*كمال غمبار
على الرغم من ان الكاتبة (كلاويز) قد اطلقت عليها قصة طويلة الا ان مقومات البناء الروائي او صنعة الرواية متوفرة فيها.
تدور الرواية حول فتاة علي قدر كبير من الجمال و الحشمة تنجو بنفسها من مخالب الناس الذئاب. فتاة متشردة تهيم علي وجهها قتقودها خطاها الراكضة اللاهثة صدفة بعد ركوبها القطار الي امراة عجوز طيبة حنونة. وبعد ان تفتح قلبها لها بعد تردد شديد و تروي لها قصة حياتها البائسة الشقية تشفق عليها العجوز و تتعهد ان تحميها و تسهر علي رعايتها وعدم التخلي عنها ولو ضحت بحياتها من اجلها.
يبدو في سياق الاحداث و الوقائع ان الرواية تتناول فترة عصيبة رهيبة من العهد الملكي. اي بعد انتكاسة وثبة كانون المجيدة عام 1948 حيث سيطرت بفضل الوثبة القوي الوطنية علي الشارع العراقي و تمتع الشعب مدة من الزمن بالحريات الديموقراطية التي فرضت علي النظام الجائر.و لكن الاجهزة القمعية المتمثلة بالتحقيقات الجنائية لم تقف مكتوفة الأيدي تجاه الوضع الجديد.بل شنت حملة هستيرية و القت القبض علي معظم القادة السياسيين و زجتهم في السجون والمعتقلات. وجراء التعذيب الوحشي من قبل ازلام النظام انهار البعض و كشفت الاسرار.نشرت اجهزة الأمن –التحقيقات الجنائية-اسماء الذين وردت الأعترافات عليهم في كتاب بإسم موسوعة و بعدة اجزاء حيث خدمت الأحزاب السياسية في حينها. و للحفاظ علي سرية تنظيمات الحزب– تقصد بها الروائية كلاويز-الحزب الديموقراطي الكوردستاني في غضون عام 1949 الذي شهد اشرس حملة ارهابية ضد المناضلين، يلجأ افراد عائلة الي الإختفاء والعمل الحزبي السري في بغداد و يقف في صدارة هذه العائلة المناضلة او بالأحري المسؤول الأول عن إصدار البيانات و المنشورات الحزبية (شةمال).
يتعرض بيت العائلة بسبب اخبارية الي ترك شةمال مخبأه السري و الإنتقال الي مدينة كركوك والعيش مدة من الزمن مع عائلة رب بيتها يعمل طباخا عند مدير الشرطة ثم ينتقل شةمال فيما بعد الي السليمانية ومنها اخيرا الي سيتةك محتميا بالشيخ وتحت اسم مستعار . وفي تلك المدة الطويلة ينبهر شةمال بجمال و فتنة و روعة و شخصية (شةونم) فتختارها امه زوجة له و كاد ان يعقد القران عليها في تلك القرية و يتزوجها. غير انه لا تمشي الرياح بما تشتهي السفن فتستشهد مظاهرة جماهيرية بمدينة السليمانية وتنتهي الرواية نهاية مأساوية – تراجيدية-وتدفن الأمال العريضة التي علق عليها شةمال.
لقد صاغت الكاتبة روايتها بشكل فني جيد. حيث نري العوامل السياسية و الإجتماعية التي تحبط بأفراد العائلة المناضلة والمشاركين معهم في العمل السري تمثل المؤثر الحقيقي للرواية.
فهم اشخاص يتحركون على ارض الواقع بكل أحاسيسهم الوطنية و القومية. فهي رواية واقعية لحما ودما وان كانت الأسماء مستعارة إلا ان القارئ اللبيب يدرك بأنهم أشخاص حقيقيون والأحداث والواقع التي تدور حول محيط العائلة وأماكن أخرى صحيحة.
كما أن البيئة تلعب دورا كبيرا في تحريك الأحداث و هي عنصر قائم بذاته . و كذلك الأحداث المتوالية المتتالية تشد القارئ الى متابعة جريان الرواية حيث تتنوع الأحداث فتكون احيانا كبيرة هائلة و احيانا اخري هادئة مناسبة مشوقة.
كما ان الأحساس بالزمان يتمثل بصورة جلية في هذه الرواية ويمتلك الزمان والمكان ناصيتها.
لقد تمكنت الروائية ان تصور شخصياتها فيها تصويرا جميلا دقيقا كشخصيات ايجابية ونامية وثابتة.اذ حللت تحليلا سايكولوجيا نفسية وشخصية وطباع الذين ورد ذكرهم في سياق الرواية والذين تدور حولهم الأحداث أوالذين يحركونها او يفعلونها. حيث أن أشخاص الرواية من افراد العائلة المناضلة والذين ربطوا أنفسهم بالنضال السياسي قوميا و وطنيا تستمد عناصرها من التربية العائلية و البيئة المحلية و السلوك السياسي و الظروف التي تعترض طريقهم.
وأننا ندرك أن الكاتبة الروائية الناجحة تعمد بإسلوبها الفني الي التعبير عن شخصية الإنسان اما بشكل عام مكشوف و ظاهر للعيان او ابرازها صورة غير واضحة المعالم لايظهر جوهرها الا للاختصاصيين المحللين او المقربين منهم و العارفين سيرتهم.
من ها فإن الروائية كلاويز ادخلت نفسها ضمن أفراد العائلة لابشكل إقحامي أو فضولي بل كشخصية مشاركة في العملية السياسية وقد بدت في سياق الرواية علي صلة قوية بأفراد العائلة. أي انها لاتروي لنا الأحداث و الوقائع خارج اطار الرواية. إنما هي تعيش بكليتها في مجري الأحداث و تطوراتها.
ان هذه الرواية علي الرغم من انها رواية سياسية تقع فيها أحداث دراماتيكية مرعبة الا انها لا تخلو من علاقات الحب والهيام لكنها تؤكد علي نوعين من سلوك وممارسات شخوص الرواية بحكم طبيعة علاقاتهم بالسلطة الجائرة كطرف كرس نفسه لخدمة النظام المضاد لمصالح الشعب والطرف الثاني الذي ربط مصيره بأمال وتطلعات الشعب والدفاع عن حقوقه المشروعة. ولهذا حين تصور كل طرف من الطرفين المتناقضين تبرز الفساد الأخلاقي والرذيلة و السقوط في هاوية الموبقات والعمالة و الخيانة. كما تظهر في الطرف الآخر البراءة و الأخلاص و سمو الأخلاق ونكران الذات و التضحية بالنفس و النفيس من اجل تحرير الشعب و الحفاظ علي كرامته.
وتقف بنا علي الشخصية النامية في الرواية كشخصية اسماعيل الطباخ المشهور الذي كان يعمل في بيت مدير الشرطة التي لا تبدو في البداية شخصية واضحة معروفة للعيان حتي لأخ زوجته.ولكن تنكشف تدريجيا و تتطور بتطور الرواية وأحداثها ويكون هذا التطور بفعل تفاعل اسماعيل مع شخصية شةمال كإنسان برئ عفيف متفان من أجل الشعب.وأخيرا يتفاعل مع حب الشعب و التضحية من اجله.و يكون هذا التفاعل ظاهرا للذين يولي الثقة بهم و خافيا للذين لا يعتمد عليهم و ينتهي بالنجاح الباهر في اداء العمل الذي يناط به سواء من قبل شةمال و انور او مدير الشرطة كأداء عمله في إعداد الأكلات الشهية في بيته.وبذلك يمثل اسماعيل الطاهي شخصيتين مزدوجتين شخصية مخفية و شخصية ظاهرة لكنها في نهاية المطاف تمثل شخصية ايجابية نامية.
ان القارئ حين يقرأ هذه الرواية يلمس لمس اليد اثر سيادة شخصية شةمال التي تمثل العنصر الأساسي و المحور الذي تدور حوله كافة الأحداث.اما الأشخاص الآخرون فتكون أدوارهم تهيئة الأجواء السليمة المناسبة له. من هنا فللكاتبة كلاويز طريقتها الخاصة في التعامل مع الشخوص وعرضهم علي ارضية الرواية و تطويرهم وكشف جوانبهم بشكل متدرج وفي سياق روائي مناسب. ولهذا ترسم ملامحهم و ممارساتهم منذ البدء مثل تصوير(شةونم)وهي لاتكتفي بالوصف وذكر الأحداث لكشف الشخصية فقط انما تعمد الي الحوار بين الأشخاص أو الي المونولوج الداخلي (تيار الوعي) أوطرح بعض الافكار والمفاهيم التي يعززها العقل الانساني وهي بهذا تعمد الي التحليل النفسي في تكييف الجو النفسي للشخوص.و هذا لايعني انها لاتتدخل في شؤون شخصيات الرواية انما تدعها تتصرف كما تتطلب احداث الرواية و تطور حركاتها الداخلية. ولذلك تتسم هذه الرواية بنبض الحياة وحرارتها في حركات وسكنات الأشخاص الذين يتحركون ويتحدثون بأسلوب طبيعي كل فرد علي سجيته وطباعه كما يلائم نفسيته وكنه شخصيته.
وأخيرا أشد علي يدي الكاتبة كلاويز علي هذا المنجز الجميل الذي تصدت لمرحلة دقيقة وحساسة وحاسمة للحركة التحررية الكوردية في إبراز دور الوطنيين للمناضلين الأباة في تنظيم هذه الحركة وقيادتها والتفاني من اجل تحقيق انتصاراتها لنيل حقوق الشعب الكوردستاني الصامد.
أكتفي بهذا القدر لأعود ثانية لإلقاء الضوء علي الإنجازات الأدبية الأخري للكاتبة الروائية كلاويز والتي تعد في نظري كاتبة عصامية كونت نفسها بنفسها وهي تتصدر المرتبة الأولي من بين النساء الكورديات الروائيات في غزارة إنتاجها المتميز المتنوع*.
*ملاحظة: ترجم عبدالكريم شيخاني رواية (عابرة سبيل هائمة) و كتب عنها كلمة مقتضبة منشورة في الغلاف الثاني من الكتاب و هي تقع في (176) صفحة من القطع المتوسط طبعت في مؤسسة حمدي للطباعة و النشر/ السليمانية.[1]