توجد في العالم العربي جماعتان عرقيتان كبيرتان، ساهمتا في صناعة التاريخ العربي- الإسلامي في السابق، إلا أنهما خرجتا أو أُخرجتا من مسار هذا التاريخ في العصر الحالي.
والجماعتان هما الأكراد في مشرق العالم العربي والطوارق في مغربه. وتكاد كل منهما تكون صورة طبق الأصل عن الأخرى. فالأكراد والطوارق مسلمون وليسوا عرباً. وهم منتشرون في دول عدة.
ينتشر الأكراد في إيران والعراق وسوريا وتركيا. وينتشر الطوارق في الجزائر وليبيا ومالي والنيجر وبوركينا فاسو. والأكراد لعبوا دوراً مهمّاً في التاريخ عندما تبوأ صلاح الدين الأيوبي قيادة المنطقة، وقاد العرب المسلمين في معركة التحرير ضد قوات الفرنجة (الصليبيين) واستعاد القدس منهم.والطوارق لعبوا دوراً مماثلاً في مغرب العالم العربي عندما أقاموا دولة المرابطين في المغرب التي دافعت وحمت الأندلس وكانت عاصمتها مراكش.
وكان منهم يوسف بن تاشفين الذي أخّر سقوط غرناطة زمناً طويلاً، بعد أن تهاوت الدويلات الإسلامية في الأندلس الواحدة بعد الأخرى. وبعكس صلاح الدين الأيوبي الذي كان يجيد العربية، إلى جانب لغته الأم، فإن يوسف بن تاشفين كان يتحدث بالأمازيغية التماشقية التي يتحدث بها الطوارق اليوم، ولم يكن يعرف من العربية سوى ما يحفظه من آيات القرآن الكريم، لتلاوته أثناء الصلاة.ويسجل تاريخ الأكراد تآمراً دوليّاً عليهم (من بريطانيا ثم من الولايات المتحدة).
وكذلك فإن تاريخ الطوارق وهم من قبائل صنهاجة الأمازيغية، يعرف تآمراً دوليّاً، خاصة من فرنسا التي احتلت معظم منطقة الساحل وشمال إفريقيا.وثمة تماثل حتى في خيبات الأمل من بعض الحكام العرب. فالأكراد الذين عقدوا اتفاقاً مع صدام حسين بشأن حقوقهم الوطنية، خسروا كل هذه الحقوق عندما عقد صدام اتفاقاً مع شاه إيران بشأن اقتسام مياه شط العرب. ومنذ ذلك الوقت (1974) وجد الأكراد أنفسهم بين مطرقة صدام وسندان الشاه.وواجه الطوارق أيضاً في مالي الوضع ذاته تقريباً، عندما حاولوا انتزاع حقوقهم الوطنية في الستينيات من القرن الماضي. يومها كان على رأس الدولة في مالي موديبو كيتا الذي انضم إلى المعسكر الاشتراكي، مما مكنه من الحصول على دعم عبد الناصر الذي كان يتزعم هذا المعسكر في إفريقيا وفي العالم العربي. وتحت مظلة الدعم الناصري، تعرض الطوارق إلى مذابح واسعة النطاق على يد قوات الرئيس المالي كيتا، حتى إن مئات الآلاف منهم اضطروا إلى الهجرة إلى الدول المجاورة، ومن بينها الجزائر وموريتانيا (وكانتا تحت الحكم الفرنسي).حاول صدام استغلال الأكراد في صراعه مع شاه إيران محمد رضا بهلوي. وحاول الشاه استغلالهم أيضاً ضد صدام.
ولكن فشل الاثنين في ذلك دفعهما إلى التفاهم على حساب الأكراد. وحتى عندما سقط تفاهم الشاه وصدام، تحولت المناطق الكردية إلى مسرح لصراعهما. وكان الطوارق ضحايا لعبة صراع مماثلة أيضاً.فقد لعب القذافي دور صدام أثناء حربه على تشاد. وذلك عندما أغرى -بعطاءاته المالية- الطوارق للانضمام إلى قواته في الحرب الصحراوية التي يجيدونها إلى حد الاحتراف. ولكن عندما فشلت الحرب تخلّى عنهم كالليمونة المعصورة. إلا أنه أعاد توظيفهم في مواجهة الثورة الليبية عن طريق الإغراءات المالية أيضاً.ولا شك في أن دور هؤلاء المرتزقة أخّر سقوط القذافي لأسابيع عدة، ولكنه لم ينقذه، فكانت نهايته المأساوية.وبسبب هذه الخلفية، لم تعرف مناطق الأكراد في شمال العراق، ولا مناطق الطوارق في شمال مالي، أي مشروع تنموي، على رغم أن المنطقتين غنيتان بالمعادن، خاصة النفط واليورانيوم وتعود مأساة الطوارق في المغرب العربي إلى أن فرنسا التي احتلت شمال وغرب إفريقيا، قسمت المنطقة إلى دول، وحددت لها حدودها من دون أن تراعي حقوق الأمازيغ الذين وجدوا أنفسهم مقسمين وموزعين في دول عدة. وهذا ما فعلته بريطانيا للأكراد في المشرق العربي أيضاً.
ثم إن فرنسا أجرت تجاربها النووية الأولى في الصحراء الإفريقية، حيث ينتشر الطوارق. ولم تراع وجودهم الإنساني أو تعره أي اهتمام. وهو ما فعله صدام عندما قذف القرى والبلدات الكردية في شمال العراق بالغازات السامة دون أن يراعي وجودهم الإنساني، أو يوليه أي اعتبارلقد أدى سوء معاملة الأكراد في المشرق العربي، والأمازيغ -ومنهم الطوارق- في المغرب العربي إلى دفع كل منهم إلى التطرف في الإعراب عن هويته الذاتية. وذهب كل منهم إلى التمسك بالإسلام وقطع صلته بالعروبة. وأكثر ما تجلى ذلك في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي، عندما قامت أول حركة تمرد في مدينة تيزي أوزو في الجزائر، على قاعدة نحن مسلمون ولسنا عرباً. وذلك للإعراب عن معارضة التعريب على حساب الثقافة الأمازيغية.لقد أدى التجاهل العربي للخصوصيات القومية للأكراد من جهة وللأمازيغ من جهة ثانية إلى تعميق هذه الخصوصيات وإلى الذهاب بعيداً في الإعراب عنها والتمسك بها، حتى أن اللغة الأمازيغية المحكية تحولت الآن إلى لغة مكتوبة.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن مدينة تومكبتو التي أعلنها الطوارق عاصمة لهم بعد انفصالهم عن مالي إثر الانقلاب العسكري الذي أطاح الحكومة الشرعية، توجد فيها ثروة كبيرة من المخطوطات الإسلامية التي سبقت عصر النهضة في أوروبا.وتتجمع هذه الثروة في موقعين أساسيين، هما المسجد الكبير في تومكبتو الذي أعلنته منظمة اليونسكو جزءاً من التراث العالمي، ومركز أحمد بابا التنبكتي. وكان هذا التراث معرضاً للخطر من جراء زحف رمال الصحراء على المدينة، ومن جراء عدم توافر الصيانة العلمية الضرورية للمخطوطات في بيئة صحراوية شديدة الحرارة. أما الآن، فإضافة إلى ذلك تتعرض هذه الثروة الإسلامية- الإنسانية إلى الأخطار المترتبة عن الصراعات المسلحة التي تشهدها المدينة. إن قذيفة مدفعية قد تصيب المسجد (أو مركز أحمد بابا) كافية لإحراق ما فيهما من مخطوطات لا تقدر بثمن.واليوم يشهد شمال العراق ولادة كردستان. صحيح أن هذه الولادة تتم تحت مظلة الدستور الاتحادي العراقي، إلا أنها قد تشكل نواة لكيان قومي طالما تطلع الأكراد إليه. ولقد سارع الطوارق في شمال مالي أيضاً إلى القفز من الهيمنة الإفريقية الكاملة والمباشرة إلى إعلان استقلال أزواد.وكما يتطلع الأكراد إلى التواصل القومي وحتى السياسي مع المناطق الكردية في تركيا وإيران وسوريا، كذلك يتطلع الطوارق إلى التواصل القومي أيضاً مع المناطق الأمازيغية الأخرى في الجزائر وليبيا والمغرب، والنيجر، وحتى بوركينا فاسو.لقد أصبحت كردستان العراق مفتاح الاستقرار والاضطراب في المشرق العربي، فهل تصبح أزواد مفتاح الاستقرار والاضطراب في المغرب العربي؟
محمد السماك
عن الاتحاد الاماراتية.[1]