عادل حبه
من الظواهر التي أفرزها الواقع العراقي ومنذ تشكيل الدولة العراقية الحديثة في عام 1921 هي وجود مشاكل معقدة جرى تجاهل حلها بشكل سلمي وديمقراطي متحظر. فقد تم اللجوء حصراً إلى إسلوب التمييز والقهر والعنف وسياسة النقاء العرقي والطائفي لحل هذه المعضلات خلال الفترات السابقة، مما فاقم هذه المشاكل وحوّلها إلى ألغام تهدد الكيان العراقي واستقراره. وتقف على رأس هذه القضايا القضية القومية في العراق، وفي مقدمتها بالطبع القضية الكردية. و لا نريد في هذا الإطار تناول مشاكل أخرى لها نفس الأهمية مثل الفتنة الطائفية ومصاعب أخرى نخرت في جسم الدولة العراقية منذ تأسيسها.
تتميز القضية الكردية من بين كل هذه المشاكل بكونها لا تقتصر على الحدود الجغرافية للدولة العراقية، بل لها امتدادات إلى دول مجاورة هي تركيا وإيران وسوريا حيث يقطن فيها أيضاً ملايين من المواطنين المنحدرين من أصول قومية كردية. وعاش ويعيش هؤلاء في ظروف لا تقل قسوة وحرماناً عن الظروف التي عاشها المواطنون الأكراد العراقيون من تمييز وتجاهل للحقوق القومية وحق تقرير المصير ومن عسف واضطهاد وحتى الحصول على جواز سفر وجنسية هذه البلدان. ولابد أن تتأثر وتتفاعل الحركة القومية الكردية في العراق مع نظيراتها في الدول المجاورة وهو ما حصل وما يحصل حتى الآن، وهو أمر طبيعي. وفي خلال كل مراحل نضال الأكراد العراقيين لتأمين حقوقهم والمشاركة مع كل فئات الشعب العراقي في توفير الحريات الديمقراطية في البلاد، قدّم الأكراد العراقيين شأنهم في ذلك شأن كل مكونات الشعب العراقي تضحيات كبيرة، فاقت ما جرى في بلدان مجاورة بسبب طبيعة العسف الذي سلط على العراقيين، والجرائم التي ربما فاقت كل معايير الجريمة المتبعة من قبل جبابرة الاستبداد، والتي كشف عن أسرارها بعد انهيار الطغيان في 9 نيسان عام 2003. ومن الطبيعي نتيجة لذلك أن تطرح أمام العراقيين مهمة رفع الظلم ومداواة جروح الأكراد وكل من عانى من طيش الطغيان من العراقيين في العقود الماضية. وهذا ما يجري السعي للعمل به منذ سقوط الديكتاتورية، وسيستمر إلى أن يشعر الجميع بالمساواة في الحقوق ويشاركون في بناء بلدهم الديمقراطي حقاً دون تمييز.
وفي خضم هذا الصراع المديد، كانت النخب القومية الكردية في العراق تسعى إلى بلورة سياسة تخدم هدف ازالة الظلم القومي في البلاد. وشاركت، في هذا المسعى الحثيث، القوى الديمقراطية العراقية التي اعتبرت أن المشكلة القومية في العراق جزءاً لا يتجزأ من النضال من أجل استقرار نظام ديمقراطي في البلاد. ومن الطبيعي في مجرى هذا المسعى أن تصيب هذه القوى القومية في نهجها تارة، أو أن ترتكب أخطاءً فادحة بحق العراقيين وبالقضية القومية الكردية نفسها أيضاً. ومن الطبيعي ايضاً أن لا تحسن هذه القوى على الدوام إدارة الصراع، إضافة إلى القصور في القراءة الدقيقة للأحداث.
إن كشف الأخطاء ومصارحة الشعب بها هي ممارسة ديمقراطية ضرورية لتعزيز أسس البناء الديمقراطي الفتي الحالي، ويوفر الفرص لتأمين الحقوق لكل القوميات القاطنة في العراق ورفع الظلم عنها. إن مصارحة النخب القومية بأخطائها بدون تزلف ومجاملات كما يفعل البعض من أدعياء المدافعين عن الحقوق القومية للأكراد العراقيين، يجنب الحركة القومية الكردية من الوقوع في منزلقات جديدة. كما لا يعني كشف الأخطاء العداء للقضية نفسها، والحكمة تقول: صديقك من صَدَقَك لا من صَدّقَكَ. وهذا ما نسعى إليه كي نجنب العراق الوقوع في مطبات خطيرة تعرقل استمرار العملية السياسية وإرساء الديمقراطية في بلادنا.
تجربة الحركة القومية الكردية في إيران
ولكن قبل أن نتناول القضية القومية الشائكة في العراق، أرى من المناسب إلقاء نظرة على تجربة الحركة القومية الكردية في إيران وما رافقها من قصور وأخطاء النخب السياسية القومية هناك في إدارة الصراع. ونورد هذه التجربة، من بين كل التجارب القومية، لكونها الأقرب لنا في العراق بسبب وجود المشكلة القومية نفسها وبتاريخها الملئ بالنجاحات والإخفاقات .
من المعلوم أن الحركة القومية الكردية في ايران استغلت الانفراج السياسي في إيران بعد احتلالها من قبل الحلفاء (الاتحاد السوفييتي وبريطانيا والولايات المتحدة) والإطاحة بديكتاتورية رضا شاه، وتوفرت فرصة من أجل السير على طريق إزالة الظلم والتمييز القومي ضد الأكراد في إيران وذلك في 25 آب 1941. وكانت المحافظات التي تسكنها القوميات الكردية والآذرية والمحافظات الشمالية الأخرى من نصيب القوات السوفييتية. وهذا ما أعطى المجال للقوى الديمقراطية واليسارية والقومية الإيرانية بالنشاط بحرية أكثر مقارنة مع المناطق الأخرى التي وقعت تحت نفوذ الاحتلال البريطاني والأمريكي. كما وفّر الوجود العسكري السوفييتي فرصة ذهبية للقوميتين الآذرية والكردية لأحداث تحولات اجتماعية في مناطقها وبدعم من القوات السوفييتية ومساندتها. وعلى الرغم من التحولات الإيجابية التي جرت في هذه المناطق القومية، إلاّ أن النخب السياسية القومية لم تحسن قراءة الواقع لتكريس هذه المكاسب وتطويرها بسبب ارتكابها أخطاء فادحة ساهمت في اجهاض التجربة وإنهيارها الكارثي المرير، وتبعات ذلك على مجموع الحركة الديمقراطية واليسارية في عموم البلاد.
فالقوى القومية الكردية، والآذرية أيضاً، لم تدقق في مستقبل موقف العامل الدولي (الوجود العسكري السوفييتي) الذي وفّر الفرصة عند اسقاط نظام رضا شاه لنهوض الحركة القومية. ولم تطلع هذه القوى على جوهر الاتفاق بين الحلفاء عند غزوهم لإيران. فقد انتابتها النشوة مما تحقق بفعل وجود القوات السوفييتية على أراضي بعض المحافظات الإيرانية. فمن المعلوم إن الدول الحليفة التي غزت إيران وقّعت على اتفاقيات رسمية تنص على إزاحة ديكتاتورية رضا خان التي كانت موالية لدول المحور الفاشي. كما أنها اتفقت على خروج قوات الحلفاء من إيران بعد سنة من انهيار النازية والفاشية في ألمانيا وإيطاليا، مما يعني رفع الغطاء الداعم السوفييتي عن الكيانات القومية الآذرية والكردية التي ما كان لها أن تقوم عملياً في تلك الفترة التاريخية إلاّ بفعل الدعم السوفييتي لهما. ولذا ففي اللحظة التي بدأت فيها القوات السوفييتية، مضطرة حسب تعهدها، بالانسحاب من الأراضي الإيرانية في عام 1946، سُحب البساط من تحت هذه الكيانات، وانهارت هذه الكيانات القومية بعد 11 شهراً من إعلان قيامها وفي ظل مجازر مريعة ارتكبتها حكومة محمد رضا شاه الابن.
بالطبع تتحمل القيادة السوفييتية هي الأخرى مسؤولية هذه الكارثة لأنها لم تصارح القيادات القومية بحدود دعمها لها وحدود التزاماتها الدولية ونفوذها الذي تهدد بفعل استخدام الولايات المتحدة للقنبلة الذرية ضد اليابان، مما حدّ من قدرة الاتحاد السوفييتي على دعم الآذريين والأكراد وحتى شعوب أخرى مثل الشعب اليوناني للمضي في تحقيق تطلعاتهم. إن عدم القراءة الدقيقة للوضع الدولي والإقليمي والمراهنة المطلقة على العامل الخارجي عصف بكل المكتسبات التي تحققت في كردستان إيران خلال 11 شهراً من عمر التجربة، وأغرقها في بحر من الدماء. وأصبحت القضية الكردية مادة للمناوشات الإقليمية والدولية بفعل ارتهان النخب القومية للعامل الإقليمي والخارجي الذي تعاظم كما سنرى لاحقاً.
لقد أعلن الزعيم #قاضي محمد# الكيان الكردي في 22 -01- 1946 ، وأكد على أن هذا الكيان يتضمن حكماً ذاتياً في إطار الدولة الإمبراطورية (الشاهنشاهية) الإيرانية، وهو يخضع لمواد الدستور الإيراني، وليس كياناً انفصالياً. ولكن القيادة الكردية قامت لاحقاً بسلسلة من تدابير مثيرة غير قادرة على صيانتها، والتي تقطع عملياً أية صلة لها بالدولة المركزية. ولم يعني ذلك إلاّ الانفصال، وهو حق مشروع للأكراد، ولكن لم تتوفر بعد عناصر تحقيقه في تلك الفترة، لا دولياً ولا داخلياً، ولا حتى في الفترات اللاحقة باعتراف النخب السياسية الكردية نفسها. فقد أعلن زعيم الحركة القومية الكردية قاضي محمد في 22 كانون الثاني من عام 1945، وفي مفارقة غريبة قيام جمهورية مهاباد في كردستان إيران في بلد نظامه ملكي إمبراطوري شاهنشاهي، وليس نظاماً جمهورياً. ولم تدقق القيادة القومية الكردية في حينها في هذا التعارض والالتباس القانوني، أي بين التمسك بوحدة الدولة الملكية وبين إعلان جمهورية على بقعة من بقاعها، والذي لا يوظف في النهاية لمصلحة رفع الظلم القومي تدريجياً عن الأكراد في إيران. كما اتخذت القيادة القومية سلسلة من الإجراءات الاجتماعية والاقتصادية والقانونية الجذرية، وبناء تشكيلات عسكرية وأمنية تتعارض مع مواد الدستور الإيراني الذي تؤكد هذه القيادة على التمسك به. وهذا ما أوقع الكيان القومي في دائرة من التناقضات وعزَلَه حتى عن القوى الإيرانية التي تسعى إلى التضامن والتعاطف مع المطالب القومية المشروعة ومن أجل إرساء الديمقراطية في جميع أنحاء إيران.
ولم تلجأ القيادة القومية إلى التركيز على ما هو مشترك وما هو أساسي بين كل المكونات الإيرانية لإزالة الظلم القومي، أي تعزيز الديمقراطية في بناء الدولة الإيرانية باعتبارها مفتاح للسير على طريق ازالة التمييز القومي للأكراد وغير الأكراد في البلاد. ولهذا راحت القيادة القومية الكردية تركز على التفتيش عن الحدود الجغرافية الكردية، ودخلت في مشاكل ذات طابع جغرافي مع القوميات غير الكردية في إيران. فخلافاً لتأكيدات الحزب الديمقراطي الكردستاني في إيران حول تأمين الوحدة والصداقة الكاملة مع شعب آذربايجان، فإن علاقات هذا الحزب قد تدهورت مع الفرقة الديمقراطية الآذربايجانية حول الحدود الجغرافية وحول الموقع السياسي وشكل العلاقة مع الحكومة المركزية( كما يحدث عندنا الآن في العراق حول ما يسمى بالمناطق المتنازع عليها)، بحيث أدى ذلك إلى مشاجرات لا جدوى منها بين سلام الله جاويد محافظ آذربايجان وبين قاضي محمد حول الحدود الجغرافية لكل من آذربايجان وكردستان ذات الحكم الذاتي، مما أضعف الطرفين على حد سواء. فهذه الخلافات لا يمكن حلها إلاّ عبر إرساء نظام ديمقراطي وتطويره وخلق ثقافة ديمقراطية لدى المواطنين من كل الألوان، ثقافة قائمة على التعايش واحترام حقوق الآخرين. ومن اللافت للنظر أن الاتحاد السوفييتي، الداعم الأساسي للطرفين آنذاك، كان يدعو وبحق إلى التمسك بالتقسيمات الجغرافية التي حددها رضا شاه وعدم الدخول في منازعات جغرافية لا أفق لحلها بين الآذريين والأكراد وبينهما وبين الحكومة المركزية، وتأجيل ذلك إلى مراحل لاحقة وليس حل الأمور دفعة واحدة وبالعنف والتهديد، فالسياسة فن الممكن كما يقال.
وبادرت القيادة القومية الكردية إلى اتخاذ إجراءات اجتماعية جذرية لا تتناسب مع طبيعة البناء الاجتماعي العشائري للمجتمع في كردستان إيران، وتتعارض حتى مع بناء تشكيلة مجلس وزراء جمهورية مهاباد الذي قام بالأساس على قاعدة تمثيل العشائر الكردية. هذا التناقض حدد من القاعدة الاجتماعية للكيان السياسي الجديد، وخلق تعارضات وخلافات داخل الحركة القومية الكردية مما سهّل على الحكومة المركزية الإطاحة بسرعة بالحلم الكردي في كردستان إيران. كما لعب الحلم القومي الكردي الذي تصاعد عند بعض القيادات القومية حول تشكيل دولة كردستان الكبرى، وقيام المرحوم ملا مصطفى البارزاني في كردستان العراق بالمشاركة بمسلحين يزيد عددهم على 2000 مقاتل وضعوا تحت تصرف جمهورية مهاباد ذات الحكم الذاتي في إيران، في أثارة حفيظة الدول المجاورة التي ساهمت في فرض الحصار على هذه التجربة وقمعها وفشلها.
ولعل أبرز خطأ وقعت فيه الحركة القومية الكردية هو التعويل الكلي على العامل الخارجي، أي على العامل السوفييتي آنذاك، في استمرارية التجربة ونجاحها. نعم .... إن أية تجربة يجب أن تأخذ بنظر الاعتبار العوامل الإقليمية والدولية سواء أكانت لصالحها أم ما قد تحمله من أضرار لها دون أن يكون هذا العامل هو العامل الأساس الذي تبني عليه سياستها. ولذا ففي اللحظة التي قرر فيها الاتحاد السوفييتي سحب قواته من إيران، طبقاً للاتفاقية المعقودة بين دول الحلفاء المعادية للفاشية التي وقعت في القرم في أثناء الحرب، حتى أصبحت التجربة الكردية والآذرية على حد سواء عزلاء ودون أي سند خارجي ناهيك عن السند الداخلي الذي تراجع بسبب الحملة التي تعرض لها التيار اليساري والديمقراطي الإيراني بسبب دعمه للحركتين القوميتين، مما سهّل على الحكومة المركزية والشاه قمعها وإفشالها، وذهبت الأحلام القومية وإزالة الظلم القومي في مهب الريح.[1]