الإدارة و المجتمع في شمال شرق سوريا
إبراهيم خليل
حين تم إعلان قيام الإدارة الذاتية الديمقراطية في نوفمبر 2013, كانت بنية مجتمع شمال شرق سوريا مكونة من عدد من الشرائح المتمايزة دينياً وقومياً وحزبياً وطبقياً، ولذلك كان من الطبيعي أن تتعدد المواقف من هذه الإدارة وتختلف بحسب تلبيتها لمصالح كل فئة من تلك الفئات أو وقوفها ضدها. وتباين تلك المواقف ليس فقط من طبيعة العلاقة الخالدة بين الحكام والمحكومين لكنها من طبيعة الأشياء ذاتها. وهو اختلاف يعكس من جهة تعددا في الرؤى السياسية لمشروعٍ مشترك. ومن جهة أخرى، يضاعف تعقيد الوصول إلى رؤية شاملة لمجموعات أهلية متعارضة في مجال جغرافي صغير نسبيا. الأمر الذي قد يؤدي إلى ظهور مشاريع معطلة لبعضها البعض. وبتبسيط شديد يمكن توزيع تلك الفئات على:
- أنصار الإدارة الذاتية: الذين رأوا في قيام الإدارة تجسيداً لحلم المنظر الوحيد لأفكار حزب الاتحاد الديموقراطي عبدالله أوجالان. وتجربة تشبه تجربة إعلان حكومة منفى وذلك بعد عجز الحزب الأم عن إقامة أي شكل من أشكال الإدارة الذاتية في مناطق نشوئه وميدان نضاله الأساسي أعني كردستان تركيا خاصة بعد الضربة القاسية التي تلقاها عقب اعتقال أوجالان الذي ترك الحزب في حالة تخبط.
- أنصار الحركة الكردية القومية الكلاسيكية: التي تنشط في كردستان سوريا منذ أكثر من ثمانية عقود وتناضل نضالا يكاد يقتصر على الحفاظ على الحد الأدنى من الوجود دون تحقيق الحد الأدنى من الحقوق الثقافية التي تقع على رأس قائمة مطالبها التاريخية لأسباب ذاتية وموضوعية كثيرة لا مجال للتفصيل فيها.
- المكون العربي: الذي انقسم إلى معارض وموال، أما الموالون للإدارة فمعظمهم وجد فرصة عمل في ظل اقتصاد الحرب والأوضاع المعيشية الصعبة في المنطقة والقليل منهم التحق بالقوات العسكرية بناء على شمولية فكرة الأمة الديمقراطية التي يمكنها احتواء جميع القوميات بدون استثناء ولا تمييز. وأما المعارضون ففي معظمهم بقية من فلول حزب البعث والموظفين الحكوميين ورجال الأمن والمخبرين المتقاعدين ممن حافظوا على صلاتهم الوثيقة بالنظام من خلال المربعات الأمنية في مدينتي الحسكة والقامشلي.
- المكون المسيحي: وهو المكون الأضعف سياسيا وعسكريا وقد انقسم بدوره إلى معارض وموال. أما الموالون فقد تعاطفوا مع الإدارة الذاتية وعملوا في بعض مؤسساتها بناء على حالة الأمر الواقع ومبدأ شرعية الإمام المتغلب وبعضهم انسياقاً خلف جاذبية الأفكار الأممية للسيد أوجالان الخالية من أي تمييز ديني. وأما المعارضون فهم الشريحة القومية التي لم تفقد إيمانها بعد بشرعية نظام الأسد ولم تفقد أملها في عودته القريبة إلى المنطقة فضلا عن عدم ثقتها بشعارات مسؤولي الإدارة الذاتية ونظرتها إلى الموضوع برمته على أنه ثورة كردية جديدة لا تلبث أن تتكالب عليها الأنظمة الإقليمية وتسحقها كما حدث على امتداد تاريخ الثورات الكردية.
- التجار والمنتفعون من جميع المكونات على حد سواء: وهؤلاء في غالبيتهم دعموا قيام الإدارة الذاتية لسابق علمهم أن القوي الفقير في حاجة إلى أخيه الغني الضعيف الذي هو في حاجته كذلك، ولأن أي نظام سياسي يأخذ شرعيته من التغلب لا يستغني عن التحالف مع أصحاب رؤوس الأموال من باب أن السياسة اقتصاد مكثف والاقتصاد سياسة ممددة.
- المثقفون والليبراليون والحياديون والرماديون من جميع المكونات: وهؤلاء وقفوا موقف المراقب من بعيد لعدم ثقتهم باي طرف من أطراف الصراع السوري الممدد والروجافاوي المكثف وهؤلاء كذلك قابلون للتقسيم إلى : إصلاحيين وعدميين.
واليوم بعد مرور أحدى عشر عاما على المقتلة السورية المستعصية على التوصيف (ثورة شعبية, أزمة وطنية, مؤامرة كونية, حرب أهلية, استقلال ثان, حرب استنزاف ...) تأقلمت الإدارة الذاتية (المستوردة في بنيتها الفوقية) شيئاً فشيئاً مع (الحالة المحلية السورية) بكل عيوبها وسيئاتها واكتسب حتى أولئك الذين لا يحملون بطاقة الهوية السورية مع واقع المنطقة التي تم انتدابهم إليها وثبت أن التأثير من طرف واحد أسطورة لا يعرفها الواقع المعاش.ويمكن إجمال ذلك التأقلم في عدد من النقاط الرئيسية:
- العجز عن الخروج من النسق العام للوسط المحيط كما أسلفنا والابتلاء بالأدواء الإقليمية ذاتها من استبداد وفساد وتربُّح ودوغمائية.
- تأبيد حالة الثورة: عبر حالة شعاراتية مناسباتية مبتذلة وسخيفة تجاوزها العصر وبات الوقوف عندها أشبه بمحاولة وضع الزمن داخل ثلاجة في عالم لا يكف عن الحركة والتغير في كل لحظة.
تأبيد حالة الحرب: لأن الأحزاب الراديكالية الحاكمة في طبيعتها لا يمكنها العيش دون عدو أبدي ولأن لا شيء كالحرب يمكن أن يشكل مبرراً قوياً لتجميد جميع مفاعيل ومظاهر الحياة المدنية من حقوق وبناء وديمقراطية وشفافية لصالح الدفاع والمقاومة .
- التهجير غير المباشر: عبر التجويع والتعطيش وانهيار البنية التحتية واعتماد اقتصاد الميليشيات وهي عوامل يمكن ردها إلى أي شيء باستثناء ضعف الموارد والثروة البشرية والممارسات الفردية.
تحول الجهد النظري الهائل المنسوب إلى السيد أوجالان إلى شيء مشابه للنصوص الدينية المقدسة والتي تطاع ولا تناقش، والاعتماد عليها في الخطابات والاستعراضات الشعبوية أضعاف الاعتماد عليها في التأسيس لبنية فوقية وتحتية متقدمة.
- تمييع مفهوم الهوية بأخذها يمينا وشمالا : ففي حين عملت كوادر الإدارة الذاتية نظرياً على توسيعها لتشمل قوميات وديانات وجغرافيات أخرى تحت مسمى أمة ديمقراطية واحدة بثقافات متنوعة تقلص هذا المفهوم على أرض الواقع لدى كثرة كاثرة من المدارين ذاتيا لينحدر بهم إلى درك الولاء للعشيرة وأحيانا العائلة وابتداع نسخة جديدة للإسلام تحت مسمى الإسلام الديمقراطي.
- تبني عقيدة الصوابية المطلقة : التي مات والدها (الاتحاد السوفييتي) منذ أكثر من ثلاثة عقود وما زالت والدتها (الإسلام السياسي) تكافح وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة.
- الإصرار على مبدأ التوسع واستراتيجية تصدير الثورة: عن طريق أذرع حزبية موزعة في جزئي كردستان العراقي وايران بشكل خاص, ومحاولة فرض نمط الكانتونات الأناركي بطريقة بدائية مرتبكة غير واضحة المعالم ولا الأفق.
- الارتباط بالحزب الأم من خلف الحدود: أصبح اليوم عالة على الحزب الابن وجر عموم شعوب روجافا إلى معاداة دولة قوية عضو في حلف الناتو تضامناً مع الحزب الأم، ما سهَّل على نظام أردوغان الإسلاموي الفاشي تبرير سعيه لإفشال التجربة والقضاء على الحلم الكردي ولو خارج حدوده السياسية باللجوء إلى أكثر من أسلوب: الاغتيال الفردي باستخدام تقنية الاصطياد من فوق بواسطة الطائرات المسيرة والتوسع العسكري بجعل الجيوب المتبقية من الثورة السورية رأس حربة في احتلال المناطق الحدودية السورية المرتبطة بالإدارة الذاتية، ثم انتهاج سياسة التتريك تمهيداً لضم سوريا الشمالية كلها ولم خيوط السجادة العثمانية من جديد ولكن بهدوء لا يلفت إليه الأنظار.
- عجز الإدارة الواضح عن التفكير خارج الصندوق والتخطيط لاستحداث نهضة علمية حقيقية تنطلق من تطوير المدرسة وتنتهي بالتحول إلى جزيرة مختلفة ومتقدمة على ما يحيط بها من دول وكيانات الجوار المتخلفة رغم توافر جميع المقومات باستثناء مقوم الإدارة الرشيدة طبعاً.[1]