=KTML_Bold=د. محمود عباس: كردستان والعراق الاتحادية=KTML_End=
لم تكن عراق جغرافية موحدة، قوميا ومذهبيا، على مر التاريخ، وخاصة منذ غزوها من قبل القبائل العربية البدائية في القرن الخامس عشر الهجري تحت غطاء الإسلام، وحتى اليوم، بعكس المفبركات التاريخية العروبية. وجميع السلطات التي حكمتها، من عهد الخلفاء وحتى حيدر العبادي، لم تمر دون ثورات وقلاقل، واضطرابات، ومعظم خلفائها وولاتها ورؤسائها كانوا ضحية ظلمهم وطغيانهم، وتفضيل عنصر على الأخر، فكانت نهايات أغلبيتهم مأساوية قضوا نحبهم مقتولين أو مسمومين.
التكوين الجغرافي –السياسي للعراق لم يتحدد يوما، بل كانت عرضة لتجاذبات وتحويرات عديدة، تغيرت حسب قوة السلطان، وعلى مدى قرون عديدة، منذ سقوط الإمبراطورية الساسانية مرورا بحكم الخليفة علي بن أبي طالب وحتى الاستعمار البريطاني، وجغرافيتها في أغلب مراحلها لم تكن سوى تشكيلة هلامية تتغير بشكل دائم، رمزية دينية محصورة في مدينة بغداد في معظم مراحلها، خاصة بعد بنائها أو انتقال الرشيد إليها.
وتسمية العراق كثيرا ما حوصرت ضمن مناطق ضيقة ما بين الجنوب حيث الشط وحتى بغداد، ولم تفرز معها يوما كردستان كجغرافية موحدة، ولم تحشر ضمن أسم العراق، ونادرا ما تمكن بعض الخلفاء الأولين من ضم كردستان إليها، وقد تقلصت أسم العراق تحت أسم خلفاء بغداد بشكل واسع بعد القرن الثاني والثالث الهجري، ومن حينها لم تكن للعراق جغرافية، وخاصة في فترة الإمبراطوريتين الصفوية والعثمانية، ومعروف لدى معظم المؤرخين أن العراق الحديث تشكلت بفضل المس (بيل) البريطانية مستشارة القنصل السامي البريطاني السير (بيرسي كوكس)، وبعدها استماتت عليها السلطات العروبية السنية كملكية خاصة، لا حصة لأية قومية أو شريحة اجتماعية ديمغرافية أصيلة فيها.
ورغم أن الثقافة تلك حوربت وبقوة من قبل أغلبية شرائح المجتمع العراقي، وبينهم المجتمع الشيعي، لكنهم اليوم وبدعم من قسم من السنة العروبيين العنصريين مخلفات البعث السني يعيدون نفس الذهنية، ويحيون الثقافة العنصرية الإقصائية ذاتها، وقادتهم لا يختلفون عن صدام حسين ثقافة وسياسة وتعاملا اخلاقيا. وظل الكرد وعلى مر التاريخ في المنطقة وضمن جغرافية العراق العنصر القوي الوحيد الذي يقبل بالأخر، ويتعامل مع الجميع بذهنية حضارية ديمقراطية، رغم ما حصل لهم من كوارث ومجازر، فقد رفضوا ولمرتين الاستقلال، وعدم التخلي عن العيش المشترك، عندما سنحت لهم الفرصة، وقد تبينت الأن بأنها كانت من أفشل الخطوات في تاريخ المسيرة النضالية الكردية. المرة الأولى كانت في عهد قبول حكومة الملك فيصل، والثانية في عام 2003 م يوم سقوط صدام حسين، وأصبحت العراق جغرافية سائبة، وكان بإمكان الكرد الاستقلال التام، وبعكس ذلك أصبحوا عنصر التوحيد الوحيد، وقبلوا بالعراق الاتحادية، فكانت حصتهم من هذه الثقافة الوطنية، الإقصاء ثانية، ومحاربتهم من قبل العنصرين المذهبي والقومي، السني -الشيعي، والفرس والعرب والترك معا، وتتبين الأن وكأننا أمام جدلية طغيان عنصر الشر على الخير بين شعوب الشرق الأوسط، وعلى رأسهم الفرس والترك والعرب.
مطلب العراق الموحد، أو حتى الاتحادي وعودة السلطة المركزية والتي على الأغلب ستكون على حساب إعادة الإقليم الفيدرالي إلى نظام المحافظات، وإصرارهم عليه، بل ودعمهم اللوجستي له، ستؤدي إلى تعزيز الدور الشيعي في المنطقة، وبالتالي العنصر الفارسي الشيعي، وكاستراتيجية دفاعية عن الذات القومية المذهبية تقوم إيران على تقوية السلطة الشيعية في العراق، وهذه تدفعها إلى إثارة القلاقل في دول الجوار المتوقعة بأن تكون خطرة على الهلال الشيعي، مثل السعودية وتركيا، ولهذا فالحالة الكردستانية ستكون حالة عكسية لسلطات تلك الدول وكياناتهم الجغرافية، وذلك مع حضور العنصر الشيعي في شرقي السعودية، أو الشعب الكردي في غربي تركيا، والعلوي في مناطق واسعة منها، وهما العاملان اللذان ستقوم إيران بتحريكهما في المستقبل القريب لإضعافهما أمام طموحاتها التوسعية.
لا بد هنا من الانتباه إلى معضلة رئيسة في معادلة التمييز بين الصراع المذهبي أو القومي. فإيران تحافظ على هيمنة القومية الفارسية وتوسعها عن طريق استخدام المذهب الشيعي، أي تدمج القومية والمذهب في بوتقة واحدة، وهو نفس العامل الخلافي في السعودية، فالعروبة والمذهب الشيعي عنصران متضاربان، ومثلها العنصر القومي، والمذهب العلوي، في تركيا، فالتركية والكردية بينهما عدة عوامل تضارب من القومي إلى المذهبي، إلى صراعات لم تلتئم جروحها يوما، وهذا ما ستقوم به أئمة ولاية الفقيه بتحريكه في القادم من الزمن، وإن لم توقف في هذه الفترة فمخططها تقترب من النجاح، خاصة وهي الأن تحتل نصف الشرق الأوسط العربي، وكانت العامل الرئيس في إحداث أكبر شرخ بين دول الخليج، والغريب أن أكثر الدول دعما للمنظمات السنية الراديكالية تحوم حول المحور الإيراني.
كرها بالكرد، أو خوفا من استرداد ما اغتصبوه من كردستان المجزأة، تغاضت الدول السنية في الشرق الأوسط، عن تجاوزات إيران الشيعية في العراق، وربطت بين لوبيها لتتحرك معاً ضمن الأروقة الدبلوماسية الأمريكية والأوروبية، لعزل الكرد، وتحريض المجتمع الدولي عليهم، لئلا يحصلوا على مطالبهم، كما وأنها غضت الطرف عن خلافاتها السياسية الحادة، وصالحت بين الفرق المذهبية المارقة، حتى الأكثر كراهية بين بعضها، كالراديكالي السني والشيعي، للتعتيم على القضية القومية الكردية.
وهنا على الأغلب لا نستبعد دور اللوبي المتكون من الدول المحتلة لكردستان والمحيطة بالعراق وخاصة تركيا والسعودية ومعهم مصر بالتحرك ضمن الأروقة الدبلوماسية للدول الكبرى، وعلى أثره تمكنوا من تحريف التوجه الأمريكي على دعم اصدق حلفائها في المنطقة، وهم الكرد، ولا يستبعد بأن هذا الانتصار لا يدخل في جعبة أي دولة من الدول الإقليمية، إلا جعبة الهلال الشيعي، وبالتالي هذه المخططات ستؤدي ليس فقط إلى خسارة الكرد، وتأخير بلوغ الغاية إلى مرحلة زمنية قادمة، بل إلى تأجيج صراعات داخلية ضمن الدول الداعمة لحيدر العبادي ومن بينهم كما ذكرنا سابقا السعودية وتركيا، والأخطر في عملية كركوك، إلى جانب خسارة الكرد لبعض من مكتسباتهم، أنها قد تكون بداية لانهيار الدولة الإسرائيلية، ولإنجاح هذا المخطط الأخير بعد تقويض قوة إقليم كردستان، والتي تشترك فيها معظم الدول الإسلامية السنية والشيعية، سيتحركون لحجم دور القوة الكردية في سوريا بعد الانتهاء من داعش، وهي تتبين من خلال تصريحات السيد (ريكس تيلرسون) وزير خارجية أمريكا في الرياض، والذي لم يأتي على ذكر الكرد، ولا لدورهم في تحرير الرقة أو هدم أسطورة داعش، ولم يلمح إليهم، معتبرا السعودية الصديق الأهم لهم في هذه الحروب، وهذه المواقف للإدارة الخارجية الأمريكية تفتح بوابة إسقاط إسرائيل، بعد حصر مواجهة المد الشيعي في إخراج القوات الإيرانية من العراق، والتصريح الذي ظهر كترضية لملوك السعودية، الذين قدموا 460 مليار دولار لأمريكا. ودون أن يبين موقفا واضحا من تحركات الحشد الشيعي والقوات العراقية التابعة عمليا لأئمة ولاية الفقيه، والذين دفع بهم ليكون الكرد أول ضحاياهم بعد داعش، وذلك بناءً على الاستراتيجية الأمريكية الفاشلة في الشرق الأوسط.
وعليه فليعلم الاتحاد الوطني وغوران والديمقراطي والعمال الكردستاني، وحكومة الإقليم بشقيها المعارض والحاكم، والإدارة الذاتية في جنوب غربي كردستان، أنهم أصبحوا بتبعيتهم هذه للدول الإقليمية، وخلافاتهم المفضوحة، دمى للعرض في الأروقة الدبلوماسية للاستهزاء لا أكثر. وبناء على هذه التطورات فاحتمالية أن تكون مصير كرد جنوب غربي كردستان، مشابه لجنوبه، وحقل العمري النفطي وغيره كمصير حقول بابا كركر وغيرها في كركوك، خاصة بعد تصريحات وزير خارجية أمريكا تيلرسون الأخيرة في الرياض.
ويبقى السؤال المصيري عندنا نحن الكرد، ما الذي يجب القيام به؟ لئلا نخسر الأكثر من مكتسباتنا، وسنتخلص العبر من مجريات الأحداث ومن التاريخ الذي يتكرر لنجعل ما حصل ويحصل لنا كمخاض لولادة كردستان قادمة، إما على شكل فيدراليات، أو ما شابه، ونتمكن من إقناع الدول الكبرى لقبول قضيتنا القومية، ويعرضونها أو يسمحون لها بدخول أروقة المنظمات العالمية.
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
mamokurda@gmail.com
[1]