أمريكا في شمال شرق سوريا.. (النهج الأمني) وثغراته الداخلية (4)
فرهاد حمي
المركز الكردی للدراسات. 30-09-2022
في المادة السابقة، سلطنا الضوء على سيناريو «المصيدة الكردية» وكيف تجرع السكان المحليين مرارتها، جرّاء استثمار عدالة القضية الكردية من قبل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في عفرين والرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب في كل من سري كانيه (رأس العين) وتل أبيض، بغية تشبيك مصالحهما مع سلطة اليمين المتطرف في أنقرة. ولا نجانب الصواب، إن قلنا إن شبح هذا السيناريو لا يزال يراود مخيلة السكان المحليين مع إدارتهم الذاتية إلى هذه اللحظة.
على المستوى الميداني، تضاعف القلق المحلي بسبب غموض «النهج الأمني الأميركي» والذي يعد «التناقض الرابع» في أهداف واشنطن المتضاربة حيال سوريا، لا سيما لجهة اعتماد التحالف الدولي ميدانياً على قوات سوريا الديمقراطية من أجل مكافحة الإرهاب. ولكن بالتوازي، تتلقى تلك القوات ضرباتٍ مستمرة خلسةً بفعل العمليات العسكرية التركية التي غالباً ما تتحرك طبقاً لضوءٍ أخضر أميركي، ناهيك عن حصر السياسة الأميركية جل أهدافها في مفهوم النهج الأمني والعسكري، متجاهلةً التحديات الاجتماعية والبيئية والاقتصادية والتعليمية.
وبطبيعة الحال، ثمة أصوات ستسعى على الدوام إلى تبرير هذه المقاربة الأميركية الأمنية، كونها ضمن الدول المنضوية داخل التحالف الدولي، وليست على استعدادٍ لتحمل التزام طويل الأمد تجاه الكرد، وكذلك تقديم ضمانات أمنية لقوات سوريا الديمقراطية على الأراضي التي تحررها، أو تقبّل التطلعات الكردية بالإدارة الذاتية في ظل العزم التركي على سحقها.
لفهم خلفية تلك المواقف، يمكن الذهاب، من حيث المبدأ، مع هذه الحجج النفعية التي تتنصل من المسؤولية الأخلاقية حيال القوات المحلية المساندة لأسباب قد يكون من بينها تسيّد اللعبة الجيوسياسية والتوازنات المعقدة على الأراضي السورية، ناهيك عن أهداف واشنطن المتواضعة لتجنب المزيد من الاستنزاف، مادياً وسياسياً ودبلوماسياً. لكنّ يبرز تساؤلٌ جدي من داخل تلك الأهداف البراغماتية الأميركية المتواضعة ذاتها: كيف سينجز التحالف الدولي حملته لمكافحة الإرهاب وحماية أمن حلفائه ومصالحه في المنطقة، في ظل التهديدات اليومية التي تتعرض إليها البيئة المحلية من قبل القوات التركية؟
يقترن الرد على هذه الإشكالية بسرد خطة وزارة الدفاع الأميركية، خاصةً عقب الانسحاب من أفغانستان وتصدّر الملف الأوكراني أجندة الأولويات الغربية. فكما هو معلوم، تقتصر جهود الحرب الأميركية على الإرهاب في شمال شرق سوريا على التعاون العسكري والاستخباراتي والاستشاري ومواصلة التدريبات مع قوات سوريا الديمقراطية، مع الاحتفاظ ببعض القواعد العسكرية الصغيرة التي تضم حوالى 900 عسكري، فضلاً عن تأمين المساندة الجوية للعمليات الميدانية التي تقودها القوات المحلية، بأقل تكلفة ممكنة.
طبقاً لهذه الصورة، وبحسب أبسط القواعد والمعايير المتواضعة في العلوم العسكرية، يبدو من الاستحالة أن تحظى تلك الخطة بالنجاح المأمول، طالما أن القوات المحلية مشتتة بين مطاردة الخلايا الإرهابية والتهديدات التركية اليومية. فالجبهة الأولى (مكافحة الإرهاب) هي الهدف المفترض والمقصود الذي ينبغي حشد كل القدرات والطاقات في سبيل تحقيقه. في حين لا تلقى الجبهة الثانية أهميةً كبيرة لدى التحالف الدولي، غير أنها تزعزع البيئة الاجتماعية التي يتحدر منها مقاتلو قوات سوريا الديمقراطية. وهنا تكمن وجه المفارقة، خاصةً فيما لو أخذنا آثار البعد النفسي على سير الحروب طويلة الأمد.
عملياً، تستنسخ تركيا دور باكستان بمؤازرة حركة طالبان في أفغانستان بغرض زعزعة الأمن، مع إضافة جوهرية تتمثل في القيام باحتلال مناطق شمال شرق سوريا عبر قواتها العسكرية على نحوٍ مباشر، وفرض أساليب القمع والصهر، مع التهديد بشن حملاتٍ جديدة، إلى جانب تسخير عناصر تنظيم داعش بطرق ملتوية، كما جرى في مخيم الهول مؤخراً وقبلها سجن الصناعة في الحسكة. وعلاوةً على ذلك، فإن واشنطن، التي تسيطر وموسكو على الأجواء السورية، تمنح غالباً الضوء الأخضر بشكلٍ انتقائي للآلة العسكرية التركية تحت مزاعم كتلك التي دأب المبعوث الأميركي السابق إلى سوريا جيمس جيفري، ومن على شاكلته، على إطلاقها، من قبيل القول «نشأنا على أهمية تركيا»، في ظل النظر إلى القضية الكردية في تركيا، وربما نسبياً في سوريا، من المنطور الأمني البحت.
يرجّح هذا الخلل البنيوي الموقف حيال القوات المحلية بأنها أدوات أكثر من كونها ذوات فاعلة لديها قضية عادلة ومشروعة. وبطبيعة الحال، سيسود شعور الإحباط وخيبة الأمل السكان المحليين، العرب والكرد والمسيحيين، الذين فقدوا إلى حد الآن حوالى 11 ألفاً من أبنائهم خلال حربهم على الإرهاب، على الجبهات والنقاط التي تعد الأكثر خطورة في العالم.
لكن عند النظر إلى المعطيات السائدة، وبحسب منطق المصالح الأميركية ذاتها، تغدو حسابات أمثال جيفري، الذين ينظرون إلى أهمية تركيا أمنياً واستراتيجياً وفق عقلية الحرب الباردة، من دون حججٍ منطقية قياساً مع الواقع. فاليوم، لا تزال تركيا تقاوم الإنضمام إلى حملة العقوبات ضد روسيا وتلعب دور «الملاذ الآمن» للكرملين والأوليغارشية الروسية. ومع ذلك، تتعامل معها الولايات المتحدة وحلف الناتو بشكلٍ عام كحليفٍ استراتيجي موثوق به، بل تسعى إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن إلى مكافأة حكومة اليمين المتطرف في أنقرة من خلال تدعيم أسطولها بطائرات F-16 أميريكية الصنع.
كما أن الحرب الأوكرانية وانعطافات السياسة الخارجية للرئيس التركي رجب طيب أردوغان صوب إسرائيل ومصر والدول الخليجية والنظام السوري، أدت إلى تجاهل شريحةٍ كبيرة في واشنطن والعواصم الغربية لحقيقة أن نظام أردوغان استبدادي وقمعي بشكلٍ صارخ ونسخة مماثلة لنظام بوتين. وبهذا الشكل، أضحت عقيدة بايدن، التي تقسّم الخريطة السياسية في العالم إلى حرٍ ومستبد، عرضةً لازدواجيةٍ مفضوحة بتحايلها على القيم العالمية وتفضيلها المصالح الغربية النفعية.
في الواقع، ليس من الغرابة أن يكون أردوغان سلطوياً وقمعياً بشكل صارخ، نظراً لأن هذا الإنحراف لا يشكّل مصدر قلقٍ لدى الولايات المتحدة والغرب. بل إن ما يثير القلق الغربي عموماً أنه ليس «حليفاً استراتيجياً موثوقاً به» بحسب ما يقول الكاتب المعروف نعوم تشومسكي، إذ أن نطاق التعاون والتصادم وفرض العقوبات والضغوطات الدبلوماسية محصورٌ في هذا المضمار فحسب. وظهر ذلك بوضوح عندما تحركت واشنطن من أجل فرض عقوبات على أنقرة بعد شرائها نظام دفاع صاروخياً من روسيا. بيد أن الولايات المتحدة سرعان ما منحت الفرصة مجدداً لأردوغان مع اندلاع الحرب في أكرانيا فيما يخص نيته في المضي قدماً بشراء أسلحة روسية أو التراجع عن صداقته مع بوتين.
بالمقابل، ثمة شك لدى العديد من المراقبين في الغرب بخروج تركيا من نطاق الطاعة الصارمة في ظل معارضتها عضوية السويد وفنلندا في حلف الناتو بصورةٍ انتهازية مقابل تكثيف قمعها الوحشي ضد الكرد في تركيا وسوريا والعراق والمنفى. وعلى الأرجح، ظفر الأتراك بالصفقة المطلوبة من خلال الابتزاز المستنسخ من تصرفات بوتين وترامب. وتذهب تحليلات وازنة في هذا الصدد إلى أن تركيا تتصرف كدولة أوراسيّة أكثر من كونها حليفاً موثوقاً ضمن الاستراتيجية الغربية، بحسب ما يشتهي جيفري وحاشيته.
$المآزق الأخلاقي والقانوني$
بالعودة إلى شمال شرق سوريا، تكشف خروقات العمليات التركية غياب أي بوادر بتغيّرات قد تطرأ على النهج الأمني الأميركي، الأمر الذي يشجّع الدولة التركية مواصلة حملاتها الإرهابية التي تستبيح فيها الكرد، ويأطّر أكثر فأكثر القضية الكردية في نطاق الحل الأمني حصراً، طالما أن واشنطن لا تزال تمتنع، ولو بالحدود الدنيا، عن طرح مبادرة سلام بين الكرد والترك. ومع دخول الطائرات المسيّرة على خط الجبهة ضد الكرد، تستغل أنقرة التهاون الأمني الأميركي أفضل استغلالٍ من خلال وضع أهدافٍ عشوائية في شمال شرق سوريا لتبرير عملياتها في القامشلي (قامشلو) وكوباني وتل تمر وغيرها من المناطق المستهدفة، وتكثيف سياسة الصدمة والترويع، وإنهاك الإرادة السياسية لدى الإدارة الذاتية.
يقيناً، لا يمكن ترجمة هذه الاستراتيجية عملياً إلاّ إذا نُزع الغطاء القانوني والأخلاقي عن سكان المنطقة. ومع غياب هذا العنصر في الوقت الراهن، فإن مصير المنطقة، بات أشبه ب«هومو سكر»، وهو مصطلح صكّه الفيلسوف الايطالي جورج أغامبين لوصف حالة «الإنسان المستباح» الذي لا يملك حماية قانونية وأخلاقية أمام العنف العاري والطائرات المسيّرة التركية.
ووسط هذه السياسات الانتهازية الصارخة، يبدو من الاستحالة فرض منطقة حظرٍ جوي وتوفير حالة قانونية تحمي المنطقة. ومع ذلك، ينبغي تصعيد الضغط على إدارة بايدن من خلال الأهداف الأميركية السائلة في سوريا بخفض عمليات التصعيد وفض الاشتباك ومتابعة انتهاكات حقوق الإنسان وفرض العقوبات الاقتصادية تبعاً لذلك. وتبدو أغراض هذه الأهداف، ولو نظرياً، رافضةً لجميع أشكال الاشتباكات العسكرية، محلياً وإقليمياً، وترجّح فرضية العقوبات قانونياً واقتصادياً.
وعلى العموم، وبحكم سنوات الحرب والعنف والمجازر والتهجير الطويلة وآثار اللعبة الجيوسياسية على البلاد، تراجعت فكرة السلام إلى الخلف في الملف السوري. وتراكمت، على مسارٍ مواز، تحدياتٍ وجودية واحتياجاتٍ محلية هائلة، فيما تضاعفت حدة الانتهاكات التركية. ومع هذا المناخ البائس، صرّح بايدن، خلال زيارته إلى بيت لحم في الصفة الغربية، وهو يشير إلى احتياجات الشعب الفلسطيني وأمنه: «لا يمكن الانتظار حتى يتم تحقيق اتفاقية السلام بين إسرائيل وفلسطين، أو يتم حل كل القضايا لتلبية احتياجات الشعب الفلسطيني». يسري هذا التصريح، في حقيقة الأمر، حرفياً على شمال شرق وسوريا وتحدياتها، من أجل تفادي عبارة «عندما يموت الأمل»، التي تم تدوينها كعنوانٍ فرعي لكتاب الإعلامية الأميركية، ليبرالية التوجه، باربرا والترز، الصادر مطلع العام الجاري.
بناءً على ذلك، وإن بقي للعمل الدبلوماسي والسياسي معنىً اليوم، يجدر أن تطوّر الإدارة الذاتية نطاق علاقاتها مع الولايات المتحدة والدول والمجتمعات عموماً، استناداً إلى نظرية العلاقات الدولية التي لا تحصر حجم التعاون والتبادل بين الدول السيادية الكلاسيكية فحسب، وإنما تفسح خياراتٍ أمام الكيانات غير الحكومية. ومن ثم، بناء مصالح مشتركة بهيئة الذات الفاعلة، ورفض فكرة «جنود تحت الطلب». ومن المهم في هذا السياق، كشرطٍ حيوي، تفعيل القدرات والطاقات التي بإمكانها ربط التحديات القائمة وتكيفها مع الأهداف الأميركية الصلبة والسائلة في سوريا، والضغط من أجل إدراج مهامٍ أميركية جديدة في المنطقة تماشياً مع التحديات القائمة.
وقياساً للتحديات القائمة، ومن فحوى التناقضات الأربعة، التي حاولنا أن نسلط الضوء عليها، سنحاول تحديد مقترحات ملموسة على النحو التالي:
1.أهمية وضع خطة إنمائية شاملة بعيدة المدى لمواجهة التحديات القائمة، بالتشاور والتنسيق مع مؤسسات الإدارة الذاتية والجهات الفاعلة والشرائح الاجتماعية. وعلاج المشاكل عبر منهجية علمية متكاملة، أي تشخيص أبعادها الاجتماعية والنفسية والسياسية والاقتصادية والبيئية والأمنية، وتحديد المسببات وتقديم الحلول وفق ذلك.
2.إعادة تعريف الوجود الأمريكي في سوريا بأنه غير محصور في مكافحة داعش فحسب. وأهمية حضور الإرادة السياسية الأمريكية- الغربية بغية تطوير الحقل السياسي والإداري المحلي، استناداً للمعايير العالمية والإدارة الفعالة، وتجنباً للفوضى العارمة والتهديدات الوجودية ضد السكان المحليين. وكذلك تماشياً مع الرؤية الأمريكية الاستراتيجية حيال سوريا، فيما يخص القرار الأممي 2254، وأهمية احترام الإرادة السياسية لشمال شرق سوريا بخصوص تحديد مستقبل البلاد.
3.تكافح القوات العسكرية والأمنية والمؤسسات المدنية في شمال شرق سوريا منذ سنوات طويلة، من أجل صون حقوقهم الجماعية والفردية، وبدون وجود التفاهم الدولي والأمريكي للعقد الاجتماعي المحلي والدفاع عنه في المحافل الدبلوماسية، سيفقد التحالف الدولي شرعيته الدائمة بنظر عيون السكان المحليين، الأمر الذي ينعكس على تركيبة القوات العسكرية والأمنية معاً.
4.على الخارجية الأمريكية ووكالة التنمية وباقي الأجهزة دعم مؤسسات الإدارة الذاتية بشكل مباشر، وزيادة التمويل للبرامج التي تستهدف القضايا الطارئة مثل: ندرة المياه وتدهور الزراعة والتعليم والبنية التحتية، وخلق الفرص والوظائف تناسباً مع احتياجات المنطقة، وعدم اقتران خطة التعافي والمساعدات الإنسانية وبرامج دعم الاستقرار من خلال المنظمات غير الحكومية فقط.
5.تجنباً لعملية الفساد وهدر الأموال واستنزاف الطاقات والوقت، ينبغي تطوير الحوكمة لتشمل المنظمات غير الحكومية والإدارة الذاتية معاً، وذلك من أجل الحد من آلية السوق السوداء وترسيخ العدالة الاجتماعية.
6.حث تركيا على الالتزام بكل الاتفاقيات الدولية المتعلقة بأمن المياه والطاقة، وممارسة الضغط الدبلوماسي ضمن هذا الإطار. سيما أنّ أزمة الجفاف واستخدام المياه كسلاح للحرب ضد المنطقة، بدأت تنتج آثار سلبية مدمرة.
7.إعادة رسم قواعد الاشتباك وفض العمليات العسكرية في سوريا، والضغط بشكل واضح ومباشر لإيقاف كافة أشكال القصف الصاروخي والمسيرات ضد شمال وشرق سوريا، وتفعيل عمل اللجان الحقوقية لرصد الانتهاكات اليومية ومحاسبة مجرمي الحرب. [1]