=KTML_Bold=الكرد من التمرد والانتفاضة إلى إعلان الثورة 1=KTML_End=
وليد بكر : (كاتب وعضو منتدى حلب الثقافي)
لكل شعب أيام، ومناسبات تعبر عن رمزية وجوده ومقاومته وانتصاراته، وقد كان للانطلاقة المسلحة، التي بدأت في 15-08-1984 وقعاً تاريخياً خاصاً وأثراً واضحاً على حياة الشعب الكردي ومسيرة حركة حرية كردستان، وقبل أن نبين في هذا المقال ظروف انطلاقة هذا الحدث الهام وتأثيراتِه على الساحة الإقليمية والداخلية، لا بد لنا أن نبحث في تاريخ الشعب الكردي وجذوره الراسخة في المنطقة وباقتضاب.
يعيش الشعب الكردي على أرضه التاريخية منذ آلاف السنين، وذلك في المنطقة التي سميت من قبل الإغريق “بميزوبوتاميا أي بلاد ما بين النهرين”، خارطة كردستان الحالية، والتي تُظهر الجغرافية التي يتوزعون فيها تثبت ذلك، يقال “كردستان هي مهد البشرية” وعندما نتساءل لماذا؟ يكون الجواب لأن على هذه الجغرافية بسفوح جبالها وخيرات سهولها، عاش عليها الإنسان العاقل، وأسس مجتمعه مستنداً إلى ثقافة المرأة “الآلهة” الأم، والتي كانت تدير المجتمع بعدالة وأمن وسلام، فقد اكتشفت الزراعة ودجنت الحيوانات، وبنت القرى، وأصبح الاستقرار فيها بدل التنقل الدائم للمجموعات البشرية، على هذه الأرض، التي تُوصف بالجنة، وظهر فيها الكثير من الأنبياء، والأديان والرسل والفلاسفة والعلماء، وتتالت عليها الحضارات من السومرية إلى البابلية والهورية الميتانية. ونتيجة موقعها الجيواستراتيجي والجيوثقافي في الشرق الأوسط ولخيراتها الوفيرة كانت سبباً في مطمع الغزاة الطامعين فيها وتوسيع إمبراطورياتها، من الساميين (العرب، والآراميين، والأكاديين، والآشوريين) وبعد ظهور الإسلام أتت إليها العشائر العربية، وسكنت فيها وفي أطرافها، كذلك فعل الرومان والمغول والصليبيون، وثم السلاجقة والأتراك العثمانيون، وجرت على جسدها الصراعات بين القوى الكبرى المتنفذة، وقسَّم الشعب الكردي بين تلك الامبراطوريات، والدول والاحتلالات واشتغل في صراعاتهم الدينية والمذهبية.
سُمي الكرد من قبل الشعوب المجاورة بأسماء متعددة حسب لغتهم (قبل سبعة آلاف سنة) ب: السوباريين، الهوريين، الكوتيين، واللولويين، الأورارتيين، الميتانيين، والميديين، جميع هذه الصفات تعني (الشجعان، أصحاب الثيران، وسكان الجبال والتلال والمناطق الشمالية الباردة)، وسموا على اسم آلهتهم (الجوديون، الكاشيون، الخالديون).
لقد قاوم الكرد جميع الغزاة، وحتى هاجموا أماكن انطلاقتهم منها، فحكموا سومر، وآكاد، وبابل عشرات السنين من /2300-1100/ ق.م، وشكلوا عصوراً وعهوداً باسمهم في ميزوبوتاميا وحتى ممالك ودول، وامتد حكمهم من شرق إيران الحالية حتى الساحل المتوسط وفلسطين، وعقدوا تحالفات واتفاقات مع الحثيين والبابليين والفراعنة، وبتحالفاتهم هذه مع توحيد العشائر والقبائل الكردية تم القضاء على حكم آشور الظالم، وأحدثوا نوروز الشعوب عام /612/ ق.م. باسم مملكة الميديين، لكن نتيجة الخيانة والتآمر سقطت هذه المملكة عام /550/ ق.م على يد البارثيين، وظلوا يلعبون دورهم، ويساهمون في صراعات المنطقة بين مختلف القوى، وأظهروا شجاعتهم في القتال، لكن معظمها كانت لصالح القوى الكبرى، وشكلوا عدة إمارات وممالك مستقلة، أو شبه مستقلة ك: ميديا الأتروباتية، والزنديين، الساسانيين، الشداديين، (في الشرق) المروانيين، الأيوبيين، الصوران، بدرخان بك، وكلس في الغرب.
تم تقسيم كردستان إلى قسمين بين العثمانيين، والصفويين عام (1639) م في اتفاقية سميت ب “قصر شيرين” وبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى قامت الدول المنتصرة بتقسيم التركة العثمانية إلى دول تابعة لها، فتم تقسيم كردستان إلى أربعة أقسام (تتبع لدول سيتم إنشاؤها) في اتفاقية سميت ب “سايكس بيكو” عام /1916/م. وإنشاء /22/ دولة عربية. واتفقوا أيضاً في (سيفر)على التمهيد لإنشاء دولة كردية وأخرى أرمنية، لكن بعد أن سيطر (مصطفى كمال أتاتورك) على الخلافة العثمانية، وأنشأ الجمهورية تنكَّر للاتفاقية وتنازل للقوى المهيمنة، فعقد اتفاقية جديدة عام /1923/ سميت (باتفاقية لوزان)، ويعدُّ التقسيم الفعلي لكردستان إلى أربعة أجزاء كما ذكرنا، ولم يذكروا شيئاً عن مصير كردستان، سوى عليهم أن يعيشوا تحت حكم الدول التي ألحقوا بها، ونتيجة لهذا الظلم انتفض الكرد ضد الدول المسيطرة، فقامت انتفاضة الشكاك في ايران /1920- 1927/ والشيخ سعيد/1925/ وآغري /1930/ وسيد رضا في ديرسم /1937-1939/، وثورة أيلول في باشور من /1961-1975/، وبمساعدة السوفييت أقيمت جمهورية مهاباد /1946/ لمدة /11/ شهر.
قامت الحكومات بارتكاب المجازر بحق الشعب الكردي والقضاء على تلك الانتفاضات وإعدام معظم قادتها. وتتفق الدول المستعمرة لكردستان فيما بينها (بالأمس وحتى اليوم) للقضاء على أي انتفاضة تحررية كردية، وتستخدم كافة صنوف الأسلحة لتدميرها وكذلك أساليب الحرب الخاصة من زرع الخونة، وتأليب الشعب على بعضه، واستخدام الإبادة الثقافية والصهر في بوتقة الأنظمة الشوفونية الحاكمة، فتم ممارسة سياسة تجويع الكرد لسهولة تهجيرهم وإحداث التغيير الديمغرافي. بالرغم من مساهمة الكرد تلك الأنظمة في بناء دولهم وكذلك ساهموا في نشر الدين الإسلامي أيضاً، والتصدي للغزاة من الخارج لصالح تلك الأنظمة، ولم يفكروا بإنشاء كيان خاص بهم نتيجة انقساماتهم العديدة، وعدم ظهور قيادة حكيمة وراشدة عصرية تجمعهم وتحلل الظروف والحال الذي آلوا إليه، من الاستسلام للواقع المرير والوضع اليائس الذي يعيشونه والاغتراب الوطني، وتزرع فيهم الروح الوطنية على أسس علمية وتقدمية، ليستطيع تنظيم انتفاضتهم من جديد ضد جلاديهم، ومغتصبي أرضهم وتاريخهم.
بعد المخاض كانت الولادة
بعد كل هذا التاريخ الحافل بالمقاومة لم يستطع الكرد بناء كيان خاص بهم في العصر الحديث، في هذه الظروف الصعبة، والوضع المميت، ظهر في بداية عام 1970مجموعة من المثقفين الشباب الجامعيين من الكرد والترك، واتفقوا أن يكتبوا تاريخهم بنفسهم معلنين أنه حان وقت إيقاف هذا الظلم والإنكار بحق شعبٍ أصيل ذي حضارة عريقة، وقالوا كفى للأنظمة الدكتاتورية الكاتمة على أنفاس الشعوب، وكان يقودهم شاب ثوري مفعم بالنشاط اسمه (عبد الله أوجلان)، وأول ما قام به بعد تأسيس هذه المجموعة هو ضرورة قراءة و تحليل التاريخ، والواقع الذي تعانيه الشعوب وخاصة الشعب الكردي، والبحث عن أسباب ضمور الشخصية الوطنية، وخلق الأرضية لظهور تيارات طفيلية منافقة تدعي القومية، والوطنية، والاشتراكية واليسارية، ولا تحرك ساكناً بل تساهم في إرساء سياسة النظم الجائرة في المنطقة.
بدأت هذه المجموعة بنشر أفكارها النيرة في جميع أنحاء كردستان، وتركيا والمنطقة، بجهود حثيثة وجبارة وصراع كبير مع الكرد المستسلمين للقدر، الذين كانوا “عسكر للغير” في حروب “لا ناقة لهم فيها ولا جمل”، وتم استهدافهم واستشهاد عدد من رفاق هذه المجموعة، ومنهم حقي قرار، وخليل جاوغون، وصالح كندال، ووفاءً لذكراهم أعلن عن تأسيس حزب العمال الكردستاني (PKK) عام /1978/ ويزيد بذلك مسؤوليتهم النضالية وليوسعوا ويكثفوا نضالهم المنظم بين الجماهير، يقول القائد أوجلان عن هذه المرحلة: “كانت البداية صعبة لإقناع الشعب، فكانوا يقولون، الكرد شجرة يابسة لن تينع، وما باليد حيلة فالدولة قوية، مع ذلك بدأنا ولم نكن نملك المال ولا السلاح، لكن كان إيماننا كبيراً بصحة توجهنا، وتابعنا النضال كمن يحفر بئراً بإبرة”. وبالفعل يوماً بعد آخر اقتنع الشعب بجدية هؤلاء المناضلين وأخلاقهم العالية، حتى أنهم تركوا دراستهم وكل ما يتعلق بالحياة الشخصية في سبيل قضيتهم، وبذلك أسهموا بأن ينضم الآلاف من الشبيبة إليهم، ومن كل أجزاء كردستان الأربعة ومن كافة الشعوب والطبقات الاجتماعية.
لم يرق للأنظمة الحاكمة لكردستان ظهور حركة تحررية ثورية عصرية بهذا الشكل والجدية، وخاصة النظام التركي، وبدل أن يحل القضية الكردية والديمقراطية في تركيا بالطرق السلمية، أعلنوا عن حالة الطوارئ في البلاد وقام بارتكاب العديد من جرائم القتل والاعتقالات من بين صفوف وأعضاء وأنصار الحركة التحرر، ومارس أشد أنواع التعذيب الجسدي والنفسي بحقهم في السجون والمعتقلات، لكن هؤلاء الشباب المناضلين لم يستسلموا ولم ييأسوا وأظهروا للجلادين، وأسيادهم في الدولة التركية أن لا شيء يوقفهم عن نضالهم الذي أقسموا على السير عليه مهما كانت الظروف، وما المقاومات العظيمة في السجون بعد الانقلاب العسكري في /12/ أيلول /1980/ خاصة في سجن (آمد) عام /1982/ ، سوى الصفعة التي تلقاها العدو وأصابه الجنون عن المقاومة الباسلة، والشجاعة لدى المناضلين والثوار المعتقلين الأسرى، رغم التعذيب الشديد وتخويفهم بالإعدامات والموت بطرق عدة رداً من المناضلين أعلنوا بأن المقاومة حياة، وأن الاستسلام هو خيانة، وفي سابقة تاريخية يندر مثيلها لا في تاريخ المقاومات الوطنية التحررية، ولا في تاريخ ظهور الأنبياء، والرسل، والعلماء، والفلاسفة، قاموا بحرق أنفسهم وأضربوا عن الطعام حتى الشهادة.
وكان قد أعلن هؤلاء المناضلون المعتقلون في السجون قبل استشهادهم في قاعة المحكمة بأن “هذا النظام الدكتاتوري الغاشم، لا يفهم لغة السياسة والديمقراطية وأنه لا بد من الكفاح المسلح لحماية الشعب وإرضاخه للسلام والتغيير الديمقراطي”.
واُعتبر هذا النداء بمثابة تعليمات للمناضلين خارج السجون وبدأ تأسيس الأرضية للكفاح المسلح ففي منطقة البقاع اللبنانية في معسكرات المقاومة الفلسطينية تجمع رفاق حركة حرية كردستان هناك، وأعادوا تنظيم أنفسهم وقاموا بالتدريبات العسكرية والإيديولوجية، وقاوموا ببسالة الغزو الإسرائيلي للأراضي اللبنانية وقدموا العديد من الشهداء، ونتيجة بطولاتهم تم منح الرفاق قطعة أرض للتدريب كمعسكر خاص بهم، ومع تدريباتهم قرر المناضلون والثوار العودة للوطن، والرفع من وتيرة نضالهم ومجابهة الطغمة العسكرية الحاكمة بلغة السلاح الذي لا يفهم سواه، وانتقاماً لرفاق مقاومات السجون، تم تثبيت قرار العودة للوطن وطرح مبدأ الكفاح المسلح في المؤتمر الثاني للحزب عام /1982/ وتمت التحضيرات والاستعداد لذلك، ورغم خروج بعض المشاكل ساهمت في تلكؤ البعض في التنفيذ ومواقفهم المضادة للكفاح المسلح تم البدء بالعودة والتصميم على الانطلاقة، المسلحة وبحوالي /300/ مقاتل بأسلحة فردية وحدد تاريخ 15-08-1984 يوماً لاستهداف بعض مخافر الجيش التركي، وثكناته في بلدتي (أروه وشمدنلي) بقيادة معصوم قورقماز (الشهيد عكيد) ورغم الصعوبات، التي واجهتها المجموعات العسكرية في البداية وظروف الجبال القاسية وخاصة في الشتاء لم تقف عائقاً أمام تقدم الثوار ويوماً بعد آخر ازداد الانضمام لقوات تحرير كردستان (HRK)، وبدأ التفاف الجماهير الشعبية حولها، فتم الإعلان عن جبهة التحرير الوطنية الكردستانية (ERNK) في نوروز/1985. ونتيجة عمليات بطولية للمقاتلين استشهد قائد قوات تحرير كردستان HRK معصوم قرقماز (عكيد) في 28-03-1986 في جبل كابار، وبعد انعقاد المؤتمر الثالث لحزب العمال الكردستاني في عام 1986 تم الوقوف على النواقص، والأخطاء، وسبل تجاوزها فتم الإعلان عن تأسيس جيش التحرير الشعبي الكردستاني (ARGK) وفاءً لذكرى قائدهم معصوم قرقماز (عكيد) تم تسمية المعسكر في لبنان باسمه (أكاديمية معصوم قورقماز) وبدأت، بتخريج الآلاف من المقاتلين منه، وإرسالها لساحات كردستان، وثم تغير الاسم إلى قوات الدفاع الشعبي (HPG) لاحقاً تماشياً مع المشروع الديمقراطي الذي طرحه القائد أوجلان بعد أسره في إيمرالي ونتيجة الدور الهام للمرأة، والانضمام الهائل لهن، تم الإعلان عن حزب خاص بهن (حزب المرأة الحرة الكردستانية) وقوات خاصة بها باسم (YJA-STAR)، وفي ثورة روج آفا أيضاً تم إنشاء وحدات حماية الشعب ((YPG، ووحدات حماية المرأة YPJ وقوات الحماية الذاتية “الجوهرية” (HPC)، وذلك للدفاع عن الشعب ومكتسبات الثورة، إن وحدات حماية المرأة أظهرت بطولات ومعجزات أمام القوى الهمجية المهاجمة المدعومة من القوات التركية الأطلسية، وأبهرت العالم في ذلك، حيث فتحت أمام المرأة المقاتلة قصر “الأليزيه” الفرنسي وتم تكريمها فيه. وكان كل ذلك بفضل الرصاصة التي انطلقت في 15-08-1984 والتي منحت القوة لشعبنا في النهوض والمقاومة في السجون والساحات الكردستانية وإعلان إدارتها الذاتية الديمقراطية في “روج آفا” وما حولها، مستندين إلى روح مقاومة وسلاح أبنائها الشجعان في الأجزاء الأخرى من كردستان.[1]