من الأندلس إلى القسطنطينية ومن الهنود الحمر إلى الكُرد
علي سيريني
الحوار المتمدن-العدد: 5080
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
القوى الغربية
ليست هناك قوة في التاريخ، تعمل وفق مبدأ الحقد والحسد والثأر، كما هي القوة الغربية المتمثلة اليوم بالدول الأوروبية (الغربية والشرقية) من جانب، والولايات المتحدة الأمريكية من جانب آخر. فدأبُ هذه القوة منذ فجر التاريخ هو (إقضي على عدوك ولا ترحمه واسلب كل شئ يملكه، فليس من ضير البلوغ إلى أي هدف بأي وسيلة). قبل أعوام نفخ طوني بلير بوقاً مفاده: أن المسلمين يحاربون الغرب بسبب حسدهم إزاء التفوق الغربي. إنضم إلى نفخة البوق منذ ذلك اليوم، فرقة كبيرة من السياسيين والمفكرين والعلماء والفنانين الغربيين، يرددون صدى النفخة. منهم رئيس وزراء إيطاليا الأسبق سيلفيو برلسكوني، والعالم البريطاني ريتشارد دوكينز، ورئيس وزراء أستراليا السابق طوني أبوت، ومرشح الرئاسة الأمريكية دونالد ترام، والمئات من الشخصيات الغربية. في الواقع، يعكس هؤلاء حقيقة ما يستقر في ذهن وقلب الإنسان الغربي، وعلى المسلمين أن يشكروا هذه الفرقة التي فضلت أن تكون صادقة وصريحة معهم، خلاف الأكثرية التي تنافقهم إحتقارا وإزدراءا.
لكن الحقيقة الغائبة عن أذهان المتكلمين والمستمعين في الجانبين، هي أن هذا الكلام ليس سوى التوصيف الدقيق لجوهر الغرب وصفاته وتاريخه.
حين دخل وفد الرومان مملكة قرطاج بقصد التحكيم بين قرطاج ومملكة نوميديا (التي كانت مستقرة في ليبيا اليوم وجوارها والمتحالفة مع الرومان)، اختلج الحسد والبغض في نفوس الوفد إزاء تطور وتفوق قرطاج، فعاد الوفد ينقل عدوى حسده إلى روما التي قررت أن تقضي على قرطاج. فكان أن قاد سيكيبيوس أفريقانوس، الحملة التي قضت على نصف مليون إنسان من شعب قرطاج، ثم دمّرت وأحرقت قرطاج من جذورها!
لو دققنا النظر في تأريخ الغرب منذ تلك الحملة وما قبلها، نجد أن دأب الغرب هو القضاء على الشعوب الأخرى. مثلا قضى الرومان على شعب بليار بقيادة قائدها ميتيليوس بالياريكوس. وقضوا على اليهود، وعلى الغاليقيين (مليون إنسان بإعتراف الرومان أنفسهم) و...الخ. وفي الحروب الصليبية، ما إن دخل الصليبييون مملكة إلا ودمروها، وأبادوا سكانها شر إبادة. فالأندلس تبقى الدليل الأكبر على وحشية وهمجية الغرب على مر العصور. وإذا كان بعض البهاليل يظنون، أن الحروب الغربية اليوم سببها التفوق من الناحية العلمية والأخلاقية، فهو واهم حد الغباء المطلق. فلو كان الغرب مهوساً باتباع مذهب العلم والتسامح، لكان الأحرى أن يخضع طواعية للخلافة الإسلامية في الأندلس، التي كانت متفوقة علميا وأخلاقيا على الغرب بقرون. ما إن قضى الغربييون على حضارة الإسلام في الأندلس، حتى بدأوا مسلسلهم المرعب والإرهابي في القضاء على سكان الأرض. فكان من بركات حملة كريستوفر كولمبوس، بُعيد سقوط غرناطة في عام 1492، أن بدأت حملة القضاء على الملايين من هنود الحمر من سكان أمريكا، فتوالى الإسبان والبرتغال والإنجليز والفرنجة على تكملة هذه الحملة بدقة وتخطيط ومثابرة، أدت إلى فناء الملايين من السكان الأصليين، كما يروي بعض هذه الحقائق الكاردينال القشتالي برتلومي دى لاز كازاس. ثم جاء الدور على 200 مليون أفريقي أقتيدوا مكبلين كعبيد إلى أمريكا وأوروبا. أما كيف قتلوا، وكيف فُرّق بين أب وولده وأخ وأخيه، فتلك قصة تستهلك أنهارا من الدموع. ثم توالت حملات الغرب على الملايين من سكان أستراليا، ومن ثم شعوب آسيا. ودليل واحد ينبيك عن مدى انحطاط الغرب وشره وإرهابه. فالبرتغالييون احتلوا تيمور الشرقية لمدة ما يقارب أربعة قرون، وانسحبت من تيمور الشرقية في عام 1975، إبان إنقلاب اليساريين على النظام الملكي الكاثوليكي. ولكن ماذا ترك البرتغالييون للتيموريين؟ تركوا لهم نسبة الأمية بنسبة 99.5% وبلدا خالياً من أي مستشفى أو مدرسة أو قنطرة أو طريق مبلطة. وهذا ما فعلته القوى الغربية في كل البلدان التي احتلوها. أما الإبادات الجماعية والمجازر وحفلات الإغتصاب، فهي تاريخ طويل من أمريكا إلى الهند مرورا بالجزائر وليبيا ومصر والعراق وسوريا وكُردستان (حيث جرّب الإنجليز لأول مرّة الأسلحة الكيمياوية على الكُرد في العراق، ومن ثم في تركيا بالتعاون مع الفرنسيين).
الأندلس والقسطنطينية
إذا كان تصميم الغرب وعزيمته يشهدان له في تحقيق أهدافه حتى ولو بعد قرون، كما في حروب الإسترداد في الأندلس، حيث بدأها محارب صليبي اسمه بيلايوس، وأثمرت جهوده بعد ثمانية قرون، فإن الغرب لم ولن ينسى القسطنطينية. وكل همّ الغرب اليوم محصور في تدمير تركيا، واسترجاع أجزاء كبيرة منه إلى حضن الغرب. والخطة المرسومة اليوم هي فعلا إلحاق المناطق الكُردية فيها بدولة الأرمن والروس، وتحويل سكانها إلى مسيحيين طوعا أو كرها، أو تشريدهم وإبادتهم وفق المثال الذي يطبق على الشعب السوري اليوم. أما إسطمبول والمناطق الأخرى من تركيا، فتكون من نصيب القوى الغربية الكاثوليكية والبروتستانتية المتحالفة اليوم مع القيصرية الأرثذوكسية، بقيادة روسيا، وتدعمها دولة اليهود أيما دعم. أما بهاليل العرب والمسلمين فمازالوا يظنون أن السياسات الحالية إنما فقط أحداث وتقلبات في أطر الديموقراطية والحداثة والعولمة، بعيدا عن تأثيرات التأريخ والدين والتراث. الأفضل أن ندعهم يتمتعوا بظنونهم، حتى لا يفيقوا على حقيقة الواقع الإرهابي والمرعب للوجود الغربي في منطقتنا. فالأمر سيان، سواء أيقظناهم أم لا، فمصيرهم ليس بأفضل من مصير السوريين الذين يبادون اليوم أمام أنظارنا!
ما بين هنود الحمر والكُرد
يحاول بعض الناس، خصوصا العرب وحتى غيرهم، فهم واقع الكُرد كما يظهر لهم في الصورة المشاعة والطاغية عنهم. فالجميع، بما فيهم الكُرد أنفسهم، يظنون أن الكُرد أمة واحدة وشعب واحد منسجم، لا شائبة في وحدته وتناسقه وانسجامه ولونه الواحد. لكن الواقع هو على غير هذا الفهم والظن المغشوشين.
فالكُرد كمصطلح في واقع الحال ليس سوى إسمٍ يجمع في طياته مكوناً خليطاً متنافراً متخاصماً، لا يجمعه سوى أمرين إثنين: أولهما هو الحيز الجغرافي حيث ينتشرون في ربوع الهضاب والجبال الكثيرة والقاسية. وثانيهما هو دين الإسلام وتحديدا المذهب الشافعي. أما العامل الأول، فلم يشكل عبر التاريخ أي علامة فارقة أو عاملا شبه مهم نحو توحيد مجاميع الكُرد وفرقهم ومللهم نحو وحدة حضارية. أما العامل الثاني، الذي يشكل الأرضية الوحيدة لتوحيد أكثرية هذه المجاميع التي تنتمي تاريخياً إلى المذهب الشافعي، فهو الذي أمد الكُرد بعلماء كبار، قاموا بتدوين العلوم والمعارف والآداب باللهجات الكُردية في ظل الثقافة الإسلامية العربية. أي لولا الإسلام، لكان الحديث اليوم عن شعب يسمى بالكُرد من أساطير التاريخ. لكن هذا العامل تعرض إلى دمار هائل منذ أن تأسست مواخير القومية، بدءا بجمعية الإتحاد والترقي التي ساهم بعض الكُرد (مثلا عبدالله جودت) في تأسيسها مع الترك والعرب، وإنتهاءا بمواخير القومية الكُردية، التي لعق روادها بقايا السؤر من مواخير طورانية، وأخرى عربية ظهرت بمسميات شتى منها بعثية وقومية سورية وعروبية و...الخ. هذه الجهود المشتركة التي كانت تجد دوما حوافز وإندفاعات خارجية، تعطيها الزخم والإمداد، أثمرت في ما أثمرت إنتاج أحزاب وميليشيات عديدة ومتخاصمة ومتخلفة وحقيرة، لا هم لها سوى محاربة الإسلام والتراث، والإسترزاق بأي وسيلة، والتحول إلى مطايا رخيصة لقوى خارجية. فماذا كانت النتيجة؟
النتيجة حصدها الكُرد في مرارات مستمرة، وكوارث متتابعة، حولت حياتهم فعلا إلى جحيم منذ سقوط الدولة العثمانية. وما جرى بين هذه الميليشيات والأحزاب، من حروب ودمار، يفوق أحيانا ما فعلته أنظمة المواخير القومية التركية والعربية والفارسية على طول القرن الماضي. ومنذ 25 عاما، تحكم أحزاب وميليشيات، تسمى بكُردية، منطقة إقليم كُردستان العراق، حيث لم تقدم للشعب الكُردي سوى العذاب والقهر والفقر والتشريد، إذْ بات الناجون الباقون في العذاب أمام خيارين: إما الإستمرار في جحيم هذه الأحزاب والميليشيات، أو الخوض في مغامرة بحر إيجة التركي، بأمل الوصول إلى جنة عدن الأوروبية!
اليوم، ومنذ عام 2011، انتقلت هذه التجربة إلى المناطق التي يسكنها الكُرد في شمال سوريا. وهذه التجربة صنعها خصيصا أعداء الكُرد التاريخيين من النظام النصيري والنظام الصفوي في إيران، حيث أوكلوا مهمة الحفاظ على نظام بشار الدموي، إلى ميليشيات، ظاهرها صورة كُردية وباطنها خراب ودمار للهوية والتاريخ الكُرديين، الذين يستمدان جوهرهما وأرضيتهما من ذينك العاملين الذين ذكرتهما آنفا. أما إلى ماذا تفضي هذه الجلبة المجبولة من تراث المواخير القومية من جانب، ومن تدخلات وإملاءات غربية من جانب آخر، أضف إليها آلاعيب وخطط النظامين الصفوي والنصيري، فإن الدارس للتاريخ والمتعن في قضايا وشؤون المنطقة، لا يفوته أبدا عدة أمور:
أولا: أن المجاميع الكُردية المشتتة والمتخاصمة اليوم، والمهيأة منذ حوالي قرن لتكون سلاحاً ضد هوية وتراث الكُرد المستمدين من الإسلام، لا شك أنها تعيش مرحلة الإفتخار بكونها المطايا المفضلة للقوى الغربية، التي تريد تحقيق رغبات عديدة لها في منطقتنا.
ثانيا: هذه القوى الكُردية المشتتة، موجهة اليوم نحو الهدف الخاطئ لصالح قوى معادية للكُرد، ولصالح قوى أخرى خارجية، لا تقل عداءا من القوى الإقليمية مثل سوريا وإيران والعراق الشيعي. المواجهة، المطلوب تفاقمها وتطورها في الساحة، هي مواجهة الكُرد مع الترك الذين كانا يشكلان معا قوة الدولة العثمانية التي صدّت أوروبا لقرون طويلة.
ثالثا: وحيث استسلمت هذه القوى الكُردية طواعية لإملاءات الغرب، بل وتستجدي من الغرب أن يمتطيها، وتقدم ظهورها على أنها الأكثر راحة وقوائمها الأربعة الأكثر سرعة، فهي قوى جاهلة ومتخلفة يغيب عنها وعي تاريخي بشكل تام، ولا تعرف عدوها من صديقها. وهي بذلك تكرر النفسية الساذجة للهنود الحمر، الذين كانوا يقدمون أفضل ما لديهم للجنود الأوروبيين، إعجابا ومحبة منهم نحو العرق الأبيض المتفوق، لكن ذلك لم يمنع أسيادهم الجدد من إفنائهم عن بكرة أبيهم!
رابعا: ولذلك، فإن الظروف اليوم باتت مهيأة وقريبة لتنفيذ الخطة المرجوة منذ زمن بعيد، وهي استرداد قسطنطينية، عاصمة الإمبراطورية البيزنطية، من تركيا، ومن ثم هدم هذه الدولة نهائياً، والتي شكلت قلب الإسلام لقرون عديدة وهي اليوم أعيدت إلى سكتها التاريخية بقيادة أردوغان. والهدف بعد ذلك هو تسليم مناطق الكُرد إلى الروس والأرمن، ومناطق الأتراك إلى أوروبا، وبالتالي إبادة أعداد كبيرة منهما لتحضير نفوس الناس لقبول الهوية الغربية التي تشكلت من مصدرين إثنين: الأول هو التراث المسيحي اليهودي كبعد ثقافي، وثانيا الكلاسيكيات الرومانية الغابرة كبعد قانوني وسياسي. ولكن ماذا تجني الأحزاب والميليشيات التي تدعي أنها كُردية؟ ستجني ما هو نصيب المطية، إما موت في حرب، أو كيس تبن في الزريبة![1]