مشاهير الكرد في التاريخ ( الحلقة 52 ) الفقيه عيسى الهَكّاري: مهندس الدولة الأيوبية (توفي عام 585 ﮪ / 1189 م)
د. أحمد الخليل
كان صلاح الدين الأيوبي ابناً باراً لشعوب غربي آسيا جميعها، وكان مشروعه الأكبر هو تحرير البيت الغرب آسيوي من الاحتلال الفرنجي، وقد أفلح في ذلك ليس لأنه كان قائداً عسكرياً عبقرياً فقط، وإنما لأنه كان خبيراً بمعادن الرجال أيضاً، سواء أكانوا ساسة أم محاربين، فقهاء أم إداريين، يضع كل واحد في موقعه المناسب، ويوظّف كفاءاته خير توظيف، ولولا ذلك لما استطاع صلاح الدين أن يحقق ما حققه. ونقف في هذه الحلقة عند سيرة رائد غرب آسيوي شهير، اكتشفه صلاح الدين في وقت مبكّر، فوثق به، وأوكل إليه المهمات الخطيرة، إنه الفقيه عيسى الهَكّاري، فماذا عنه؟
هَكاري: جبال ورجال
يعرف الكرد منطقة هَكاري من خلال الملحمة الشعبية العريقة (جَبَلي مِيرَى حكارَه) Gebeli Miré Hekére، أي (جَبَلي أمير هكار)، وهي منطقة جبلية في معظمها، شديدة الوعورة، قممها شامخة، ووديانها ضيقة، تقع في الزاوية الشرقية الجنوبية من تركيا حالياً، وتتاخم الحدود الإيرانية شرقاً والحدود العراقية جنوباً، وقد ذكرها ياقوت الحموي في (معجم البلدان، 4/322) باسم (هَكّاري)، وقال: ” الهَكّارِيةُ: بالفتح وتشديد الكاف وراء وياء نسبة: بلدة وناحية وقرى فوق الموصل في بلد جزيرة ابن عمر، يسكنها أكراد يقال لهم الهكارية “.
وأنجبت منطقة هكاري عدداً وافراً من العلماء والقادة البارزين، منهم: شيخ الإسلام أبو الحسن علي بن أحمد بن يوسف بن جعفر بن عرفة الهكاري (ت 486 ﮪ)، و عماد الدين ابن المشطوب وأخوه الجَناح، وهما من أبرز الأمراء في جيش صلاح الدين، ومنهم أيضاً الفقيه عيسى الهكاري موضوع حلقتنا هذه.
وقال ابن خلّكان (وفيات الأعيان، 3/497) بصدد نسب الفقيه عيسى: ” الفقيه أبو محمد عيسى بن محمد بن عيسى بن محمد بن أحمد بن يوسف بن القاسم بن عيسى بن محمد بن القاسم بن محمد بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، هكذا أملى عليّ نسبَه ولدُ ولدِ أخيه، ويقال له الهكاري، الملقب ضياء الدين“. ولم يعلّق ابن خلكان على هذا النسب الذي اختلط فيه الكردي الهكاري بالعربي الهاشمي، واكتفى بأن حمّل حفيد أخي الفقيه عيسى مسؤولية هذه المعلومة، وكأنه يقول ضمناً: لست مسؤولاً عن صحتها أو عدم صحتها.
أما من جانبنا فنرجّح أن نسبة أسرة الفقيه عيسى إلى سلالة الحسن بن علي بن أبي طالب هو اختلاق، وقد فعل الحفيد ذلك لأسباب تتمحور في الدرجة الأولى حول الرغبة في الانتساب إلى عائلة النبي محمد، للفوز بالمقام الرفيع الذي يمنحه المسلمون عادة لمن ينتمي إلى هذه السلالة، وفي العالم الإسلامي كثيرون من العرب وغير العرب نهجوا هذا النهج للفوز بالمزايا التي يختص بها آل بيت النبي.
وبشأن الأصل الكردي للفقيه عيسى نعتمد على أمور ثلاثة:
1 – الأمر الأول أن الفقيه عيسى نفسه لم يذكر لأحد نسب أسرته إلى علي بن أبي طالب، وإنما الذي ذكر ذلك النسب هو حفيد أخيه. ولو كانت أسرة الفقيه عربية هاشمية لما تردّد الفقيه في الإعلان عنها، لأن ذلك كان مدعاة للفخر.
2 – الأمر الثاني أن كل من كتب عن الفقيه عيسى ذكر أنه كردي هكاري، ولم يذكر أنه عربي قرشي هاشمي، وهذا دليل آخر على أن الرجل نفسه لم يذكر شيئاً يتعلق بالنسب الهاشمي، ولو كان قد فعل ذلك لذكره من كتب عنه.
3 – الأمر الثالث أن الفقيه عيسى كان يقف إلى جانب الكرد في خضم الصراع الكردي التركماني داخل الجيش الزنكي.
ولا تذكر المصادر شيئاً عن تاريخ ولادة الفقيه عيسى، ولا شيء عن تفاصيل حياته وهو صبي، وتبدأ أخباره بالظهور وهو في عهد الشباب، قال ابن خلّكان (وفيات الأعيان، 3/497): ” وكان في مبدأ أمره يشتغل في الفقه بالمدرسة الزجاجية بمدينة حلب، فاتصل بالأمير أسد الدين شيرگوه، عم السلطان صلاح الدين … وصار إمامه يصلّي به الفرائض الخمس. ولما توجّه أسد الدين إلى الديار المصرية، وتولّى الوزارة … كان في صُحبته “. وقال ابن الأثير(الكامل في التاريخ، 12/42): ” هو من أعيان أمراء العسكر، ومن قدماء الأسدية، وكان فقيهاً، جندياً، شجاعاً، كريماً، ذا عصبية ومروءة، وهو من أصحاب الشيخ الإمام أبي القاسم البَرْزي، تفقّه عليه بجزيرة ابن عمر، ثم اتصل بأسد الدين شيرگوه، فصار إماماً له، فرأى من شجاعته ما جعل له إقطاعاً “.
ونستنتج مما سبق أن الفقيه عيسى بدأ حياته طالب علم، وتخصص في علم الفقه الإسلامي على وجه التحديد، ودرس هذا العلم في كل من جزيرة ابن عمر (جزيرة بوتان) القريبة من منطقة هكاري، ثم انتقل إلى مدينة حلب، وكانت حينذاك من العواصم الثقافية الكبرى، ونفهم من عبارة “يشتغل في الفقه” التي أوردها ابن خلّكان أن الفقيه عيسى استكمل تعلّم الفقه في المدرسة الزجاجية، ويبدو أنه أتقن ذلك العلم، وأجيز فيه على عادة طلبة العلم في ذلك الزمان، وحاز على لقب (الفقيه).
الزنكيون والكرد
دخل السلاجقة الترك بغداد عاصمة الخلافة العباسية سنة (447 ﮪ/1055 م)، وفرضوا سيطرتهم على غربي آسيا، وفي إطار الستراتيجية السلجوقية تم تعيين عماد الدين زنكي حاكمًا على الموصل ومعظم ديار الجزيرة سنة (521 ﮪ)؛ الأمر الذي جعله على تماس مباشر مع النفوذ الفرنجي في إمارة الرُّها وإمارة أنطاكيا، وكان أول ما بدأه عماد الدين أنه سيطر على المناطق الكردية بدءاً من منطقة شهرزور (قرب سليمانية حالياً) وانتهاء بمنطقة هكاري وديار بكر وماردين وما جاورها( ابن الأثير: الباهر في التاريخ، ص 57 – 58، 64. ابن أبي الهيجاء: تاريخ ابن أبي الهيجاء، ص 203. ابن الأثير: الكامل في التاريخ، 11/94). وصار الزنكيون على تماس مباشر مع المناطق المحتلة من قِبل الفرنج، وفرضت عليهم الضرورات الجيوسياسية أن يتحملوا عبء الصراع ضد الفرنج.
وقد استقطب عماد الدين زنكي قوتين كرديتين:
القوة الأولى قوة مقاتلة، وكان الأيوبيون، ومن معهم من فرسان القبيلة الهَذْبانية (هُوز باني) Hoze Bani، ويعني هذا الاسم بالكردية- فيما أعلم- (أصحاب قطعان المراعي الجبلية العليا)، وكان الهذبانيون من أهم القوى الكردية المقاتلة التي ضمها عماد الدين إلى صفوف جيشه، إنها كانت قوة متمرسة على الحروب منذ أن كانت تعمل في صفوف الدولة الشدادية الكردية في جنوبي القوقاز، ونتيجة للكفاءة الحربية لكل من الأخوين أيوب وشيرگوه صارا من كبار القادة في الجيش الزنكي، وكان الأيوبيون يستقطبون الفرسان القبليين الكرد للانخراط في صفوف الجيش الزنكي، حتى إن شيرگوه أنشأ فرقة خاصة مكوّنة من أولئك الفرسان ومن الفرسان التركمان، سمّيت باسم (الفرقة الأسدية)؛ نسبة إلى لقبه (أسد الدين).
والقوة الثانية قوة ثقافية دينية، تمثّلت في مجموعة من الفقهاء الكرد، برز منهم آل الشهرزوري بريادة القاضي كمال الدين الشهرزوري، وقد تولّى هذا الفقيه القضاء في بلاد الشام، وبلغ رتبة الوزارة في عهد نور الدين زنكي، وكان قادة الدولة الزنكية في حاجة ماسة إلى الدعم اللوجستي الثقافي الذي كانت مقاليده في أيدي الفقهاء، وكان الفقهاء ورجال الدين عامة هم القادرين على تحريك الجماهير، ودفعها إلى الوقوف مع الحكام، وبذل المال والنفس في سبيل السياسات المرسومة حينذاك.
واغتيل عماد الدين زنكي سنة (541 ﮪ/1146 م)، وانجلت المنافسات الداخلية عن مركزين للقوى داخل الدولة الزنكية: الأولى تركمانية بقيادة بعض كبار الضباط التركمان، والثانية كردية بقيادة الأسرة الأيوبية. وفور مقتل عماد الدين نشب التنافس بين أبنائه، وأفلح الفريق الكردي في إيصال مرشحه نور الدين محمود بن عماد الدين إلى سدة الحكم، واستبعاد سيف الدين غازي الابن الأكبر لعماد الدين، ومرشح الفريق التركماني، ووقف القادة الكرد بكل ما أوتوا من قوة وكفاءة لترسيخ أركان الدولة الزنكية بقيادة السلطان نور الدين.
ومرّ أن الفقيه عيسى بدأ حياته العملية إماماً للأمير شيرگوه، عم صلاح الدين، وهذا يعني أنه كان أحد عناصر الفرقة الأسدية، ويبدو أنه كان قد حاز ثقة شيرگوه، حتى إنه اصطحبه معه إلى مصر بعدئذ، ومعروف أن شيرگوه قاد ثلاث حملات عسكرية إلى مصر، بتكليف من السلطان نور الدين، وبدعوة من الخليفة الفاطمي العاضد لدين الله، بقصد حماية مصر من الفرنج، وفي الحملة الثالثة سنة (564 ﮪ/1168 م) استطاع شيرگوه أن ينقذ مصر من الفرنج، فعينّه الخليفة الفاطمي وزيراً(ابن الأثير: الباهر في التاريخ، ص 120، 119، 132، 137. ابن شداد: النوادر السلطانية، ص 40).
ويبدو أن الفقيه عيسى كان من الرجال الذين وثق بهم السلطان نور الدين، فندبه للمهمات السياسية الصعبة، وقد ذكر أبو شامة في (الروضتين، 1/ 182) أن الوزير المصري شاوَر كان يفضّل أن يهادن الفرنج لما دخلوا مصر، وأدرك الخليفة الفاطمي العاضد أن خطة شاور ستقود مصر إلى الوقوع في قبضة الفرنج، فكتب رسالة سرية إلى نور الدين، يستنجد به، فكلّف نور الدين كبير قادة جيشه شيرگوه بالتوجه إلى مصر، ليحميها من الفرنج، “وأرسل الفقيه عيسى الهكاري إلى مصر برسالة ظاهرة إلى شاوِر يعلمه أن العساكر واصلة، وبرسالة سرية إلى العاضد، وأمره أن يستحلفه على أشياء عيَّنها، وأن يكتم ذلك من شاوَر“.
منافسة على الوزارة
كان بقاء شيرگوه في منصب الوزارة بمصر قصيراً جداً، فقد فاجأه الموت سنة (564 ﮪ / 1169 م)، بعد شهرين وخمسة أيام من تولّيه ذلك المنصب، وفور وفاته بدأ الخليفة الفاطمي العاضد يبحث عن شخصية جديدة للحلول محل شيرگوه ، وبما أن الجيش النُّوري – حسبما يسميه المؤرخون المسلمون القدامى ويسمّونه الجيش الشامي أيضاً- كان القوة العسكرية المهيمنة في مصر حينذاك، بعد انتصاره على الفرنج وحلفائهم المصريين، فلم يكن أمام الخليفة العاضد خيار سوى أن يكون وزيره الجديد من قادة ذلك الجيش.
أما في صفوف الجيش النوري (الشامي) فقد تنافس كبار القادة فيما بينهم للفوز بمنصب الوزارة، بل حشد كل منهم الجنود التابعين له إظهاراً لقوته، قال ابن الأثير (الكامل في التاريخ، 5/105):
” فإن جماعة من الأمراء النُّورية الذين كانوا بمصر طلبوا التقدم على العساكر، وولاية الوزارة العاضدية بعده [بعد شيرگوه]، منهم عين الدولة اليارُوقي، وقطبُ الدين، وسيف الدين المشطوب الهكاري، وشهاب الدين محمود الحارمي، وهو خال صلاح الدين، وكل واحد من هؤلاء يخطبها، وقد جمع أصحابه ليغالب عليها “.
غير أنه كان للخليفة العاضد- بتوجيه من حاشيته- حساباته الخاصة، فصحيح أنه استعان بجيش السلطان نور الدين لإنقاذ مصر من مطامع الفرنج، لكنه كان يعلم أن نور الدين سنّي متعصّب، وأنه مُوالٍ للخليفة العباسي السنّي في بغداد، وكان يعلم أيضاً أن أول ما يطمح إليه الخليفة العباسي هو الإطاحة بالخلافة الفاطمية، وهرباً من ذلك المصير استقر رأي العاضد وحاشيته على استبعاد كبار قادة الجيش النُّوري من منصب الوزارة، وإسنادها إلى صلاح الدين، فأحضره عنده، وخلع عليه، وولاه الوزارة بعد عمه، ومنحه لقب (الناصر)؛ قال ابن الأثير موضّحاً موقف العاضد (الكامل في التاريخ، 5/105):
” وكان الذي حمله على ذلك أن أصحابه قالوا: ليس في الجماعة أضعف ولا أصغر سناً من يوسف، والرأي أن يولّى، فإنه لا يخرج من تحت حكمنا، ثم نضع على العساكر من يستميلهم إلينا، فيصير عندنا من الجنود من نمنع بهم البلاد، ثم نأخذ يوسف أو نخرجه “.
وها هنا نشبت الأزمة في صفوف الجيش النوري، وأبدى كبار القادة كرداً وأتراكاً معارضتهم لتعيين صلاح الدين في منصب الوزارة، وبطبيعة الحال كان من المحال أن يستمر صلاح الدين في منصب الوزارة مع وجود تلك المعارضة القوية، إذ كانت العادة أن يكون القائد العام للجيش النوري هو الذي يتولّى الوزارة، وما كان صلاح الدين قد عُيّن بعدُ قائداً عاماً للجيش النوري من قِبل السلطان نور الدين؛ ولذا لم يتردّد كبار القادة عن إعلان معارضتهم، والوقوف ضد قرار العاضد، وقال ابن الأثير في هذا الشأن: ” فلما خلع عليه لقب الناصر لم يطعه أحد من أولئك الأمراء الذين يريدون الأمر لأنفسهم، ولا خدموه “. وقال ابن تغري بردي في (النجوم الزاهرة، 2/ 119):
“ فلما حضر في القصر خلع عليه خلعة الوزارة: الجبة والعمامة وغيرهما، ولقب بالملك الناصر، وعاد إلى دار عمه أسد الدين شيرگوه وأقام بها، ولم يلتفت إليه أحد من أولئك الأمراء الذين يريدون الأمر لأنفسهم ولا خدموه “.
وكان الرجل الذي ترك بصماته واضحة على تلك اللحظات الحاسمة، وعلى تاريخ غربي آسيا، وعلى مستقبل الوجود الفرنجي في شرقي البحر الأبيض المتوسط، هو الفقيه عيسى الهكاري، فقد وقف إلى جانب صلاح الدين، وأفصح موقفه ذلك عن أن الرجل لم يكن مجرد فقيه يجيد الغوص في بطون الكتب الدينية، والربط بين الفروع والأصول، وإنما كان أيضاً سياسياً محنّكاً، يجيد قراءة الشخصيات والأفكار، ويعرف كيف يتعامل مع أصحاب الطموحات، ويعلم بدقّة مراكز القوى في الجيش النوري، ويمتلك مهارة المناورات السياسية الدقيقة.
والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن هو: أما كان الأحرى بالفقيه عيسى أن ينحاز إلى جانب ضباط أعلى من صلاح الدين رتبة وأكثر خبرة؟ هذا التساؤل جدير بالبحث، ويبدو أن الفقيه عيسى كان يرى في صلاح الدين جانباً آخر، وكان قد لمح فيه من المزايا القيادية ما لم يكن يجدها في الآخرين؛ أبرزها الحيوية، والشجاعة، والخلق الرفيع، والجمع بين استعمال اللين والحزم بحسب المواقف.
وقد يقال: لم لا نفسّر انحياز الفقيه عيسى إلى صلاح الدين على أنه كان انحيازاً إلى الفريق الكردي ضد الفريق التركي؟ والحقيقة أني لا أستبعد ذلك، لكني لا أعتقد أن ذلك كان العامل الأوحد، فقد كان بين القادة المتنافسين قائدان كرديان مرموقا المكانة جداً، هما سيف الدين المشطوب الهكاري، وشهاب الدين محمود الحارمي خال صلاح الدين، وإذا أخذنا الانحياز إلى الكردية وحده تفسيراً لموقف الفقيه عيسى لكان من المنطقي أن ينحاز الفقيه عيسى إلى القائد سيف الدين المشطوب الهكاري، باعتباره ابن منطقته، إضافة إلى أنه كان صاحب مقام رفيع في الجيش النوري.
مناورات سياسية
أجل، إن الفقيه عيسى وقف إلى جانب الشاب صلاح الدين، وقام بمناورات سياسية دقيقة، ونلمح في خطوات تعامله مع هذه المشكلة أنه جزّأها إلى أقسام، وتعامل مع كل قسم على حدة، وكان خبيراً بشخصية القادة المنافسين لصلاح الدين، وبدأ الخطوة الأولى مع القائد سيف الدين المشطوب الهكاري، قال ابن خلّكان (وفيات الأعيان، 7/154): “فسعى مع سيف الدين علي بن أحمد حتى أماله إليه، وقال له: إن هذا الأمر لا يصل إليك مع وجود عين الدولة والحارمي وابن تليل “.
إن المدخل الذي اتخذه الفقيه مع المشطوب كان مدخل الواقعية السياسية، فقد أفهم المشطوب بصريح العبارة أنه سيخرج من الرهان خاسراً، لأن مراكز القوى المنافسة له هي الأقوى، وأن يكون قائداً بإمرة صلاح الدين الذي سيجلّه ولا ريب خير له من أن يكون بإمرة الياروقي والحارمي وغيرهما. وفهم المشطوب الرسالة، وأدرك أن قراءة الفقيه للواقع هي قراءة صائبة، فترك صفوف المعارضة، وانضم إلى المؤيدين لصلاح الدين، وبذلك زالت واحدة من العقبات الكبرى التي كانت تحول دون وصول صلاح الدين إلى قيادة الجيش النُّوري وإلى الوزارة.
وذكر ابن خلّكان (ابن خلّكان: وفيات الأعيان، 7/154) أن الفقيه عيسى انتقل إلى المنافس الثاني، أقصد شهاب الدين محمود الحارمي، وقال له: “هذا صلاح الدين هو ابن أختك، ومُلكه لك، وقد استقام الأمر له، فلا تكن أول من يسعى في إخراجه عنه، ولا يصل إليك” ، وواضح أن الفقيه اختار مع الحارمي مدخلاً آخر، هو البناء على القرابة بين الحارمي وصلاح الدين، إضافة إلى زرع اليأس في نفسه، وظل الفقيه عيسى يلحّ على الحارمي حسبما أفاد ابن خلّكان(وفيات الأعيان، 7/154)، ” ولم يزل به، حتى أحضره أيضاً عنده، وحلّفه له “.
وبقي معارضان خطيران اثنان، هما قطب الدين خسرو الهذباني، وعين الدولة الياروقي، أما قطب الدين فهو ابن أخي أبي الهيجاء الهذباني الذي كان حاكم إربل، وهو من أسرة كردية عريقة وشهيرة، واختار الفقيه أن يكون المدخل مع قطب الدين هو العصبية الكردية، إضافة إلى إطماعه في مزايا مالية إضافية، فذهب إليه، وقال له: ” إن صلاح الدين قد أطاعه الناس، ولم يبق غيرك وغير الياروقي، وعلى كل حال فيجمع بينك وبين صلاح الدين أن أصله من الأكراد، ووعَده وزاد في إقطاعه “. ونقل الذهبي في (تاريخ الإسلام) عن ابن واصل أن الفقيه ذهب إلى قطب الدين، وقال له: ” إن صلاح الدين قد أطاعه الناس، لم يبق غيرك وغير عين الدولة، وعلى كل حال، فالجامع بينك وبين صلاح الدين أن أصله من الأكراد، فلا يخرج الأمر عنه إلى الأتراك. ووعده بزيادة إقطاعه، فلان وحلف“. وكانت النتيجة أن قطب الدين ترك صفوف المعارضة أيضاً، وأعلن الطاعة لصلاح الدين,
ولم يبق من المعارضين سوى القائد التركماني عين الدولة الياروقي، وعلم الفقيه أن المداخل السابقة لا تنفع في التعامل مع الياروقي، ولعله كان يعلم في قرارة نفسه أنه أصعب المعارضين وأصلبهم موقفاً، ولذلك تركه إلى النهاية، وشرع بتكوين حلقة فراغ حوله، من خلال استقطاب المعارضين الآخرين، وقاده رويداً رويداً إلى مفترق طريقين: إما الانضواء تحت قيادة صلاح الدين، وإما الابتعاد عن ساحة المنافسة بعد أن بقي وحيداً، واختار الياروقي الخيار الثاني، فعاد إلى دمشق مع المعارضين التركمان الآخرين، وهذا ما كان الفقيه عيسى يريده، وقد تنبّه السلطان نور الدين إلى خطورة ابتعاد الياروقي وبقية الأتراك المعارضين من مصر، ولكن كان الأوان قد فات، قال ابن خلّكان (وفيات الأعيان، 7/155) بشأن الياروقي:
” وكان أكبر الجماعة، وأكثرهم جمعاً، فلم تنفعه رُقاه [أي رُقى الفقيه]، ولا نفذ فيه سحره، وقال: أنا لا أخدم يوسف أبداً. وعاد إلى نور الدين ومعه غيره، فأنكر عليهم فراقه، وثبت قدم صلاح الدين، ورسخ مُلكه “.
مواقف وشهادات
ونخلص مما سبق إلى أن الفقيه عيسى الهكاري يستحق أن يسمى (مهندس قيام الدولة الأيوبية)، فلولا مناوراته السياسية الذكية هذه لما تمكّن صلاح الدين من البقاء في منصب الوزارة، ولولا بقاؤه في منصب الوزارة لما استطاع ترسيخ نفوذه في مصر، وتوسيعه ليشمل شمالي البلاد التي سميت في العصر الحديث باسم (السودان)، ولما استطاع السيطرة بعدئذ على اليمن، ولا ريب في إن موارد مصر المالية، وموقعها الجيوسياسي المؤثر إقليمياً، والكثافة الديموغرافية فيها، كانت عوامل مهمة للغاية، استفاد منها صلاح الدين في السيطرة على بلاد الشام وعلى القسم الأكبر من كردستان بعد وفاة نور الدين سنة (569 ﮪ)، فأصبح سلطاناً معترفاً به من قِبل الخليفة العباسي في بغداد، وصار أقوى حاكم في غربي آسيا، وقاد شعوب المنطقة لمواجهة حملات الفرنج؛ وإذا أخذنا كل هذه الوقائع في الحسبان أدركنا أهمية المناورات السياسية التي قام بها الفقيه عيسى لتمكين صلاح الدين من موقع الوزارة.
ولم تتوقف جهود الفقيه عيسى عند هذا الحد، وإنما كان إلى جانب صلاح الدين في معظم الأحداث السياسية والحربية الحاسمة، وإليكم بعض مواقفه ومساهماته.
1 – بعد أن ثبت صلاح الدين في منصب الوزارة بمصر، وعاد الفريق المعارض له إلى دمشق- وكانت بزعامة القائد التركي الكبير عين الدولة الياروقي- أبدى القادة الأتراك تخوّفهم من أن يُرسّخ صلاح الدين أقدامه في مصر، ويستقلّ بها عن سلطة نور الدين، وتأثّر السلطان نور الدين بتلك الهواجس، فشرع يستفزّ صلاح الدين، ويتعمّد التضييق عليه؛ لاستدراجه إلى إعلان العصيان، فيكون عصيانه حجة لإزاحته أو القضاء عليه، وذكر أبو شامة في (عيون الروضتين، 1/440 – 441):
” أن نور الدين لما اتصل به وفاة أسد الدين، ووزارة صلاح الدين، وما انعقد له من المحبّة في قلوب الرعايا، أعظم ذلك وأكبره، وتأفّف منه وأنكره، وقال: كيف أقدم صلاح الدين أن يفعل شيئًا بغير أمري؟ وكتب في ذلك عدّة كتب، فلم يلتفت الملك الناصر إلى قوله، إلا أنه لم يخرج عن طاعته وأمره “.
وهكذا فقد تغلّب صلاح الدين على منافسة كبار قادة الجيش له، لكنه وجد نفسه في مأزق جديد، بعد أن صار السلطان نور الدين خصماً له، وكان الخطر في هذه المرة أكبر مما سبق، وكان للفقيه عيسى تأثير كبير في هذه المحنة الجديدة، إذ أرسله صلاح الدين رسولاً إلى نور الدين، ليقوم بطمأنة السلطان وتبديد مخاوفه، وأفلح الفقيه عيسى في تلك المهمة.
2 – كان الفقيه عيسى حريصاً على تماسك البيت الأيوبي، وعدم حصول النزاعات في هرم السلطة الأيوبية، فبعد أن سيطر صلاح الدين على بلاد الشام والأقسام الجنوبية والشمالية والغربية من كردستان وصل إلى مدينة حَرّان، ومرض مرضاً شديداً، حتى إنه أشرف على الموت، وقام خلال ذلك بإحداث تغييرات في مراكز القوى داخل السلطة، تهيئة لأن تصبح مقاليد الأمور بين يدي أبنائه من بعده، فتمرد عليه الأمير تقيّ الدين عمر ابن أخيه شاهنشاه بن أيوب، وكان من كبار أمراء البيت الأيوبي، ومن أبرزهم في ميادين الشجاعة والفروسية، وهمّت نفسه بالسيطرة على مصر، والهيمنة على السلطة، ولما تعافى صلاح الدين، طلب من تقي الدين الحضور إلى دمشق، فامتنع، وعزم على اللحاق بليبيا، وشرع في السفر، وكان ينوي التمرد على صلاح الدين، وإثارة القلاقل في الجزء الغربي من الدولة الأيوبية.
وهنا ظهرت جهود الفقيه عيسى التوفيقية بوضوح، فقد كلّفه صلاح الدين بحل تلك المعضلة، فتوجّه الفقيه إلى تقي الدين، وأقنعه بأن عمه صلاح الدين لن يؤذيه، وثنى عزمه عما كان قد قرّره من التمرد، فخرج تقي الدين إلى دمشق، والتقى بعمه، فعفا عنه، وبذلك نجح الفقيه عيسى في الحفاظ على تماسك الأسرة الأيوبية، وأزال واحداً من أشد المخاطر التي كانت نذيراً بنشوب الصراعات دخل البيت الأيوبي.
3 – لم يكن الفقيه عيسى رجل العلم والسياسة فقط، وإنما كان مقاتلاً في ساحات الحرب أيضاً، وصفه ابن خلكان (وفيات الأعيان، ج 3 / ص 498) قائلاً: ” وكان يلبس زيّ الأجناد، ويعتمّ بعمائم الفقهاء، فيجمع بين اللباسين. ورأيت أخاه الأمير مجد الدين أبا حفص عمر أيضاً على هذه الصفة” .
وذكر ابن الأثير (الكامل في التاريخ، 5/140)، في أحداث سنة (573 ﮪ)، أن جيش صلاح الدين هاجم مناطق فلسطين الواقعة في أيدي الفرنج، وانشغل الجنود بطلب الغنائم، لكن الفرنج فاجأوهم بهجوم معاكس، ” وكان مع صلاح الدين بعض العسكر، لأن أكثرهم تفرقوا في طلب الغنيمة، فلما رآهم وقف لهم فيمن معه، وتقدم بين يديه تقي الدين عمر بن محمد ابن أخي صلاح الدين، فباشر القتال بنفسه بين يدي عمه، فقتل من أصحابه جماعة، وكذلك الفرنج، … وكان أشد الناس قتالاً ذلك اليوم الفقيه عيسى“. وفي تلك المعركة لحقت الهزيمة بجيش صلاح الدين، ووقع الفقيه عيسى في أسر الفرنج مع أخيه ظهير الدين، فافتداه صلاح الدين بستين ألف دينار.
وظل الفقيه عيسى ينشط بفعالية وبإخلاص لترسيخ أركان الدولة الأيوبية، ويقف إلى جانب صلاح الدين في السرّاء والضرّاء، إلى أن توفي سنة (585 ﮪ/ 1189 م)، وقد أشاد ابن الأثير ( الكامل في التاريخ، 12/42) بمكانته قائلاً: ” وتقدّم عند صلاح الدين تقدماً عظيماً “. وقال ابن تغري بردي (النجوم الزاهرة، 2 / 152) في أحداث سنة (585 ﮪ): ” وكان صلاح الدين يميل إليه ويستشيره، وكأن الله قد أقامه لقضاء حوائج الناس والتفريج عن المكروبين مع الورع والعفة والدين، رحمه الله “.
وقال ابن خلكان (وفيات الأعيان 3/497 – 498) بمناسبة وفاة الفقيه عيسى: ” أحد الأمراء بالدولة الصلاحية، كبير القدر وافر الحرمة “. وقال ابن خلكان أيضاً (وفيات الأعيان، 3/497):
” فلما تولى صلاح الدين رأى له ذلك واعتمد عليه، ولم يكن يخرج عن رأيه، وكان كثير الإدلال عليه، يخاطبه بما لا يقدر عليه غيره من الكلام، وكان واسطة خير للناس نفع بجاهه خلقاً كثيراً. ولم يزل على مكانته وتوفر حرمته إلى أن توفي في يوم الثلاثاء عند طلوع الشمس، التاسع من ذي القعدة سنة خمس وثمانين وخمسمائة بالمخيم بمنزلة الخروبة [قرب عكا]، ثم نقل إلى القدس ودفن بظاهرها، رحمه الله تعالى“.
وجملة القول أنه لولا وجود رجال أفذاذ ومخلصين، من أمثال الفقيه عيسى، إلى جانب صلاح الدين، لكان لتاريخ غربي آسيا مسار آخر مختلف تماماً.
المراجع
ابن الأثير: التاريخ الباهر في أخبار الدولة الأتابكية بالموصل، تحقيق عبد القادر أحمد طليمات، دار الكتب الحديثة، بغداد.
ابن الأثير: الكامل في التاريخ، دار صادر، بيروت.
ابن تغري بَردي: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، مطبعة دار الكتب المصرية، القاهرة، 1935.
ابن خلكان: وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، تحقيق الدكتور إحسان عباس، دار صادر، بيروت، 1977.
الذهبي: تاريخ الإسلام، تحقيق محمد محمود حمدان، دار الكتاب المصري، القاهرة، 1985.
أبو شامة: عيون الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية، حققه أحمد البيسومي، وزارة الثقافة، دمشق، 1992 م.
ابن شداد: النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية، تحقيق جمال الدين الشيّال، الدار المصرية للتأليف والترجمة، القاهرة، الطبعة الأولى، 1964م.
ابن أبي الهيجاء: تاريخ ابن أبي الهيجاء، تحقيق صبحي عبد المنعم محمد، دار رياض الصالحين، الطبعة الأولى، 1993م.
ياقوت الحموي: معجم الأدباء، تحقيق الدكتور إحسان عباس، دار الغرب الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى، 1993 م.
وإلى اللقاء في الحلقة الثالثة والخمسين.
د. أحمد الخليل في 02-04-2008
[1]