#حلب# بداية تأريخ جديد في المنطقة وشرارة حروب وتخوم تستعر بجحيم
علي سيريني
الحوار المتمدن-العدد: 8178
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
منذ سقوط الدولة العثمانية وأفولها النهائي في عام 1923، لم تقم في منطقتنا دول حقيقية تحمل معاني الدولة سوى مرحلة قصيرة من العهد الملكي الذي أمسى وريث الأمر الواقع للدولة العثمانية، فتجمَّعَ ميراث القرون السالفة في حضنه المهلهل. العهد الملكي كان في طور البناء وشد العضد والساعد بالإعتماد على الإمكانيات المهمة، من بقايا العثمانية، التي تجمعت في كل دولة ملكية في المنطقة، لكن الإنقلابات العسكرية التي بدأت في سوريا عام 1949، في مصر عام 1952 وفي العراق عام 1958، عصفت ببقية خير القرون التي سبقت والتي كانت تجمعت في آخر فترة من الدولة العثمانية، ثم استقرت بعدها في العهود الملكية الجديدة مع عرضة للتلاشي في صبح قريب. لذلك، فمنذ عام 1949، تعيش منطقة الشرق سلطة العصابات العسكرية، والأحزاب العائلية الطائفية، والميليشيات المسلحة، والمافيات التي لا تقدر على البقاء إلا بإرهاب الداخل والتشبث بحبل من الخارج الذي يملي ما يملي من تكتيكات وإستراتيجيات لا تنتج إلا المزيد من تدهور المنطقة ودفعها إلى دهاليز التقهقر. وبلغت هذه النتائج ذروتها منذ عام 2011، حيث تحولت دول المنطقة إلى أوراق متناثرة في مهب الرياح. اتصفت الدول الإقليمية الجديدة التي أعقبت العثمانية بعدة صفات مشتركة لازمتها لعقود، حتى أصبحت اليوم طبائع راسخة في شخصية السلطات الموجودة في المنطقة، سواء كانت سلطات حكومات أو معارضات أو فئات عسكرية وميليشيوية، كما وجدنا في العراق وسوريا ولبنان وليبيا والسودان. من هذه الصفات تأتي أولا غياب العقلانية. ومن ثم تأتي تباعا، غياب الإستراتيجيات، وغلبة الطبيعة العدوانية المتخاصمة على أسس من الدين والمذهب والعرق والقومية والآيديولوجية، والإعتماد على راهن القوة وموازين القوى في حاضرها اليومي، دون تفكير في المستقبل لتعقيل شهوة القوة الآنية المستحكمة بمقدرات السلطة. كانت القوى الخارجية، وخصوصا العظمى، تغذي هذه الصفات في القوى والسلطات الموجودة عندنا، وتمدها بوسائل الديمومة في المناحي التي اتخذتها لنفسها بالإستمرار بتلك الصفات التي ذكرت. وكانت السلطات تظن أن الوقائع ستبقى كما هي، لا تتغير بسهولة، وعليه لن تخضع لتغيرات جذرية وإنقلاب عاصف لموازين القوة الآنية. هكذا ظن شاه إيران، وصدام حسين وسائر الأنظمة الأخرى في منطقتنا قبلهما وبعدهما، لذلك صُعقوا بعواقبهم المفاجئة فهلكوا جثيا.
ومن هنا، فإن منطقتنا حرمت من أي مشروع حضاري نهضوي على صعيد التربية والتعليم، الصحة، البناء والسلام لجميع المكونات. وظلت الدولة آلة إحتكار للقوة والنفوذ والمال بيد من تسلط عليها، لقمع المناوئين (كناية عن المختلفين وجوديا مع ما هم عليه أصحاب السلطة). وهذا ما فعلته تركيا منذ تأسيسها ولأكثر من تسعة عقود، تهدر طاقات عظيمة وميزانيات ضخمة وقدرات عسكرية كبيرة من أجل إثبات أنه لا يوجد شئ إسمه الهوية الكُردية!
وفي العراق وسوريا وإيران ودول أخرى، كانت طاقات السلطة تضخ في أنابيب هدر كرامة الإنسان وتذليل الجماعات المختلفة التي أرادت وما تزال أن يكون لها مصدر دخل لديمومة هويتها و وجودها، كحق بسيط لها في ميراث العثمانية الذي قبضت عليه مجموعات معينة تسلطت بيد مغلولة إلى عنقها، ويد أخرى تقبض على السوط تضرب يمينا وشمالا، فحُرّم الكثيرون من لقمة البقاء ومادة الوجود فتهاوَوا في وديان الضياع والعبث: ألوف مؤلفة من اللاجئين يتلاطمون كالأمواج نحو دول الغرب يشحذون الخبز والوجود. لو لم يعامل النظام السوري شعبه بفروع المخابرات والقمع والتعذيب والخوف والإرهاب، لربما كنا اليوم نشهد وضعا آخر غير الذي نرى. ولو لم يركب صدام جنونه، ولو لم يركض النظام الإيراني وراء ظلماته، ولو تعقل النظام العراقي في عام 2003 معتبرا بسلفه و(لو)ات أخَرٍ كثيرة، لما وجد الناس أنفسهم كأغنام تساق في مراكب الحروب، في جلبات لا تستقر ومعارك لا تنتضي للفناء.
ستفضي جلبة حلب الأخيرة إلى مُقبلٍ لن يقر له قرار قريب، وسيطول الأمر في مخاضات عسيرة وإنقلاب عظيم في موازين القوى. وأول الشاعرين منذ أسابيع وشهور، بهذا المآل الخطير، هم الأتراك الذين بدأوا بهلع يستجدون حلا ومخرجا للمأزق الذي صنعته جمهوريتهم الأتاتوركية لملايين الكُرد الذين قد يتحولون إلى مسلحين، على غرار أحرار الشام الذين اقتحموا حلباً في ظلمة الليل، فأشرقت الشمس في الصباح وليس في المدينة حاكم أو حكومة. ويبدو أن إقتحام حلب دبر بليل وبعلم دول إقليمية وأخرى أبعد. وما أراه أن حلب هي أولى نتائج تغير المعادلة منذ 7 أوكتوبر 2023، حيث تورطت إسرائيل في حرب هي الأشرس منذ عام 1948، وأدى إلى تدمير شبه كامل لغزة مع مقتل لعشرات الألوف ناهيك عن ضخامة الأرقام في الجرحى والمشردين والمعاقين، وتدمير للمدينة. نعم سجلت إسرائيل إنتصارات ميدانية واضحة، لكن صورتها كدولة ديموقراطية في المنطقة تشوهت عالميا. ومن هنا، يبدو أن هناك إرادة إسرائيلية وأمريكية بإعادة ملفات كثيرة في المنطقة ومحاولة إشعال حروب طويلة وقاسية بين مكونات المنطقة وخصوصا في العراق وسوريا وإيران، وتركيا أيضا، لإعادة تشكيل الخريطة عبر حروب ومجازر رهيبة تنسي العالم ما يجري في غزة، ولتطوى قضية فلسطين طي النسيان. وبما أن حلب هي بوابة فتح جهنم على المنطقة، فإن الواقع سينكسر على الإحتمالات البادية وهي:
تقسيم سوريا إلى عدة مناطق من السلطة، تحافظ كل منطقة على بقائها بالقوة ولا تنال الإعتراف الدولي كدول مستقلة، ليبقى الصراع والحروب بينها مشتعلا، مع محاولة إدامة كل سلطة وطرف عبر ضخ الأسلحة لجميع الأطراف. وهذه المناطق ستكون ذات لهب وذي حدود مضطرمة ودموية بين ساحل نصيري، و جيبين درزيين بين لبنان وسوريا، وشمال كُردي هو اليوم واقع، وعمق سني عربي منقسم بين علمانيين-قوميين-سوريين وعرب بادية وإسلاميين، ومدن تشكل الهوية السورية التقليدية كدمشق وحلب وحماه. ستحظى مناطق الساحل بدعم وحماية روسيين، والدروز سينالون دعما غربيا (ومن ضمنه إسرائيل)، ومناطق السنة ستتوزع في إضراب وتداخل وصراع يشبه ما كانت عليه لبنان في زمن الحرب الأهلية. ويحظى الكُرد بدعم غربي ولكن لفئة معينة وربما يُراد لهم أن يدخلوا في إقتتال داخلي أيضا. وستحاول الدول الإقليمية دعم هذه الأطراف حسب مصالحها وأمنها وتكتيكاتها. لكن ضبط الأمور لن يكون في مقدور أحد، وستنتقل العدوى إلى العراق في حرب مفتوحة وشديدة. ومن هنا يجب أن ننوه أن الذين يحلمون بسقوط إيران، فهذا لا يعدو كونه أكثر من أمنية، لأن دول الغرب لن تسمح بسقوط النظام الإيراني الحالي في المدى المنظور، لذلك تبقى الجبهات الشيعية قوية وتنال الدعم من دول عالمية عدة.
بالنسبة لتركيا، يبدو أنها بعد عمر طويل أدركت أنها خسرت الكثير بسبب معاداتها وعنصريتها وحربها ضد الكُرد. لذلك فهي تريد اليوم الدخول في تفاوض وصلح معهم، ومحاولة الأخذ بزمام مآلاتهم قدر الإمكان، وتحوبلهم إلى متحالفين كما فعل السلطان سليم في تشالديران مع الأمارات الكُردية الستة عشر. وفي هذا المجال، قد تخرج منطقة شرق كُردستان الواقعة في إيران من سيطرة النظام الإيراني. وربما سنشهد جبهات متعددة ستفتح داخل إيران من عدة جهات: بلوشية، أحوازية عربية، آذرية فضلا عن كُردية التي تحظى بعمق جبلي وظهر كُردي في العراق. لذلك فإن الأتراك يحاولون إصلاح فساد أتاتورك الذي حوّلهم إلى أضحوكة شاذة لا مثيل لها في العالم، بتحويل نكتة تافهة إلى عقيدة الدولة والشعب وهي إنكار وجود أي شئ إسمه كُردي. وإذا لم تستطع تركيا الوصول إلى السلام مع الكُرد، فإن ما يصيب سوريا والعراق وإيران سيكون لتركيا حظ، وقد يكون حظا كبيرا بل الأكبر.
في خضم هذه الإحتمالات والمعادلات، ستبقى إسرائيل الدولة الوحيدة التي تحظى بالسلام والأمن الحقيقيين، وستتراجع النشاطات الفلسطينية بشكل كبير، ولربما تسلم مهام حفظ الحدود بين إسرائيل ودول الجوار لها لقوات دولية قوية ومتمكنة. وهذا ما سيحظى بالتأكيد بموافقة اللبنانيين، ولن يكون أمرا سيئا بالنسبة للسوريين. أما القوى المسيحية في لبنان، فستحظى بدعم غربي وتتنامى قوتها بشكل غير مسبوق، وستقع لبنان في جلّها في قبضتها. وسيحظى الكُرد بسلطات متفرقة ومتنافسة ولا ترضخ لبعضها البعض. قبل عامين ونيف، قدمت مقترحا إلى الزعيم مسعود بارزاني، طلب مني القادة المقربين منه عدم نشره. وفعلا لم أنشره، ولم أتحدث به مع أقرب المقربين. لو طُبق ذلك المقترح، لكان للبارزاني اليوم شأن عظيم في المنطقة، ولتغيرت الأمور بشكل جذري غير مسبوق، ولقامت تركيا بالتفاوض معه بشأن شمال كردستان (كُرد تركيا). لكن المقترح لم يأخذ طريقه نحو الوجود، بسبب إنغماس قادة الحزب في المال والتجارة واللهو، ولعل الوحيد الذي مازال يريد أن ينجز شيئا للكُرد سياسيا هو مسعود بارزاني. لكن تركيا إذا ما حصلت فعلا على الحل مع الكُرد في تركيا، فإن أولى ضحايا هذا الإتفاق سيكون الحزب الديموقراطي الكُردستاني. فهذا الحل المؤمل سيكمش قوة هذا الحزب ويهمش موقعه، وبالتالي سيتحول إلى قوة محلية أمام قوى كُردية أخرى منافسة ستتقوى وتصعد بسرعة كبيرة بدعم إقليمي ودولي. قبل سنتين ونصف، جاءت فرصة عظيمة على طبق من الذهب أمام بارزاني، ليقطع دابر الذين يريدون إبقاء الكُرد منقسمين ومفتتين. وهذا النوع من الفرص قد لا يتكرر بمرور قرون. وعلي أي حال الفرصة ذهبت سدى، ودفع الحزب الديموقراطي ثمنا باهظا جدا بسبب هذا التفويت. وأخبرتهم بإلحاح، أن هذه الفرصة تأريخية ولن تعوض. لننتظر مآلات حلب وشرارة جحيمها!
إِذا هَبَّت رِياحُكَ فَاِغتَنِمها فَعُقبى كُلُّ خافِقَةٍ سُكونُ
وَإِن دَرَّت نِياقُكَ فَاِحتَلِبها فَما تَدري الفَصيلُ لِمَن يَكونُ[1]