير من الأحيان أكثر رونقاً وجمالاً بفضل يراع الكاتب وطريقة أسلوبه.(73)
على الرغم من هذه الأعمال والمؤلفات فإنني اعتقد أن الحجر الأساس في هيكل الأدب الكردي في الاتحاد السوفياتي هو ما كتبه وألفه “عرب شمو”.
في وسعنا أن نقول إن عرب شمو 1897-1978م هو أحد رواد الأدب الحديث الكردي في النثر والرواية. شهد عرب شمو عهد ثورة “أكتوبر” وعاش فيها وساهم في بناء المجتمع الجديد ثم لقي فيما بعد من جور ستالين وظلمه ما لقي. وقد أمضى حياته كلها محاولاً مكافحاً ومناضلاً لرفع مستوى العلم بين الأكراد ويخرّج منهم مثقفين وكتاباً… في عام 1937م أرسلته حكومة ستالين إلى “سيبيريا” وظل منفياً هناك حتى عام 1957م. يقول عرب شمو في أحد أحاديثه إنه شارك في مد جميع الخطوط الحديدية للقطارات التي نفذت في “سيبيريا” وقضى أهم أيام حياته وأفضل سنوات عمره في العذاب والشقاء والبؤس والحرمان لأسباب تافهة وهزيلة.(74)
كان عرب شمو قد وضع نصب عينيه أهدافاً كثيرة وغايات عظيمة.. منها تدوين الأدب الشفهي والتراث الشعبي “الفولكلور” ووضع اللغة ضمن قواعد النحو والصرف وخلق واصطناع جو أدبي ورفع مستوى الشعور بالإنتمائية الكردية والأهم من ذلك كله تحديث وتجديد الأدب القديم والبحث عن مواضيع وأساليب جديدة للقصة والرواية.
إن جميع أعماله الكتابية باستثناء روايته “دمدم” هي سيرة ذاتية… ومن السهولة أن يكتشف المرء طريقة حياته وأحواله ويستشف روحه من خلال جميع رواياته ويرى آماله وطموحه وأمنياته وخاصة في روايته “الراعي الكردي”(75). ولد عرب شمو في قرية من قرى “قارس” في اسرة فقيرة ضعيفة لا حيلة لها عام 1897م وأمضى كل أيام حياته في الشدائد والملمات والشقاء. وروايته “الراعي الكردي” المطبوعة عام 1935م في “روان” تتضمن جزءاً من سيرته الذاتية. يقول عسكر بويك: قصة “الراعي الكردي” برمتها وصف لحياة الكاتب ثم يتابع قائلاً: لقد كتب الرواية بلغة نقية شفافة وثرية تحتل فيها لغة المحادثة أساس البنية الروائية.(76) الرواية شعبية تصف طفولة الكاتب وأحداثاً في أيام فتوته. ترجمت الرواية إلى الفرنسية والروسية والعربية[1].
وقد تفرغ الكاتب الكردي الدكتور نورالدين ظاظا لقراءة هذه الرواية وأعاد كتابتها وصاغها صياغة تطابق اللغة التي كتبت بها مجلة “هاوار”. وبفضل هذا العمل حصل الأكراد في تركيا وسورية على هذه الرواية وانكبوا على قراءتها.(77)
وروايته “أكراد ألاغوز”[2] تبدو وكأنها استمرار ومتابعة لروايته الأنفة الذكر.. لأن المسائل والمواضيع التي طرحت في الرواية الأولى أعيد طرحها في “أكراد ألاغوز” بطريقة موسعة ومسهبة. وبعد عودته من أرض البؤس والتشرد كتب روايته “الفجر” وهي نسخة عن “الراعي الكردي” ولكنها أكثر حرارة وتدفقاً في الأسلوب وأعظم فخامة في المعاني وأكثر توجساً وحذراً في السرد “لعل سبب ذلك هو الرهبة من النظام”. ومن جهة أخرى كانت رواية “الفجر” أكثر تأنقاً وتطوراً وتشعر عند قراءتها أن الكاتب كان يحاول أن يسرد الأحداث بأسلوب أدبي.
موضوع روايته المنشورة عام 1969م، حاملة العنوان ” Jiyana Bextewar الحياة السعيدة” يتناول هجرة الأكراد إلى قفقاسيا. خشية أن يتعرض الأكراد لمذابح العثمانيين ومجازرهم نزحوا نحو البلاد الشمالية، وهناك أسسوا المجتمعات وعاشوا حياة جديدة، وشاهدوا تغير الأشياء وانقلاب الأمور التي رافقت ثورة “أكتوبر”… وعلى هذه الأفكار والأحداث بنيت الرواية، أي أن الرواية سرد لحياة الأكراد في الاتحاد السوفياتي.
ورواية عرب شمو الأخيرة “هوبو Hopo” الصادرة عام 1969م تبحث في الأحوال الاجتماعية بعد حلول الثورة.. روايات عرب شمو تجري في مضمونها الأفكار والاتجاهات التي يسير عليها النظام السوفياتي أي أن عرب شمو يكتب الرواية الملتزمة. ورواياته مكتنزة بالحديث عن العادات والتقاليد الشعبية “الفولكلور” القديمة والحكم والأمثال التي يتناقلها الناس شفاهاً. ويلاحظ الدارس لروايات عرب شمو أنه كان يحاول جاهداً أن يجعل اللغة الكردية أكثر متانة وأقوى سبكاً ويطوعها لمقاييس أساليب الرواية ومعاييرها. إذا التفت المرء إلى الرواية الكردية وعرف ما فيها من علل ونواقص لأدرك كم من الجهد والتعب والكفاح بذله الكاتب عرب شمو في تحسين الرواية الكردية ورأى البون الشاسع بين رواياته والروايات الأخرى.
من بين هذه الروايات- حسب اعتقادي- تجدر الإشارة إلى رواية عرب شمو “دمدم” الصادرة عام 1966م فهي أهم الروايات وأفضلها. وقد سبق لي ان قلت: إن الأدب الشعبي الشفهي هو المنبع الغزير الذي لا ينضب، الذي يستقي منه الأدب الحديث. ولهذا لا بد من الالتفات إلى رواية “دمدم”. والتوقف عندها وتأملها. رواية “دمدم” ملحمة كردية غارقة في القدم ومنذ مائة عام يتناقل الناس في جميع أرجاء كردستان أحداث “دمدم”. ويتكلمون عنها يرويها الكبار للصغار، ينقلها جيل إلى آخر. بعد معاهدة “قصر شيرين” وانقسام بلاد كردستان وقعت قلعة “دمدم” ضمن الحدود الإيرانية. في ذلك العهد ناهضت النظام الإيراني وقاومته مقاومة عنيفة وغدت رمزاً من رموز المقاومة والصمود الكرديين.. وقد حوّل عرب شمو هذه الملحمة إلى رواية في قالب جديد وسرد روائي وحياة روائية. وقد كتب عرب شمو عن حياة القلعة وشخصياتها وأبطالها والذائدين عنها وعن بسالة المقاومة: خاني لب زيرين Xanê Lepzêrîn ” والأحوال السياسية.. وبعبارة أخرى فقد صاغ عرب شمو هذه الملحمة في قالب روائي وأسلوب روائي. كما تعمد عرب شمو إقحام نصوص غنائية وحكم وأمثال سائرة في هيكل الرواية وجعلها جزءاً لا يتجزأ من الرواية ورصّع بها أسلوب الرواية.(78)
(يتبع)[1]