*شورش درويش
قبل قليل من منح الرئيس التركي أردوغان الضوء الأخضر لانضمام السويد لحلف شمال الأطلسي (ناتو)، اتهمت وسائل إعلام روسيا، قوات سوريا الديمقراطية (قسد) بإرسال مقاتلين إلى أوكرانيا، فخلال السنوات القليلة الماضية دأب الروس عبر التصريحات الرسمية، والإعلامية التي تدور في فلك الكرملين، على اتهام الإدارة الذاتية بالسعي للانفصال و”إقامة دولة كردية” بمساعدة أمريكية، فيما الغاية من تكثيف هذه الدعاية جاء لأجل استثارة تركيا وتسعير الخلافات التركية الأمريكية. وقد جاء اتهامها الأخير ليلة توجّه أردوغان إلى فيلنيوس حيث تعقد قمّة الناتو.
هذه المرّة لم تجرِ أنقرة خلف هذه الدعاية الروسية المبتذلة لشدّة وضوح حجم الافتراء فيها، كما أن أنقرة قررت العودة إلى بيت الطاعة الغربي عبر بوابة عضوية السويد في الناتو، وبطبيعة الحال لم تتكبّد قسد عناء الرد المطوّل على محاولة الإعلام الروسي تلك، واكتفت ببيان تكذيب لتلك الأخبار. ويمكن تكثيف متن البيان في جملة واحدة وردت فيه “قواتنا غير مهتمة بقضايا خارج سوريا”.
تقودنا المواقف الروسية الحادة من #الإدارة الذاتية# ، وكرد سوريا على وجه التحديد، إلى تاريخ العلاقة الروسية الكردية، إذ برعت روسيا، خلال هذه العلاقات الممتدة على قرنين من الزمان، في إقامة العلاقات مع القبائل، ثم مع الأحزاب الكردية.
تفيدنا في هذا السياق آنا بورشيفسكايا في بحثها الموسوم “روسيا والكرد: أداة قوة ناعمة للكرملين؟” لجهة استعراضها أبرز مراحل التعاون الروسي والكردي، وكيف أن موسكو وظّفت قوتها الناعمة في خطب ودّ الكرد، وذلك بالاعتماد على العلاقات الثقافية والسياسية المبكّرة، فقد أبدت روسيا اهتماماً بالتنوّع الإثني في روسيا القيصيرية؛ ففي إحصاء جرى عام 1897 بلغ مجموع الذين قالوا إن الكردية هي لغتهم الأم 100 ألف نسمة، كما ساهمت روسيا السوفيتية في إقامة جمهورية كردية في القوقاز أطلق عليها كردستان الحمراء “كراسنايا كردستان” وعاصمتها لاتشين (1923-1929)، لكن رغم ذلك لم يسلم الكرد من بطش جوزيف ستالين، المتشكّك والمرتاب، الذي غيّر من شكل التواجد الكردي في أذربيجان وأرمينيا وجورجيا وقام بنقل قرابة مئتي ألف كردي إلى كازاخستان وآسيا الوسطى في أعوام 1937 و 1944.
وإلى جانب رعاية الروس للثقافة الكردية داخل حدودها، فقد رفدت العالم الكردي بمستشرقين روس/سوفييت قدّموا دراسات مهمّة في مجال الكردولوجيا كمينوريسكي ولازاريف وباسيل نيكتين وحصرتيان وأولغا جيغالينا..والقائمة تطول طبعاً، فإن الجانب السياسي لم يغب عن الروس الذين حاولوا استمالة الكرد نظراً إلى تموضعهم بين الإمبراطوريتين العثمانية، والصفوية (وإيران البهلوية لاحقاً)، وبطبيعة الحال شكّلت المناطق الكردية المجال الحيوي لروسيا والدافع للتعامل مع الكرد، وربما استخدامهم في إضعاف خصومها، إذ سنشهد على سبيل المثال دعم موسكو إقامة جمهورية كردستان (مهاباد) عام 1946 وتخلّيهم عنها لاحقاً، وإقامة العلاقات مع الثورة الكردية في كردستان العراق عبر بوابة الاستخبارات السوفيتية (الكي جي بي)، ثم تخليهم عنها أيضاً مع وصول حزب البعث إلى السلطة، ولا تغيب كذلك محاولة التعاون مع العمال الكردستاني التي لم تفضي إلى أي شكل جدّي للتعاون؛ فمع اندلاع حرب الشيشان الأولى كانت موسكو تلوّح لأنقرة بالورقة الكردية للحد من جموح أنقرة في دعمها المجاهدين الشيشان.
على أن تاريخ الخذلان الروسي للكرد، لا يقل عن ذلك الأمريكي الذي يستحضره دارسو التاريخ الكردي المعاصر. وقد يمثّل هذا التخلّي الروسي عن الكرد غير مرة، تفريطاً بحليف محتمل تربطه بالعالم الروسي وشائج ثقافية وسياسية، وجغرافية أيضاً. ففي الحالة الكردية السورية، غابت قوة موسكو الناعمة التي كان من الممكن أن تنفذ من خلالها إلى وجدان المجتمع الكردي، كما غابت قوتها الخشنة عن حماية الكرد عندما تمدّدت داعش وأطبقت الحصار على كوباني، فضلاً عن تهاونها أمام الاعتداءات التركية واحتلالها لعفرين ورأس العين/سرى كانيه وتل أبيض.
واقعياً كانت المحاولات الروسية قليلة الأثر من قبيل الحديث عن حكم ذاتي ثقافي للكرد، ثم التراجع عن ذلك، وتصريحات وزير الخارجية سيرغي لافروف عن إمكانية استنساخ تجربة فدرالية كردستان العراق في سوريا، والمطالبات الروسية بمشاركة الكرد في مباحثات جنيف، واستضافتها لأطراف سياسية كردية في موسكو، غير أنها انزاحت لاحقاً وبقوّة لدعم تركيا والتشبيك معها منذ نهاية العام 2015.
في الحقيقة كان الإغراء التركي أقوى من أن يقاومه الروس، صفقات تجارية وأخرى عسكرية ومشاريع إنشائية كبرى، والأهم الوصول لانسجام سياسي في سوريا تمثّل بالرغبة المشتركة في خروج القوّات الأمريكية وترك الكرد بلا غطاء يقيهم العدوان التركي أو سيطرة النظام بدعم روسي إيراني على كامل مناطق الشمال الشرقي.
في الأثناء وبعد أن عادت تركيا إلى قواعدها الأطلسية وإلى حضن واشنطن وبروكسل، تشعر روسيا بمرارة الخيبة من آخر استدارات أردوغان؛ فبوتين الذي ظنّ أن نجاح أردوغان في الانتخابات هو المقدمة الجيدة لاستكمال الخطوط العريضة التي خطّاها معاً في سوريا وأوكرانيا والقوقاز وكسر الحصار عن روسيا وإحداث اختراق في جبهة الأطلسي خابت توقّعاته، وألغى زيارته المنتظرة إلى أنقرة، فيما عبّر المتحدّث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف عن خيبة بلاده من فعلة أردوغان، وبمسحة من السخرية لا تخفي الألم قال: “لا أحد من الأوروبيين ينتظر تركيا في أوروبا، ولا ينبغي أن ترتدي أنقرة نظارات وردية في هذا الصدد”.
وعليه قد لا يكون الرد الروسي في سوريا قائماً على توسّل القوّة العارية، ذلك أن أحوال تركيا وروسيا في سوريا لا تشجّع أحدهما على كسر خطوط خفض التصعيد بشكل حاد، لكن روسيا قد تتبع طرقاً أخرى لترد اعتبارها. وعليه، قد يكون الكرد المادّة التي سيشتغل عليها الروس في سياق “تأديب” أنقرة وتشجيع النظام السوري للخوض في حوار مع الإدارة الذاتية. لكن هذا الافتراض يمرّ بالحاجز الأمريكي واحتمالات التصعيد بين موسكو وواشنطن في سوريا، ويمر كذلك بسيرة كردية روسية طويلة ومضطربة حيث كان الكرد جزءاً من تكتيكٍ روسيّ أثير لإشغال الآخرين ليس أكثر.
*وكالة نورث برس.[1]