تركيا بين الطوباوية والواقعية السياسية
لقمان جارو
مصطلحُ ” الطوباوية “، والتي ترادفُ اليوتوبيا أي (اللامكان)، يُستخدم عادةً للإشارة إلى الرؤى المثالية التي تركز على تصوّر مجتمعٍ أو دولةٍ مثالية تسودها العدالةُ والسلام، ولكنها قد تكون غيرَ قابلةٍ للتحقيق بسبب العقبات الواقعية. في سياق تركيا، يمكننا التفكيرُ بالطوباوية على أنها رؤيةٌ تعتمد على الأفكار المثالية حول مستقبل تركيا، سواءٌ في مجالات السياسة أو الاقتصاد أو المجتمع.
على النقيض من الطوباوية، تأتي الواقعيةُ، وهي نظرةٌ ترى العالمَ كما هو، بما في ذلك التحديات والصراعات المعقدة التي تواجهها تركيا على المستوى الداخلي والخارجي. الواقعية تتبنى فكرةَ التعامل مع الحقائق السياسية والاقتصادية الحالية لتحقيق أهدافٍ ممكنة وقابلة للتنفيذ، بدلًا من البحث عن كمالٍ قد يكون غير قابلٍ للتحقيق.
إذا طبّقنا هذين المفهومين على سياسة تركيا، نجد أنّ:
آ- الرؤية الطوباوية: قد تشمل رؤىً تتعلق بتحقيق مكانةٍ قوية لتركيا، كقوة إقليمية أو حتى عالمية، تعتمد على الابتعاد عن الانقسامات، وتعزيز التنمية الاقتصادية بشكلٍ مستدام ومتساوٍ، وتحقيق نوعٍ من التوازن بين القوى الدولية دون التورط في نزاعات حادة.
ب- النظرة الواقعية: تقبل بأنّ تركيا تواجه تحدياتٍ اقتصادية، وقضايا داخلية مثل حقوق الإنسان وحرية التعبير، إضافة إلى علاقاتٍ معقدة مع جيرانها ودول العالم. على الصعيد الواقعي، السياسةُ التركية الحالية تعمل على المناورة بين المصالح المتضاربة، والتحالفات المرحلية، والتأقلم مع التحولات العالمية للحفاظ على مصالحها ووجودها.
تركيا تجد نفسها بين هذين المنظورين في سعيها لتحقيق أهدافها.
هل حلم العثمانية الجديدة هدفٌ طوباوي!؟
حلم “العثمانية الجديدة” يمكن اعتباره هدفاً طوباوياً إلى حدٍّ كبير، لأنّ هذا الحلمَ يرتكز على تصوّرٍ لتركيا الحديثة كقوةٍ إقليمية بارزة تستطيع استعادة نفوذها وتأثيرها التاريخي الذي امتدّ في العصور العثمانية على مساحاتٍ شاسعة من العالم العربي والبلقان، وحتى بعض مناطق أوروبا.
لكن في الواقع، هذا الحلمُ يواجه تحدياتٍ كبيرة تجعله هدفًا يصعب تحقيقه تمامًا بنفس الصيغة المتخيلة، لأسبابٍ عديدة:
1- التعقيدات الجيوسياسية: تركيا تتعاملُ مع منطقةٍ معقدة من الناحية السياسية، حيث تتواجد قوىً إقليمية أخرى مثل إيران والسعودية وإسرائيل، ولديها مصالحها ونفوذها الخاص. كذلك، تلعب القوى الكبرى مثل الولايات المتحدة وروسيا دورًا كبيرًا في شؤون الشرق الأوسط، مما يعقد مساعي تركيا للسيطرة أو للنفوذ المباشر.
2- التحديات الاقتصادية: تحقيقُ طموحٍ كهذا يتطلب مواردَ اقتصادية هائلة واستقرارًا اقتصاديًا داخليًا. تركيا تواجه تقلباتٍ اقتصادية ومالية، مما يؤثر على قدرتها على الاستثمار خارج حدودها بشكلٍ كبير وفعّال.
3- التوترات الثقافية والسياسية: الدولُ التي كانت جزءًا من الإمبراطورية العثمانية قد تتوجّس من فكرة عودة الهيمنة التركية أو النفوذ الكبير، حيث تسعى الكثيرُ من هذه الدول إلى تأكيد هويتها الوطنية المستقلة بعيدًا عن أي هيمنة خارجية.
4- المعايير الدولية والضغوط الخارجية: دخولُ تركيا في نزاعاتٍ أو محاولات بسط نفوذٍ واسع يُمكن أن يضعها تحت ضغوطٍ سياسية وعقوبات دولية من قوى كبرى، خاصة الدول الأوروبية وأمريكا، التي قد ترى في التوجهات التوسعية تهديدًا للاستقرار الإقليمي.
لذا، يمكن القول إنّ تحقيقَ حلم العثمانية الجديدة بمفهومه الطوباوي يبدو تحديًا كبيرًا، ويصطدم بالعديد من العقبات الواقعية.
اصطدامُ تركيا بواقع السياسة الدولية في تحقيق طموحاتها التوسعية:
تركيا تواجه تحدياتٍ كبيرة في تحقيق طموحاتها التوسعية، نتيجة اصطدامها بواقع السياسة الدولية المعقد والمتشابك، حيث تنحصر محاولاتها التوسعية في عدة عوامل تضغط عليها وتحدّ من قدرتها على المناورة بحرية، مثل التحالفات الدولية والمصالح الإقليمية للدول الكبرى، والقواعد السياسية والاقتصادية التي تحكم العلاقات الدولية. ومن هذه العقبات:
1- الضغوط الدولية والعقوبات: توجُّه تركيا نحو تحقيق نفوذٍ أكبر في مناطق مثل سوريا والعراق وشرق البحر المتوسط يجعلها تحت رقابة قوىً عالمية مثل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا، حيث يتم النظر إلى هذه الخطوات على أنها تهديدٌ للاستقرار الإقليمي. أدّى ذلك في بعض الأحيان إلى فرض عقوباتٍ اقتصادية، كتلك التي فرضتها الولايات المتحدة على تركيا بسبب شرائها نظامَ الدفاع الروسي ” إس-400″.
2- التوازن بين الشرق والغرب: حاولت تركيا تاريخيًا الحفاظَ على سياسة توازنٍ بين الغرب (الناتو وأوروبا) والشرق (روسيا ودول الشرق الأوسط). ولكن مع تعمّق العلاقات التركية مع روسيا واتّباع أنقرة سياساتٍ في بعض الأحيان تصطدم بمصالح الدول الغربية، تزايدت الصعوباتُ في الحفاظ على هذا التوازن، خاصة في ظلّ مطالباتٍ داخل الناتو بتحديد موقفٍ واضح تجاه تركيا.
3- التوترات الإقليمية والمنافسون الإقليميون: تتنافس تركيا مع دولٍ إقليمية قوية مثل إيران والسعودية ومصر وإسرائيل على النفوذ في الشرق الأوسط. هذه الدول، التي تملك هي الأخرى مصالحها الاستراتيجية، ترى في النفوذ التركي المتزايد تهديدًا لمصالحها، مما يؤدي إلى تحالفاتٍ ضدّ التوسع التركي، كما في الأزمة الخليجية والنزاع الليبي وناغورني قره باخ.
4- التعقيدات الاقتصادية: طموحاتُ تركيا الإقليمية تحتاج إلى مواردَ مالية ودعم اقتصادي مستدام. ومع التحديات التي تواجه الاقتصادَ التركي، مثل التضخم وارتفاع الديون الخارجية وتراجع الليرة، تجد تركيا نفسها مضطرةً لتخصيص موارد أكبر للاستقرار الداخلي بدلاً من المغامرات الخارجية المكلفة.
5- الأبعاد الثقافية والتاريخية: بعضُ الدول التي تسعى تركيا لتعزيز نفوذها فيها، مثل الدول العربية، تنظر إلى التحركات التركية بعين الحذر؛ حيث يُنظر إلى ” العثمانية الجديدة ” كتهديدٍ محتمل لاستقلالها وسيادتها. هذا التوجّس يصعّب من قبول النفوذ التركي الواسع دون مقاومةٍ سياسية وشعبية.
6- التشابك في القضايا الإقليمية والدولية: التدخلاتُ التركية في مناطق مثل سوريا وليبيا والبحر المتوسط تزيد من تعقيد علاقاتها مع قوى عظمى مثل الولايات المتحدة وروسيا، وتدفعها إلى المشاركة في نزاعاتٍ غير مستقرة، مما يعرقل تحقيقَ الأهداف التوسعية ويجعلها أكثر عرضةً للصراعات الممتدة إلى حدّ التقسيم.
7- المسألة الكردية: أخيراً وليس آخراً القضية الكردية، والتي تمثل مربطَ الفرس في حلّ مجمل القضايا تركيا داخلياً وخارجياً، وتمثل عائقاً أمام طموحات تركيا سواءً في الاستقرار السياسي أو الاقتصادي والتموضع الإقليمي والدولي.
باختصار، السياسةُ الدولية الحالية لا تترك لتركيا حريةَ تحقيق طموحاتها التوسعية كما تشاء، إذ تُكبَّل بسياسات التحالفات الدولية، وأدوار القوى الكبرى، والضغوط الاقتصادية، وأزماتٍ داخلية تتعلق بالديمقراطية وحقوق الإنسان والقضية الكردية وصراع الإيديولوجيات والمراوحة بين القوموية والدينوية، ما يجعل طموحاتها التوسعية في بعض الأحيان أقربَ للطوباوية منها للواقعية.[1]