أردوغان ليس عدو الكُرد لكن الأحزاب القومية الكُردية اليسارية لا يهمها أمرهم
علي سيريني
الحوار المتمدن-العدد: 6093
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
لم تشهد جمهورية تركيا، منذ تأسيسها عام 1923 وإلى أيامنا هذه، رئيساً مثل أردوغان أراد فعلا حل القضية الكُردية و التصالح مع #الشعب الكُردي# الذي فعلا ظُلم في المنطقة منذ نشوء الجمهوريات القومية. و منشأ الظلم في الأساس يعود إلى القوى الغربية التي عبثت بشعوبنا و مازالت تعبث. منذ مجئ أردوغان إلى السلطة في عام 2003، و هو ينفتح على الكُرد بإستمرار، كُرد تركيا و كُرد العراق. و غامر الرجل في حقل سياسي ملئ بالألغام و الممنوعات المقدسة، حيث دخل في مفاوضات مباشرة مع حزب العمال الكُردستاني (بي كى كى)، و استعان بكُرد العراق في سبيل تحقيق المفاوضات و الوصول إلى إتفاقية ترضي الطرفين. لكن الغريب، أن حزب العمال كان منذ البداية غير جاد في المضي قدما في المفاوضات، و تحقيق إتفاقية نزع فتيل الحرب بينه و بين تركيا منذ عام 1984. في المقابل، كان أردوغان يواجه صعوبات كثيرة في داخل تركيا، بسبب دخوله في المفاوضات مع حزبٍ، يُعتبر لدى معظم الأتراك حزبا إرهابيا.
بدل أن يستثمر حزب العمال هذه الفرصة الذهبية، خصوصا و أن رئيسه المفترض، عبدالله أوجلان المسجون في تركيا منذ عام 1999، قد أعلن السلام مع تركيا، و طلب من بعض مقاتليه تسليم أنفسهم و سلاحهم إلى تركيا، كبادرة حسن نية تجاه تركيا من أجل فتح باب الحوار و السلام؛ ذهب بي كى كى في المنحى المعاكس حيث التحدي و الحرب. دخل أردوغان في مفاوضات جادة مع حزب العمال، و لكن دون جدوى. فأوجلان المسجون، الذي تآمرت عليه دول الغرب، وسلّمته على طبق من ذهب إلى بولند أجاويد رئيس وزراء تركيا، في عام 1999، كان قد فقد تدريجيا سحره و نفوذه داخل حزب العمال، لصالح قيادات صاعدة كانت على صلة و ثيقة بالنظامين السوري و الإيراني، لأسباب عدة، منها سبب قوي، و هو الإنتماء المشترك بين هذه القيادات و بين رؤوس النظامين الإيراني و السوري إلى المذهب الشيعي و العلوي.
منذ إنطلاق مسيرة ثورات الربيع العربي التي عمّت بلدانا كثيرة و منها سورية و العراق، فقد أخذ حزب العمال جانب النظام السوري. شارك الكُرد في سوريا الربيع العربي، لكن حزب العمال وقف إلى جانب النظام و قمع مسيرات الكُرد في مناطقهم بسوريا و نكّل بالكثير منهم. بسبب السياسات التعسفية و الإقصائية لهذا الحزب، تحوّل الألوف من الكُرد في سوريا إلى لاجئين و مشردين يتوزعون على إقليم كُردستان و تركيا و سوريا نفسها، حيث هربت مجاميع منهم إلى المناطق التي ليست فيها لهذا الحزب قوة. أول ما أعلنته الأجنحة المسلحة التابعة لحزب العمال في سوريا، منذ عام 2011، هو العداء المطلق لتركيا التي وقفت إلى جانب الثورة السورية و إلى جانب إقليم كُردستان العراق. و استمر هذا العداء دون أدنى محاولة ديبلوماسية أو بادرة سلمية لفتح باب الحوار مع تركيا، فقد كان الأمر قد حُسم دون الرجوع عنه. و الغريب أن هذا الحزب تعامل بمنتهى الليونة و الإنفتاح مع جميع القوى الأخرى، مثل أمريكا و روسيا و إيران و سوريا، ما عدا تركيا. هذا على الرغم من أن هذه القوى مجتمعة هي التي سلّمت أوجلان إلى تركيا في عام 1999، و هي التي شاركت في نكبات الشعب الكُردي و التنكيل به منذ قرن و أكثر. لم يسمع حزب العمال و أجنحته أي نصيحة خيرة تجاه الإنفتاح على تركيا، وإمتحان إحتمالية الوصول إلى إتفاق معها. و بدا الأمر كغضب جنوني، مثل غضب الثيران الإسبانية، التي تمضي قدما بقرونها نحو تدمير الهدف.
في عام 2013، و تحت وطأة الضغوطات الكثيرة التي واجهت الأنظمة في دول الربيع العربي، و بعد نجاح ثورة مصر و تونس، و ضراوة الثورة في سوريا، و تزامنا مع تحضير الإنقلاب في مصر، قام تحالف سريع بين قوى يسارية و علوية و أقليات دينية في تركيا. هذا التحالف، كان مدعوما من جهات خارجية وجدت فرصة مناسبة لنقل تجربة ثورة الربيع العربي إلى داخل تركيا، و بدأت مظاهرات ميدان تقسيم تطالب بإسقاط أردوغان. بدأت المظاهرات بذريعة أن نشطاء بيئيين هالهم أمر الحكومة التركية قطع شجيرات في هذا الميدان، بسبب وقوعها ضمن مشروع إعادة ثكنة عسكرية عثمانية كات قد هُدمت في عام 1940 و وعد حزب العدالة و التنمية ناخبيه إعادة الثكنة إذا ما فاز في الإنتخابات. وقف حزب العمال مع المظاهرات، وذهب بعيدا في ذلك، حيث دخل لاحقا في تحالف مع قوى يسارية (أغلبها كان إسما على الورق). و بدأ الحزب يصف أردوغان و الحكومة التركية بأشنع الأوصاف، دون مراعاة لظروف الشعب الكُردي و حاجته لنيل حقوقه، عبر الحوار السلمي المتاح.
في عام 2015، وقع أمران في غاية الأهمية و الخطورة. الأمر الأول، هو ما حدث في بلدة سروج التابعة لولاية شانلي أورفة، حيث وقع إنفجار كبير نُسب إلى تنظيم داعش و استهدف نشطاء كُرد. قُتل في هذا الإنفجار حوالي 32 شخص و جُرح حوالي مائة شخص. و كرَدّ على هذا الهجوم الداعشي، قام حزب العمال بقتل ضابطين في الشرطة التركية، بدعوى إنتمائهما إلى تنظيم داعش. بينما اتهم صلاح الدين دميرتاش الدولة التركية بإرتكاب هذه الجريمة. و بعد أيام، قام الحزب بضرب سيارة عسكرية تركية في دياربكر، عبر نصب كمين قتل فيه جنديان تركيان، وبذلك قضى الحزب على مفاوضات السلام بينه و بين تركيا. الأمر الثاني، هو الإنتخابات التركية في يونيو 2015. في هذه الإنتخابات، لم يقدر حزب العدالة و التنمية الحاكم من نيل الأغلبية التي تخوله تشكيل الحكومة بمفرده. بينما حصل حزب الشعوب الديموقراطي، الذي أعتبر ظل حزب العمال، على 80 مقعدا في البرلمان التركي في مفاجأة مدوية. بدا الأمر بمثابة هدية من السماء، نزلت على كُرد تركيا. فلو كان صلاح الدين دميرتاش يعلن وقوفه مع حزب العدالة و التنمية و دعم سياسة أردوغان، التي طلب عبدالله أوجلان في سجنه دعمها و تعزيزها؛ لكان لدميرتاش و حزبه اليوم سلطة و سطوة و هيبة. فضلا عن ذلك، لحصل الشعب الكُردي على حقوق كانت تعتبر حلما بعيدا (اعترف دميرتاش قبل عام، في معرض التشهير بالعلاقة الودية السرية بين أردوغان و أوجلان، كغمز من طرف القوى التركية المناوئة لأردوغان. و اعترف أنه رفض توصيات أوجلان، رغم أن هذا الأخير أرسل رسالة ملحة إلى دميرتاش و رفاقه عبر أحد قيادات حزب الشعوب الديموقراطي). بدلا عن ذلك، ذهب دميرتاش يستجيب لتوصيات حزب العمال، و تصريحات الرفيق جمعة (جميل بايق) أنهم سيسقطون الدكتاتور أردوغان قريبا. و أمسى دميرتاش في تلك الأيام النجم اللامع لشاشات التلفزة التابعة للنظام السوري و الإيراني و حزب الله، و كان يشمت في خسارة حزب العدالة و التنمية و يهدد أردوغان. وتصاعدت نشوة الإنتصار الدميرتاشي بشكل جنوني، مع قرع طبول الفرح و التهديد بالحرب ضد تركيا، وسط تصفيق حار من قبل قوى دولية و إقليمية. فظن دميرتاش و حزبه و حزب العمال، أن مسألة القضاء على أردوغان أصبح وشيكا، خصوصا بعد تدهور علاقة تركيا مع سوريا و إيران و الغرب و لاحقا روسيا في بداية نوفمبر 2015، إثر إسقاط الدفاعات التركية طائرة روسية حربية.
قمت في ذلك الوقت مع قلة قليلة من كتاب كُرد، بكتابة مقالات عدة باللغتين الكُردية و العربية، حذرنا فيها من مغبة الوقوع في الأوهام القاتلة و التمادي في نشوة الإنتصار الإنتخابي، المتزامن مع إنكسار حكومي تركي على مستوى داخلي و إقليمي و دولي. كنا نحث حزب الشعوب الديموقراطي إلى الدخول في الحكومة مع حزب العدالة و التنمية، و إستثمار هذه الفرصة التأريخية التي تعود بالخير على عموم الشعب الكُردي. لكن زخم الوهم و نشوة الإنتصار، دفعا بدميرتاش و حزب العمال و مناصريهم، إلى الذهاب بعيدا في صخبهم المدفوع بمؤآزرة خارجية. لكن جريان الأحداث بدأ تدريجيا يغير اتجاهه في المنحى المعاكس. و بدأت الكرة الضخمة التي حاول حزب العمال إيصالها إلى القمة بحبال إيرانية و غربية، و بأكتاف دميرتاش و حزبه، لإنزالها فوق رأس أردوغان، تفلت من حبالها و تتدحرج إلى الأسفل فوق رؤوسهم، فوقعت الكارثة!
صفّرت تركيا مشاكلها مع روسيا، و أسست علاقة قوية مع إيران، و عالجت سريعا مشاكلها مع أوروبا و لاحقا أمريكا و عادت إلى منصة القوة، بينما خبا نجم دميرتاش و حزبه في السجون، و تبخرت تهديدات الرفيق جمعة، بإسقاط أردوغان، في هواء جبل قنديل الملئ بالغيوم و الضباب و الثلج. و دفع الكُرد أثمانا باهظة، ليس في تركيا وحدها، بل في إقليم كُردستان، و في سوريا، حيث خسروا مناطق شاسعة كانت تخضع لحكمهم. و استثمر أردوغان إعادة قوته، فوقف ضد استفتاء إقليم كُردستان بالتعاون مع إيران التي تدعم حزب العمال، بل و بالتعاون مع دول العالم الغربي الذي ارتمى في حضنه حزب العمال و شلل و جماعات كُردية، معظمها يسارية و قومية، ببراءة ساذجة و جهل سميك بفنون السياسة. فعل أردوغان ذلك و هو جريح و في ردة فعل غاضبة كاظمة، لطالما لم تسعفه هرولته وراء حزب العمال الذي كان مربطه في يد حكام طهران، يجرونه أكثر، كلما ركض أردوغان خلفه. و فعلا، نجحت إيران في اللعب بورقة حزب العمال في إرغام أردوغان على زيارتها و التنازل لها في بعض القضايا الإقليمية و منها ما يخص بقاء النظام السوري، مقابل الإمساك عن رخ حبل حزب العمال، وكانت النتيجة سحب قوات حزب العمال من مناطق عدة في سوريا و في إقليم كُردستان بقرار إيراني!
قيل قديما أن العاقل من اتعظ بغيره، لكن من قلة حظ الشعب الكُردي المغلوب على أمره، أن هذه الجماعات التي تدعي القومية الكُردية و التي أصابته كوباء فتاك، و تسلطتت عليه بدعم أعدائه، لا تتعظ حتى بنفسها فتُلدغ من نفس الجحر في كل مرة. و العلة الكبرى، أن وبال عدم هذا الإتعاظ يقع على غالبية الكُرد المتعطشة فعلا للسلام و الأمن و الإستقرار الذي يعبث به الكثير من دول العالم و المنطقة، بعضها عن طريق أيادي كُردية. و على رأس هذه الدول تقف أمريكا التي ضحكت على الكُرد ليس مرة أو مرتين، بل مرّات و كلها مرّت بسلام، و يا ريت ما مريت لأنها قضت على سلام الكُرد الذي طال انتظاره لقرن![1]