التغريبة العفرينية
فريحة أحمد
بتاريخ #20-01-2018#
في شتاءٍ قروي، مدافئ حطب وهدوء صارم، ساعات قليلة تفصل بين السلام والحرب، حين هزَّت الغارات والقذائف نوافذ البيت وأيقظت الخوف بداخلنا، كانت البداية الأولى للنزوح من الوطن الذي احتوانا دائماً وأبداً، الوطن الذي كان أُمَّاً وأباً ومنزلاً وملجأً آمناً لنا ولكل من هُجِّر من وطنهِ ومنزلهِ، الوطن الذي كانَ روحاً لكل من احتاجه، الوطن الذي هو جنة الله على الأرض.
إنها عفرين الزيتون والسلام، إنها عروس كردستان بجبالها الشماء وسهولها الخضراء وينابيعها التي تتدفق بالخير والعطاء، إنها رمز التعايش المشترك ومثال الحياة الحرة؛ لذلك طمع بها الأعداء وتآمرَ عليها الدول وهاجموها من كل الجهات بأحدث الأسلحة والطائرات والتقنيات، ضاربينَ الإنسانية والأمان والاستقرار بعرض الحائط، لم يسلم منهم لا البشر ولا الحجر، استهدفوا صغارها قبل كبارها، وتعرَّض الشعب للإبادة، وشرَّدوا وهجَّروا الآلاف من العائلات. كانت حرباً غير قانونية ولا شرعية، وليس لها أي سبب أو مبرر.
لكن أهل عفرين دافعوا عنها ببسالة وقدَّمُوا الشهداء من أجل وطنهم في دفاعهم المشروع عن أرضهم وكرامتهم، ودامت مقاومة العصر التاريخية مدة 58 يوم، لكن الهجوم الوحشي من قبل الدولة التركية والمرتزقة وارتكاب المجازر هجرَ أهالي عفرين من أراضيهم قسراً ليقصدوا الأماكن الآمنة في قوافل متتابعة سيراً على الأقدام تاركينَ قلوبهم في عفرين مع شهدائهم وجثث أبنائهم المتناثرة في الطرقات، وبقيت روحهم معلقة في سماء عفرين تشاهد وتعيش مع عفرين أفظع اللحظات، وبقيت العيون تنظر للخلف لا تصدق ما يجري في عفرين، والخطوات كانت تعود للوراء بلا شعور لا تريد الابتعاد عن عفرين، ومنهم من لم يحتمل الابتعاد فسلم روحه لمالكها واختارَ أن يُدفن بجانب حبيبته عفرين.
خرج أهل عفرين منها ولكنهم لم يتركوا عفرين، كانت لحظاتٌ مأساوية لكل من عاشها ولكل من كان يتابعها، فمات من نجا، ونجا من مات، ضاع الكثير وتشتتوا بين المناطق المجاورة لعفرين كي لا يبتعدوا عنها كثيراً، وها نحن هنا في مناطق الشهباء منذ ستة أعوام نذوق الأمرَّين كل لحظة؛ أولها غصة احتلال عفرين، وثانيها كيف نعيش دون عفرين لكننا نستمر من أجل عفرين والرجوع إليها.
عانى الشعب كثيراً في هذه المناطق المنكوبة سابقاً حيث إنها لم تكن مؤهلة للسكن وكانت مليئة بالألغام ومخلفات الحرب، وكانت إمكانية الحياة فيها شبه معدومة، لكن بالإرادة والإصرار أعطى المهجرون هذه المناطق روحاً جميلة بوجودهم وسكنوا فيها وأصلحوا تلك المنازل الشبه مهدَّمة وسكنوا في المخيمات وأحيوا أراضيها بزراعة الأشجار رغم قلة الامكانيات وعدم توفر مقومات الحياة وعدم امتلاك المال وتدهور الوضع الصحي للكثيرين وتدهور نفسية الإنسان المهجر قسراً لكنهم استطاعوا إنشاء الحياة وإعطاء المعنى لها.
هذه هي روح العفرينيين، وهنا اليوم في الشهباء ينشأ جيل جديد، صحيح أنه بعيد جغرافياً عن أرضه لكنهُ يعشقها وتعيش معه بداخله ويخرج وينادي كل يوم (عفرين عفرين عفرين….) وهو يعيش هنا في ظروف صعبة كي يعود لوطنه، وبقاء الشعب هنا وتمسكه بقضيتهِ وإصراره على الرجوع لوطنهِ رغم كل الصعوبات المعيشية لا يُرضي الأعداء؛ لذلك يريدون تهجير المهجَّر بالحصار المستمر ومنع إدخال المحروقات والمواد الأساسية للعيش والتهديد والقصف العشوائي اليومي. إنها سياسة تجريد وإبادة وتغيير ديمغرافي للابتعاد عن الثقافة واللغة سواء في عفرين أو في الشهباء، والشعب الباقي في عفرين منذ ست سنوات هو معرض للقتل والخطف وسرقة الممتلكات والاعتداء عليه بشتى الوسائل، ويتم التمييز بينهم وبين المستوطنين.
إن سرقة الآثار واقتلاع أشجار الزيتون من جذورها ونقلها لتركيا هي وحدها جريمة بحق الأرض والتاريخ يجب أن يُحاسب عليها الفاعلين.
ومن مأساتنا هذه وتغريبتنا، نطالب المجتمع الدولي بالخروج عن صمته حيال ما يجري في عفرين والشهباء بحق الإنسانية والطبيعة ومحاسبة المجرمين، وإيقاف الدولة التركية ومنعها من القصف والاحتلال والانسحاب من أراضينا.[1]