=KTML_Bold=مع لوزان أم ضدّها: حيرة تركيا الكبيرة=KTML_End=
شورش درويش
أواخر عام 2020، عرضت تركيا على اليونان التفاوض بشأن تعديل الحدود التي رسمتها معاهدة لوزان في يوليو/تموز 1923 بين البلدين. عللت تركيا رغبتها تلك بأن هناك مسائل غير واضحة وردت في المعاهدة التي مضى عليها عهدئذ 97 عاماً. حينها، وصف برلمانيون وأكاديميون يونانيون رغبة تركيا بالخروج من إسار المعاهدة التي استمدت قوتها من القانون الدولي بأنه يتشابه و«سلوك هتلر» زمن ألمانيا النازية التي ما كانت تعنيها الترسيمات الحدودية ولا المعاهدات والاتفاقيات، والتي حين بدأت بالخروج على معاهدة فرساي أخذت معها العالم كله إلى حرب عالمية ثانية.
وفي أغسطس/آب عام 2020 أيضاً، وقبل العرض التركي على اليونان، كانت الخارجية الأرمينية استذكرت بألم معاهدة سيفر بمناسبة مرور مئة عام على توقيعها، الأمر الذي استصحب غضباً تركياً تبدى في لغة الخارجية التركية الخارجة عن الأعراف الدبلوماسية قائلة إن لوزان «مزقت سيفر ورمتها إلى مزبلة التاريخ»، فيما العرض التركي على اليونان بإعادة ترسيم حدود لوزان واحتلالها للجوار السوري والتموضع العسكري في إقليم كردستان العراق وشمال العراق (الانتشار العسكري داخل حدود ولاية الموصل العثمانية)، إنما يعني أن تركيا ضاقت بحدود لوزان وتريد رميها أيضاً في «مزبلة التاريخ».
بات انقسام الأتراك حول وثيقة تأسيس الجمهورية (لوزان) بين من يصفها بالانتصار، ومن يجدها تكريساً للهزيمة والانصياع للأمر الواقع، واحداً من النقاشات التي انزاحت لها الأحزاب التركية خلال العقد الأخير، لاسيما التحالف الحاكم. ولئن كان التوسّع متعذراً في مكان ومتاحاً في آخر، فإن محاولة تمزيق معاهدة لوزان داخلياً تجري على قدم وساق، من ذلك جاء تاريخ 24 يوليو/تموز في ذكرى مئوية لوزان مناسبة لتحويل متحف آيا صوفيا إلى جامع. وقبل ذلك انتهكت أنقرة مضمون المادة 1/42 من معاهدة لوزان التي تنصّ على موافقة تركيا على قوانين الأسرة والأحوال الشخصية للأقليات غير المسلمة، بمعنى أن الزواج الكنسي بخلاف الزواج المدني ينبغي أن يكون صحيحاً. غير أن تركيا اعتبرت مثل هذا الزواج غير المقيّد في البلدية زواجاً غير رسميّ، بخلاف اليونان التي أجازت صحة واقعتي الزواج والطلاق وحضانة الأطفال والميراث، وفق الشريعة الإسلامية للأقلية المسلمة. ولعل التزام أثينا عبّر عن انحيازها الإيجابي لصالح الأقليات، والذي كان واحداً من السمات القانونية الصريحة والروحية لمعاهدة لوزان التي لم تلتزم بها أنقرة منذ عام 1925.
وكجزء من حركة التعمية الشعبوية وإغراء الناخب التركي بالسؤدد واستعادة أمجاد الأسلاف، بثّ حزب العدالة والتنمية والرئيس التركي رجب طيب أردوغان وهماً مفاده أن حركة التاريخ والجغرافيا ستختلف حال مضي مئة عام على معاهدة لوزان، وأن الاستعداد لمضي قرن عليها يعني في مكان ما استعادة أراضي الأسلاف، لا سيما في الموصل العراقية وحلب السورية. وبات الحديث عن أراضي الميثاق الملي جزءاً من ديناميات العمل الحكومي وخطابه الشعبي، بل تجاوز الأمر البرّ حين شرع أردوغان في تبني عقيدة مريبة مخالفة للقوانين والأعراف الدولية لوصف الحدود الساحلية المحيطة بتركيا وتسميتها ب «الوطن الأزرق» (Mavi Vatan). غير أن الهوس بلغ منتهاه حين تحدّث الرئيس التركي عن حماية الحقوق التركية في الفضاء أيضاً!
على أن نزعة التوسّع وإنكار حدود لوزان لها أسباب أخرى. فثمة ما هو ذاتي قائم على طبيعة الروح العثمانية التي ظهرت مع صعود العدالة والتنمية، ورغبة الحزب في استعادة شيء من أملاك السلطنة البائدة، ذلك أن الخطاب الذي يستعير روح الماضي إنما يحاول أيضاً أن يكرر سيرة الماضي. ففي عام 2018، مع احتلال عفرين، طالب نائب عن الحزب الحاكم منح أردوغان لقب «غازي»، درّة الألقاب العثمانية والذي أُعطي لمصطفى كمال كأحد أواخر من حظوا بهذا اللقب. بذا، كان ثمة نزوع لتحويل تركيا إلى دولة غزو و«فتح»، وهي إيديولوجيّة تخالف سياسة إغلاق الباب التي خطّها أتاتورك. ولعل المركّب القومي الإسلامي الذي تعمّق بعد فشل الإنقلاب عام 2016 دفع باتجاه توسيع مساحة المستعمرات العسكرية في الخارج.
أما الجانب الموضوعي لسياسة التجاسر على الحدود الدولية في سوريا والعراق، جاء نتيجة الفوضى والاحتراب الطائفي في عراق ما بعد صدام حسين، فيما أفسحت الحرب الأهلية في سوريا المجال لمسح خطوط لوزان أمام تركيا. وجدير بالملاحظة أن طرفين فقط قاما بإزالة الحدود خلال الأعوام الماضية ووصل أراضي دولتين ببعضهما: تنظيم داعش الذي مسح خطوط سايكس- بيكو ووصل مناطق نفوذه في العراق بسوريا، وتركيا التي مسحت خطوط لوزان وحدودها الفاصلة مع سوريا.
حضرت لوزان خلال العقد الأخير في النقاشات الداخلية التركية مثلما لم تحضر من قبل، خاصة في انتخابات مايو/أيار 2023، إذ صرّح مستشار الرئيس التركي ياسين أقطاي عن وجوب تسليم إدارة حلب لتركيا، فيما ركّز أردوغان على «محاربة الإرهاب» بما تستبطنه هذه العبارة من دمج لهواجس الأتراك الأمنية بفكرة التوسع خارج الحدود. فيما كان تركيز المعارضة (طاولة الستة)، عكس خطاب الحكومة، لجهة الحفاظ على انتصار مصطفى كمال الأثير وظفره بمعاهدة لوزان، أي إغلاق تركيا أمام مشكلات الجوار وتدفق اللاجئين وتصفية المشكلات مع سوريا والعراق عبر حكومتيهما لا عبر الاحتلال ومراكمة المشاكل. ويمكن كذلك قراءة موقف الكرد وتعبيرهم السياسي الأكبر، حزب الشعوب الديمقراطي، بأنهم باتوا أكثر تقبّلاً للعمل تحت سقف الحدود السياسية للدولة، على أن تصبح تركيا جمهورية لكل مواطنيها وما يستتبعه ذلك من حل للقضية الكردية بشكلٍ عادل وديمقراطيّ.
في هذه الأوقات، يمكن الحديث عن تركيا أتعبتها طموحاتها الأوسع من إمكاناتها، وكذلك يمكن النظر إلى تركيا الحائرة: بين أن تلتزم بأراضي لوزان وما يتطلّبه ذلك من تصفير فعلي للمشكلات مع اليونان والعراق وسوريا، والكف عن النظر إلى الخلف حيث أراضي الاتفاق الملّي المتخيّلة، وبين تركيا السعيدة في أنها باتت تستحوذ على أجزاء من أراضي سوريا والعراق وتخلّصها تالياً من شعورها ب«عقدة الخصاء» التي نجمت عن لوزان، رغم أن ما حازته وقتذاك جاء على حساب شعوب أخرى باتوا إما مواطنين أتراكاً بالإكراه، أو هجّروا من تركيا.[1]