ذكرى إغتيال بيار جميّل بين لبنان وكُردستان
علي سيريني
الحوار المتمدن-العدد: 2413
المحور: مواضيع وابحاث سياسية

في #21-09-2006# فتح مجهولون النار على بيار جميل، وزير الصناعة، في منطقة الجديدة ببيروت. بيار فارق الحياة في أعقاب الجريمة التي إستهدفته.
في ذكراه الأولى كتبت هذا المقال، لكنني أمسكت عن النشر لكي انتظر المزيد من الوقت، علّ جديداً في الأمر يبين الحقيقة. لكن الغموض ظل يلف حيثيات الجريمة، في وقت تسربت أخبار غير مؤكدة، تومئ إلى وجود تعقيدات متداخلة في إغتيال المغدور، تبدأ من إقليم كُردستان.
منذ مدة ليست بقصيرة تعصف بلبنان سلسلة إغتيالات وتفجيرات مُخرِّبة، تجمعها شكوك متزايدة نحو دور سوريا في ذلك.
على المستوى السياسي والشعبي العام، قد يكون هناك إجماع بين تكوينات معينة، سواء على صعيد لبنان أو على صعيد نطاق أوسع، حول تورط سوريا في الجرائم التي تحدث في لبنان.
ولكن الأمر لا يعدو كونه أكثر من تحليل وتخمين، في أجواء غامضة طوراً ومضطربة في كل الأطوار. لبنان هو الموقع الأكثر سخونة وإضطرابا على المستوى السياسي، الذي جذب الكثير من القوى الاقليمية والدولية إلى لعب أدوار معينة في الشأن اللبناني، بعيد إستقلاله في القرن الماضي وإلى يومنا الحاضر.
نعم القرائن كثيرة للإستدلال على الجزم بصناعة هذه الإغتيالات من قبل السلطة السورية، ولكن ما لم يحدث حتى الآن هو ظهور دليل يقطع الشك باليقين، لتحويل القراءة والتحليل والتخمين السياسي، إلى إثبات قانوني وقضائي ينهي الجدل الشعبي المؤثر في الفضاء السياسي اللبناني، المنكسر على جبهتين متضادتين تتخللها خطوط وإنقسامات، هويتها التشرذم والتبعية على الدوام.
كنت في كُردستان، أثناء زيارة السيد أمين جميّل، الذي حلّ ضيفاً في القصر الرئاسي للسيد مسعود بارزاني رئيس إقليم كُردستان. الزيارة المفاجئة أدهشتني في إبتداء بسيط: ما علاقة جميّل ببارزاني؟
سألت بعض مسئولي الحزب الديموقراطي الكُردستاني، وبعض رجال الأعمال حول أسباب الزيارة. بدا الأمر غامضاً وغير ذات بيان بالنسبة إليهم، والحال لم يكن المسئول بأعلم من السائل.
كنت أظن أن للسيد أمين جميّل شركة تعهدات، أو تجارة تكسب الأرباح في كُردستان. أكد المعنييون بالشأن العام في كُردستان أن أميناً لا يملك صفقة من هذا القبيل وأن الزيارة مجرّد علاقة تاريخية بين عائلتي السيد أمين جميّل، والسيد مسعود بارزاني، وهذا ما أكدته صحافة الحزب الديموقراطي الكُردستاني.
قضيتُ في لبنان حوالي خمسة أعوام، تابعتُ فيها الشأن اللبناني العام. وبما أنني ملمٌ بتكوينات لبنان وطوائفه وأحزابه، فإن إندهاشي كان في محله، حول تلك الزيارة الخاطفة.
فعلاقة لبنان بكُردستان، تكاد تكون كعلاقة أي دولة أفريقية، بدولة في أقصى شرق آسيا. الزيارة الأكثر شهرة لسياسي لبناني إلى كُردستان، هي تلك التي قام بها الزعيم الراحل كمال جنبلاط (جان بولاد) عام 1974. وبحكم أصول جنبلاط الكُردية، بدت الزيارة ودية، فضلاً أنها كانت من أجل الوساطة بين الزعيم الراحل ملا مصطفى بارزاني والحكومة العراقية. ما عدا ذلك لم تسجل أي علاقة رسمية علنية بين الجانبين، بإستثناء زيارة السيد أمين جميّل لكُردستان قبل أشهر.
لنعد إلى الحديث عن إغتيالات لبنان. قلت إن القرائن التاريخية تؤشر في الإحساس الشعبي العام إلى دور سوريا، في الإغتيالات التي طالت السياسيين والإعلاميين في لبنان. فالجيش السوري أحكم قبضته في لبنان لسنين طويلة، جرى في خلالها إنتهاكات وجرائم، أنبتت في نفوس اللبنانيين البغض والأحقاد تجاه السوريين.
ولكن سوريا ليست الدولة الوحيدة التي لعبت دورا في لبنان. قد يكون دورها الأكبر بحكم الجوار الجغرافي، إلا أن دولاً أخرى معروفة لعبت أدواراً معينة في هذا المضمار، ويُعد دور إسرائيل كبيراً في السياق نفسه.
ليس من طاقة هذا المقال كشف المجرم الحقيقي في الأحداث اللبنانية، ولا نحن ننيط أنفسنا بهكذا مهمة. ولكن ما نود الإشارة إليه في هذا الخضم هو، بالرغم من إجماعٍ شبه عام في الشك بسوريا، رغم عدم توفر أدلة قانونية صارمة حتى الآن، بدليل إستمرارية البحث القضائي المعلّق أحياناً بسبب التوترات السياسية اللبنانية، إلا أن وضع الإغتيالات جميعا في خانة واحدة، قد يفقد قوام ذلك الإجماع المضمون الصحي، فضلاً عن الإفتقار الموضوعي بسبب نقص قانوني، في توحيد الأدلة والشهود والإثباتات في الإغتيالات كلها، بمرتبة الجزم البائن بينونة لا تقبل الجدال.
في موقع (الحقيقة) الألكتروني، نُشر خبر تهريب ثمانمائة مليون دولار من كُردستان إلى لبنان، بغرض تبيضها ووضعها في الحسابات السرية للسيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كُردستان. الخبر أعيد نشره في موقع (كوردستان بوست) باللغة الكُردية، تبعه جدال واسع إعلامياً، لكن لم يرِد أي بيان من قبل رئاسة الإقليم، أو الحزب الديموقراطي الكُردستاني حول نفي الخبر أو إثباته!
وكما أنبئت أوساط معينة للموقع المُصدِّر للخبر، فإن مهمة السيد أمين جميّل كانت ترتيب الإمكانيات والتجهيزات لإيصال الأموال تلك إلى لبنان بأمان، لا سيما وأن إبنه الراحل (بيار) كان وزيراً للصناعة.
الأموال نقلت على متن طائرة مدنية من أربيل إلى عمّان، وإلى مطار بيروت، بُعيد زيارة السيد جميّل إلى كُردستان بفترة وجيزة.
الأموال عبرت مطار الملكة علياء بعمّان، إلا أن جهازاً خاصاً في مطار بيروت الدولي، قبض على الأموال المهرّبة. يُقال أن حزب الله كان على علم بالواقعة، ويقال أن للحزب صلة بذلك الجهاز الأمني، الذي ضبط تلك الأموال في المطار.
وبما أن تلك الصفقة كانت سرية، شارك فيها أكثر من مجموعة وجهاز، فإن فرصة وصول الأموال بسلام، إلى يد بيار جميّل باتت مشلولة.
الصفقة إذن وقعت في يد جماعات الأنفاق، أو ما يصطلح عليها بالمافيا. وبما أن الإضطراب وقع بين تلك الأجهزة، فقد أمسى مقتل بيار ملّحاً وضرورياً لإخفاء الحقائق والأسرار، وكذلك من أجل الفوز بالصفقة كلها. وهكذا قامت أجهزة مشاركة في عملية التهريب، بإغتيال وزير الصناعة بغرض تحقيق تلك النتائج.
ومما يزيد إحتمال التوكيد في الأمر، التغيير المفاجئ لموقف السيد أمين جميّل من حزب الله، بعد القبض على الأموال قبيل إغتيال إبنه بيار.
فجميّل أبدى مرونة في تصريحاته، تجاه حزب الله في الشأن السياسي المحتدم في لبنان، منذ إغتيال رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري. وهناك إحتمالات تفي بأن حزب الله إستولى على حصة الأسد، من تلك الأموال المهرّبة من كُردستان.
والحال لم تثبت هذه الجهات المذكورة صحة الخبر أو نفيه، والذي أصبح مادة التحليل والكتابة، تماما كما هو الأمر بالنسبة لإغتيال الوزير اللبناني. وكلتا المسألتان مازالتا في عالم الغموض والأسرار. ولكن القرائن وليست الأدلة، تفرز الحالين إلى طريقتين متفقتين عليهما، في الإجماع الكُردي واللبناني:
في الأولى أي تهريب الأموال، فقد حدث في خلال 16 عاماً الماضية تهريب كبير للأموال في كُردستان من قبل قادة أكراد، ضبط بعضها في سوريا وتركيا. هذا في الإجماع الكُردي.
وفي الثانية أي إغتيال بيار جميّل، فإن الإغتيالات الغامضة في لبنان، تضع إغتيال بيار رقماً في حسابها، رهناً بالغموض والبحث عن المجرم الحقيقي، الذي لم تزل سوريا المرشحة الأقوى بين متهمين. وهذا هو الإجماع اللبناني.
لكن العلاقة تظل قائمة بين الحالتين في السبيل نفسه: الغموض والبحث عن الحقيقة، رغم إختلاف السياقات في كلتا المسألتين.[1]