=KTML_Bold=د. محمود عباس: إرادة الخالق أم خطأ المخلوق.. الكرد مثالاً -الجزء الثاني=KTML_End=
لربما كانت ظهور جدلية العلاقة الاندماجية، بين الخالق والمخلوق، في الأديان تتشابه وإلى حد ما، بالنوعية وليس بالكم، والرباط التبعية بين معظم أطراف الحركة الكردية وخالقها. والاختلاف هنا، هي بين القناعة بالإيمان أو فرضها بالإكراه والهيمنة، والأخيرة جعلت من محاولات الفصل، حتى الأن، شبه مستحيلة، ولتخفيف انتقادات الشارع الكردي على هذه الظاهرة، وجدت لها خالقها مصوغات، كالعلاقات التكتيكية أو الاستراتيجية، والتحالفات الإقليمية، وبها تم تقسيم المجتمع الكردي بين أحزاب تابعة متصارعة، سهل على المستبد التحكم بإرادتها، وتسخيرها لعبادته (تنفيذ أجنداته) كصلاة المخلوق لخالق خارج مداركه العقلية، وهو ما يطمح إليه خالق الأحزاب الكردية، بحيث يبلغ الطبقات الأبعد من مجالات التعرف عليها، ومجابهتها.
وعملية توجيه بعض الأحزاب الكردية السياسية وتحريضها للثقافية، إلى الكم في الصراعات تقف عليها المربعات الأمنية وبدقة، فإلهاء الشارع الكردي بالخلافات الثانوية، والتضييق على مداركهم ضمن قضية بسيطة، بتصعيدها إلى حرب كلامي، كالتي جرت على مؤتمر آستانة، حول الحضور وعدمه، كانت لإبعادهم عن القضايا الرئيسة، كمجريات الأحداث في المؤتمر بعموميته، والمواضيع التي بحثت، والمؤامرات التي جرت بين الأطراف العاقدة لها. فهذه الأساليب هي من ضمن الجدلية المذكورة، التي تعمل عليها السلطات الإقليمية في هذه المرحلة، فلقد بلغت القوى المهيمنة مراميها حول ما يجب أن تكون عليه اطراف الحركة الكردية في مجريات مؤتمر آستانة، عندما أخرجت بل وحرضت شريحة واسعة من أشباه الكتاب وبعض المثقفين باستخدام الكلمات الدونية والسوقية، وصعدت التلاسن والتخوين، في صفحات التواصل الاجتماعي ضد الطرف الكردي الآخر المختلف، وبها تم إلهاء شريحة واسعة من المجتمع، وتباهى أولئك الكتاب ببشائعهم، كقادة في الحروب مع الأعداء مع صمت قيادات الأحزاب، وبقدرتهم على تجميع أعداد من المؤيدين، متناسين ومنسيين المجتمع أن كل هذه الحروب الكلامية تصب في خدمة الأعداء، وأول الخاسرين هم الطرف الحزبي المتبني، أو المدافع عنه في الظاهر الكلامي، في الوقت الذي لم تظهر فيه أية بيانات من الطرفين حول مسؤوليتهم أو نفيها لهذه الظاهرة الشاذة. ومن المؤسف أن الطرفين، لهما الإمكانيات على كبح هذا التلاسن والتصعيد الكلامي، ولا يعلمان أنهما أدوات بيد الخالق الاستبدادي، والذي في حقيقته ليسوا بتلك الحنكة التي لا يمكن القضاء عليهم، ودحضهم، ومعرفة بأن القضية الكردية تتحكم بها القوى الكبرى، وتنتظر مدى وعيها.
والرباط الروحي، بين الإنسان والرب، هي الطفرة الفكرية الأغرب والأصعب منذ بدء ظهور الأديان عند الإنسان، حتى ولو كانت الفكرة منتشله من أديان وثنية سابقة لها، فهي عكست سوية تراكماته المعرفية في مرحلة معينة من التطور الذهني، وهذه العلاقة لا تختلف في كثيره عن العبودية القسرية الفارضة من قبل السلطات الاستبدادية المهيمنة على مقدرات الشعب الكردي وأحزابه، من خلال مخلوقاته الأخيار، لكن الاختلاف هو أن الإنسان وبعد نقلات نوعية من حيث الإدراك والتراكم المعرفي، تصاعدت الثقة بالنفس إلى حد مجابهة الخالق، وتجاوز أو تدمير الرباط الروحي بينه وبين الأصنام، أنصاف الألهة، والتي كانت تعكس طيف الخالق، فألغى معظمها، خاصة عندما عرف أسرارها، وأحل ذاته الإنسانية مكانها، ليكون خليفة الخالق المباشر، وتعاظم إلى أن جعل نفسه وحيده على الأرض، وذلك في صورة المسيح.
فهذه الشريحة الثورية في المجتمع الكردي لا تزال في أطوارها الأولى، ولا تملك بعد القدرة على تغيير مسيرة وارتباطات الأحزاب، أو توجيهها وخلق الثقة فيها وإعطائها القدرة على مجابهة خالقها، أو تعرية تلك العلاقة المشابهة لعلاقة المسيح بالرب، أو وضع البديل للخالق الاستعماري من أحضان المجتمع الكردي. والنقلة في الواقع ضمن مجالات الأديان، هي نتيجة سلسلة من التحويرات والتطورات الفكرية والمعرفية، والمؤدية إلى تأويلات ثورية للعلاقة الغامضة بين الخالق والإنسان، أو بين الخالق وأنصاف الألهة (الملوك)، والغموض هنا يلعب دوره الرئيس، لهذا نجد أن الأحزاب الكردية ومجموعة من قياداتها وبأوامر من الخالق يشددون على السرية في العلاقات وطرق التعامل ونوعية الإملاءات، فالمفاهيم التي لقنتها المربعات الأمنية للأحزاب، تتشابه والمضامين الميتافيزيقية الغامضة، لديمومة الرهبة.
وعلاقة المسيح بالرب الأب، تعكس تلك النقلة النوعية لملوك اليهود بعد التقرب الأسبق للخالق، والمتمثل بتكلم موسى مع ربه، بنقل الحدث مع استحالة السماح لمتبعيه بمناقشته أو استخدام العقل فيه، حينها رفع موسى، مكانته من مجرد ملك لليهود إلى قريب للخالق، والفكرة عكست جزء من مفاهيم الفراعنة الذين كانوا يعرضون ذاتهم، ليس كملوك، بل كآلهة بشرية على الأرض، وكانت تلك الثقافة مهيمنة على مفاهيم موسى وشعبه. والمسيح بظهوره كابن للخالق، هي الطفرة العظمى لتلك المفاهيم، التي بها نقل الإنسان ذاته إلى مرحلة أعلى في التعامل مع الخالق، وبدأ الصراع معه على الحقيقة وعدمه.
ظهرت السيرة هذه في المجتمع الكردي السياسي والثقافي، لكن بوجهها المعاكس، فهناك تجلى بإبداع من المخلوق، أما عند الكردي برزت بتخطيط من الخالق ولم تكن نتاج نضاله. فالسلطات الاستعمارية الإقليمية عن طريق مربعاتها الأمنية، عملت على نقل القيادة من قائد ثورة وشخصية وطنية، إلى تعظيم رئيس حزب وتعميمه كقائد كردستاني شامل في الوقت الذي لا يزال محاصرا في جغرافيته الحزبية، ولا يستطيع تجاوز الخلافات الداخلية، ولا يتمكن من نقل الصراع مع المخلوق إلى الصراع مع الخالق المتحكم بمعظم مقدراته، وصعد ببعضهم إلى درجة أن حديثهم مع السلطة يقارن أصحابه بحديث موسى مع الرب.
والنقلة الروحية اللاحقة جاءت مع فكرة خاتم الأنبياء، محمد رسول الله، كقفزة نوعية بحد ذاتها، تستند على حيز ثقافي مغاير، أقترب بها الإنسان من العلوم الأرضية، متعاملاً مع الأخر بمجهول مخالف، أكثر رهبة، وكالسابقين أحاط مفهومه بالإطار المطلق، يجب تقبل معظمها دون التحكم إلى العقل، كالمسائل المتعلقة في الإيمان بالنص عند الشك فيه، وحول القدرات الإلهية، وأسباب وجود رابط بشري مثله ما بين الخالق والمخلوق، والتي بسببها لم يعد الخالق قريباً له، فالرابط عزله في العتمة لتضخيم الرهبة، وتسهيل التبعية، وهكذا استمرت الجدلية المحيرة إلى أن بلغ عالم تغيرت فيه التراكمات المعرفية. وقد تكونت هذه النقلة النوعية في مؤتمر بروكسل الذي تبناه المجلس الوطني الكردستاني – سوريا عام 2006م، عندما عرضت حينها مفهوم العمل المشترك وتوزيع الأدوار ما بين الداخل والخارج، ولولا الإشكاليات التي أدلجت فيها، لكان اليوم المطلب الفيدرالي قضية منتهية منها في المحافل الدولية الكبرى، مع ذلك فلا يزال المجال مفتوحا، والدروب ممكنة، شرط التخلص قليلا من أجندات القوى الإقليمية، وتقبل الكردي الآخر.
يتبع…
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
MAMOKURDA@GMAIL.COM
[1]