أنقرة غير مخلصة في حربها على «داعش»
الأرجح أن الحرب التركية على «داعش» بدأت. هذا القول، الذي قد ينطوي على بداهة بعد إغارة طائرات تركية على مواقع التنظيم الإرهابي في شمال سورية وشرقها، إنما ينطوي بالفعل على قناعة بأن هذه الحرب ما كانت قبل اليوم قناعة أو ممارسة لدى حكومة أنقرة. لا بل أكثر من ذلك، فالوقائع تؤكد أن تركيا تغاضت عن حقيقة توسع التنظيم داخل سورية عبر حدودها، وعن رفده بمقاتلين أجانب كانت رحلتهم من بلدانهم إلى سورية عبر تركيا نزهة سهلة.
ثم إن هدنة سنوات بين «داعش» وأنقرة كانت سائدة وتجلت في غير محطة ومكان. فالدولة الوحيدة التي نجحت في مبادلة رعايا مخطوفين لدى «داعش» كانت تركيا (أفراد القنصلية التركية في الموصل)، كما تولت أنقرة التوسط لمختطفين غير أتراك لدى التنظيم ونجحت في أحيان كثيرة في إطلاقهم. وإلى اليوم يستمر خيط رفيع من العلاقة، فالتنظيم لم يسارع إلى تبني تفجير سروج، خلافاً لما فعل في تفجيرات أخرى في العالم لم تكن له يد فيها أصلاً، وتردده في تبني التفجير على رغم ترجيح وقوفه وراءه يقول إنه ليس بصدد قطع شعرة معاوية مع أنقرة.
آلاف المقالات والدراسات كانت خلصت إلى أن هذه الحرب آتية لا محالة، وأن التغاضي التركي سيرتد على أنقرة. الدروس كثيرة وأنقرة اختبرتها على نحو لا تخطئه العين ولا العقل، بدءاً من باكستان راعية «القاعدة» وضحيته لاحقاً، وصولاً إلى النظام السوري المستمر في توظيفه عنف «داعش» لكي يستعيد أنفاساً يبدو أنه لن يستعيدها.
لكن الحرب التركية على التنظيم الإرهابي انعقدت اليوم على معضلة تركية أخرى سيجد التنظيم فيها فرص توظيف واستثمار لا بأس بها، وستتخبط فيها حكومة أنقرة أيضاً، وهي أن «داعش» قرر أن أعداءه في هذه المعركة هم الأكراد على طرفي الحدود، وسيسعى بذلك إلى مخاطبة أكثر من حساسية. فهو سيجد بين العرب من يرغب في توظيف ضغينته القومية في هذه الحرب، ومن المرجح أن يستدرج أيضاً ضغائن تركية على هذا الصعيد. أما الحكومة التركية، التي يبدو أنها سارعت إلى إعلان الحرب تفادياً لاستثمار الجناح العسكري لحزب العمال الكردستاني في ضائقة الأكراد المستجدة، فستجد نفسها في خندق لم تألف القتال فيه، أي أنها ستخوض معركة «الدفاع عن الأكراد» في مواجهة تنظيم ليست بريئة من نشأته وتضخمه.
تمتد الحدود التركية السورية على مسافة أكثر من ثمانمئة كيلومتر، ول «داعش» نفوذ على الكثير من النقاط الحدودية، ويقدر المراقبون الأتراك عدد عناصر التنظيم من المواطنين الأتراك بأكثر من ألفي مقاتل. وحتى الآن يبدو أن منفذي العمليات داخل تركيا أتراك. أما سنوات القتال في سورية، فأسست لبيئة تهريب واحتضان وتهريب وتجارة في الكثير من المدن التركية، لا سيما تلك القريبة من الحدود مع سورية.
إذاً المهمة صارت معقدة ولم تعد تقتصر على عدو خارج الحدود. في الداخل ثمة عاملان يشتغلان لمصلحة التنظيم ويسهلان مهمته التركية: «العدو الكردي» ثم البيئة اللوجستية التي تأمنت خلال سنوات «الجهاد» في سورية. و «داعش» يملك خبرات في هذا النوع من الصراعات، فهو استورد تجارب «القاعدة» في علاقتها مع الجماعات الأهلية في الكثير من المناطق. وعلى رغم الفوارق الكبيرة بين تركيا وباكستان، البلدين المسلمين غير العربيين، فإن المقارنة قد تفيد هنا. فحكومتا البلدين، في مرحلتي «الجهاد»، إسلاميتان ربطتهما ب «المجاهدين» علاقات تفاوتت بين ذروة العنف وذروة الاحتضان، وتولت قنوات مشيخية ومسجدية تصريف حاجات متبادلة. الحدود الطويلة أيضاً وصعوبة ضبطها بعد التغاضي عن استباحتها وجه تشابه أكيد. وإذا كان البشتون في باكستان وأفغانستان عنصر لحمة (إيجابياً) ألغى الحدود وسهل لطالبان ومن ثم ل «القاعدة» مهمة نقل النزاع إلى داخل باكستان، فإن الأكراد على طرفي الحدود السورية التركية عنصر لحمة (سلبي) بالنسبة ل «داعش» لأنهم «عدو قومي» لجماعات أهلية عربية وتركية.
لن تكون المهمة التركية المستجدة نزهة. حرب أنقرة على «داعش» ليست مهمة ينفذها الجيش خارج الحدود. مؤشرات كثيرة تدل على أن التنظيم الإرهابي أنشأ على مدى سنوات «الجهاد» في سورية بيئة عمل وخلايا داخل الحدود التركية وفي مدن كثيرة. وسيضاعف صعوبة المهمة التركية الجديدة الوضع السياسي المضطرب للحزب الحاكم وللموقع الذي اختاره في النزاع السوري. وربما استدعت هذه الاعتبارات تردد أنقرة في خوض الحرب إلى نهايتها، واللجوء إلى أشكال مواربة من المواجهة، تُبقي خلالها على خيوطٍ توازن فيها بين حرب تستجيب للضغوط الدولية والداخلية، وبين رسائل ضمنية بعدم رغبتها في القضاء على التنظيم وتهديد وجوده. وتردد «#داعش# » في تبني تفجير سروج قد يكون مؤشراً على هذه الوجهة.
أن تكون الحكومة التركية مخلصة في حربها على «داعش» فهذا يعني تحولاً هائلاً في شكل الصراع، لا يبدو أن الوقائع ذاهبة إليه. ثم إن قطار العودة عن الخيارات فات أنقرة. سكة «الجهاد» لا تعمل في كل المراحل وفق مصالح منشئيها، والعودة عن المهمة خطوة لم يسبق أن نجحت في بلد تولى المهمة التي تولتها تركيا طوال السنوات الأربع الفائتة في سورية.
طبعاً لا يعني ذلك أن تركيا مهددة على نحو ما كانت مهددة باكستان، أو أن النظام فيها لطّخ وجهه ب «الجهاد» على نحو ما فعل علي عبدالله صالح أو بشار الأسد، إنما يعني أن الطريق الذي لا عودة عنه، لن يكون معبداً، وأن رجب طيب أردوغان سيخسر المزيد من أرصدته في نظام سياسي يتيح محاسبته.
أنقرة سائرة إلى هذه الحرب رغماً عنها، وستجد نفسها في موقع غريب عما تفترضه هوية حزبها الحاكم. أي في موقع خوض حرب عن الأكراد، ضد جماعة (إسلامية) تشكلت تحت أنظارها أو في ظل غض نظرها. لهذه المهمة أثمان ستُدفع عما قريب. الأرجح أنها بداية نهاية مرحلة «العدالة والتنمية» والتي استمرت لأكثر من عشر سنوات.[1]