=KTML_Bold=حسين جمو: عن وحدة الصف وموت السياسة=KTML_End=
من الأساطير الحديثة، والضرورية، في علم السياسة صياغة أيديولوجيا تعتمد خطاب “الوحدة”. يتردد صدى هذه الكلمة في أرجاء هذه المنطقة. تستخدمها دول وشعوب وأجهزة مخابرات، كلٌ حسب الغرض الخاص به، لكن المقولة نفسها – كما هو واضح من موجز الفئات الملتفة حولها– تعمل بشكل فعال.
عربياً، تم استخدام هذه العبارة، أي “وحدة العرب” ليس فقط من قبل أحزاب أيديولوجية من هذا النوع، بل إن الاجتهاد في التحليل والقول إن أجهزة المخابرات، سواء عربية أو إسرائيلية، كانت تروج أيضاً لفكرة أن “وحدة العرب” وحدها كفيلة بتحرير فلسطين، لهي فكرة قابلة للنقاش بجدية، وذلك لإبقاء فكرة التحرير بعيدة عن متناول شريحة كبيرة تؤمن بأن السبيل الوحيد لتحقيق ذلك هو وحدة العرب. أي أن المقولة نفسها أمكن تحويلها إلى ذريعة لإبقاء الوضع السائد كما هو “دون تحرير”. بل وصل الأمر أن دولاً عربية ضمن ما يسمى “دول الطوق” طوّرت بدورها شكلاً خاصاً من خطاب الوحدة لكي تبرر ما تعتبره ضمنياً تقاعساً عن أداء واجبها، وتردد مقولات من قبيل إن العرب لا يستمعون لدعواتنا إلى الوحدة!
أما كردياً، فالأمر أكثر رومانسية. حيث أن أدلجة الوحدة سياسياً لدى المتلقين العرب له طابع هجومي لإلحاق منطقة محتلة بالكيان الأم المتحرر، وهذا غير متوفر كردياً، حتى سنوات قليلة ماضية. فكل ما لهم وما لديهم تحت الاحتلال. لا شيء خارج الاحتلال سوى حمل السلاح ضده. على هذا الأساس، ظهر خطاب كردي يؤمن سياسياً بالقضاء والقدر، وهو هنا “وحدة الكرد”. وبكلمات شعبية تجد صداها في عشرات الأغاني، فإن على الكرد ترك التفرقة والتوحد، وحينها فقط سيأتي العدو إلينا مستسلماً.
ضمن هذه الدائرة من التصورات القدرية، بنيت أيديولوجيا عريضة كانت كفيلة بدفن أي محاولة تحليلية لماضي وحاضر الكرد. فالرؤية القدرية تغفل كافة الجوانب الأخرى في مسار السياسات الكردية منذ بواكير الكفاح القومي في القرن التاسع عشر.
بقيت رومانسية الوحدة فعّالة كمحرّك عاطفي لحشد التأييد الشعبي للأفكار الحزبية. وسار الأمر على هذا النحو طيلة القرن العشرين، لكن مع التحولات العالمية العاصفة في القرن الحالي، لم يعد خطاب الوحدة يحظى بالرومانسية التي كانت لها، ولم يعد الأمر على شاكلة أن العدو سينهار تلقائياً بمجرد أن يتوحد الكرد، بل بات الأمر أكثر صراحة في الحفاظ على الواقع الحزبي كما هو، دون ذلك الشكل من الوحدة في أذهان أفراد الشعب، والذين رغم كثرة تكرارهم لها فإنهم لا يلقون بالاً – على الإطلاق – إلى من سيكون قائد هذه الوحدة المتخيّلة. هناك بالطبع إجابات حزبية محسومة عن هذا التساؤل، لكن الشريحة الأكبر غير الحزبية لا تسأل فعلاً عن القائد الذي سيحقق ذلك. الأمر أشبه بالدخول إلى الجنة.
الواقع أن إهمال خطاب الوحدة وتوحيد الشعب وما إلى ذلك من مقولات تحشيدية عمومية، قد يفتح الباب أمام العمالة دون حرج. أي أن يكون التقليل من شأن خطاب الوحدة مدخلاً لبعض الفئات السياسية العمل مع العدو المباشر. لكن، في الوقت نفسه، فإن المبالغة في مكانة خطاب الوحدة لدرجة وكأنه “ليلة القدر القومية”، أيضاً يوفّر غطاءً آمناً للعمالة باعتبار أن الفئة الداعية للوحدة بشكل ساذج، مستعدة لغفران كافة ذنوب العملاء والنظر إلى الواحد فيهم ك”يوم ولدته أمه” حيث أن اتهامات العمالة وفق تصورات هذه الفئة تعرقل الوحدة.
إنّ هذا السرد الذي يوشك أن يكون مملاً ومشوشاً في آن، قد وصل إلى الموضع الذي يمكن في القول، بجرأة، أنه في الحالتين، في حالة الوحدة وفي حالة الفرقة، خيارات الاصطفاف واحدة، لا تتغير، والدليل أنه في الحالتين يتحرك الطرف العميل بأريحية ودون حرج، فهل هناك ما يبرر المساهمة في تحويل “وحدة الصف” إلى مشروع سياسي؟
كي لا يساء فهم السؤال وكأنّ المغزى منه هو مناهضة وحدة الصف الكردي، يمكن طرح آخر: ما الذي يجعل التناحر الكردي الموجود حالة فريدة ومميزة؟ الواقع لا شيء فيه فريد أو مميّز، ولا يوجد في تاريخ العالم المنجز، العالم الذي أنتج دولاً ذات سيادة ومعترفاً بها في الأمم المتحدة، هذه الدول جميعها، وبدون استثناء، لم تتأسس على وحدة شعوبها. ولعل من غير الصائب أمنياً القول إن دراسة تاريخ نشأة الدول تعطي نتيجة مغايرة جداً للخطاب السائد. فالحروب الأهلية والحروب الحزبية المسلحة هي التي لعبت دور القابلة المشرفة على ولادة الدول، أي الانقسام ثم حسم طرف ما للانقسام بشكل حاسم، ودون هذا الحسم كانت المشكلة تزداد تفاقماً ويقع هذا الشعب تحت الاحتلال، سواء بوجود مخطط خارجي أم لا، وهذا كان حال الإمارات القبلية الكردية حتى انهيارها منتصف القرن التاسع عشر.
الأمثلة التي شهدت حسماً من قبل طرف على آخر متشابهة جميعها، أقربها جغرافياً وشعبياً يتمثل في تركيا. هل كان للجمهورية أن توجد لولا هزيمة فريد باشا أمام مصطفى كمال؟ هذا السؤال مناسبة للتذكير بخلاصة تاريخية. فبريطانيا، كمدخل لتهربها من الوعود الممنوحة للكرد، فإن ممثليها كثفوا من تذكير القادة الكرد بمعضلة “الانشقاق وعدم الاتفاق بين الكرد”. وهي مجرد ذريعة. فالقادة الكرد كانوا في الواقع أكثر توحداً – رغم الخلافات – لدى المقارنة مع القيادات التركية التي كانت في حرب داخلية طاحنة بين أجنحتها المختلفة.
إن الأمثلة والنماذج السابقة خلاصة تجارب أمم وشعوب في السياسة، وليست دعوة التفافية لتبرير الصدام الكردي، ودفع طرف ما إلى سحق خصمه، بل لتفنيد النزعة القدرية التي تربط التحرر والتحرير وإنجاز المستحيل ب”وحدة الكرد”. فوحدة الكرد يفترض، على المستوى الحزبي، وليس الشعبي، يفترض أنها ليست مشروعاً سياسياً بل واقع تلقائي متحقق. وعلامة الوحدة عدم التحول إلى عميل مجنّد في صفوف العدو المحتل. أما اعتبار أن مشروع الوحدة الكردية المطروحة بالشكل الرومانسي، أداة لإيقاف عجلة الخيانة المرتكبة تحت زعم النقاء القومي، أولئك الذين تفرجوا على احتلال عفرين وسري كانيه وكري سبي، وهم سعداء حزبياً، رغم حزنهم الانفصامي شعبياً، فإن هذا الأمر عبر التاريخ غير قابل للإنقاص، بل إن عدم إيجاد الفئة القيادية مخرجاً للمضي قدماً حتى بوجود مرتزقة وأعوان الاحتلال، هي المعضلة الكبرى في تاريخ الكرد.
رغم ذلك، لا يعني ما تقدم أن كافة جوانب “وحدة الصف” عرضة للنقد والتصويب، كمشروع سياسي، بل يمكن أن يكون مثل هذا المشروع المطروح حالياً في شمال شرقي سوريا، أداة لغاية أخرى، وهي تحريك مجرى السياسة الداخلية، والحؤول دون موت السياسة، وفي هذا مصلحة للجميع، دون استثناء، حتى للأطراف الخارجية المتمثلة بالتحالف الدولي.
نورث برس
[1]