ماهيّة القضيّة الكُردية في مشروع الأمّة الديمقراطيّة
وليد جولي
“القضيّة الكُردية وحل الأمة الديمقراطية”، الجملة التي أثارت الكثير من الجدل بين النُّخب السياسية والثقافية، وخلقت الكثير من التباينات الفكرية، ما أدى ذلك إلى ظهور حالة من سوء فهم لجملة من المصطلحات المطروحة، سيّما مصطلح “الأمة الديمقراطية”، الذي يُعتبر ركيزة لمجمل ما تناوله السيد عبد الله أوجلان في مرافعاته، والتي أغلبها تصب في خدمة القضية الكردية العالقة.
إن الجملة التي بدأنا فيها مقالنا، جاءت في العنوان الرئيسي لمرافعة السيد أوجلان، المجلد الخامس، والمُقَدَّمَة إلى رئاسة محكمة حقوق الإنسان الأوروبية في ستراسبورغ (فرنسا – ديسمبر 2010)، حيث تُعتبر خلاصة لعدة مرافعات، كان قد دوّنها في سجنه الانفرادي.
كانت بداية المرافعة على شكل “وثيقة الحل الديمقراطي للقضية الكردية”، والتي قدَّمها لمحكمة إيمرالي في العام الأول من أسره (1999)، تحت عنوان “ثنائية الحل واللاحل في القضية الكردية”، إلى جانب مرافعة أخرى كان قد قدَّمها لمحكمة إيمرالي في السياق نفسه، تحت عنوان “مرافعة pkk إلى دعوى أورفا”، ولكنها لم تُدرج في محاكمة أورفا؛ لصعوبة الظروف في ذلك الوقت. ولإكمال مرافعة إيمرالي، التي لم يستطع طرحها بشكل موسّع حينها، إلى جانب إعطاء الجواب لسياق محكمة حقوق الإنسان الأوروبية، قام السيد أوجلان بتأليف كتاب “من دولة الكهنة السومريين نحو الحضارة الديمقراطية”، ودوّن كراس “أورفا، التاريخ والقدسية واللعنة”، كمرفق متمم من هذا الكتاب. نُشر الكتابان عام 2001، في حين نُشر كراس “مرافعة الإنسان الحر” الذي قدمه لمحكمة أثينا في عام 2003، ومن ثم كتاب “دفاعاً عن شعب” في العام 2004، على شكل مرافعة مقدمة لمحكمة حقوق الإنسان الأوروبية، ليكملها بمرافعاته الضخمة التي قدمها للمحكمة ذاتها، تحت عنوان “مانيفستو الحضارة الديمقراطية – العصرانية الديمقراطية وقضايا تجاوز الحداثة الرأسمالية”، والتي تتألف من خمسة مجلدات، آخرها كانت ” القضية الكردية وحل الأمة الديمقراطية”.
للوصول إلى نتيجة مرضية للجدل الموجود حول ماهيّة “الأمة الديمقراطية”، وماهيّة “القضية الكردية” في مشروع الأمة الديمقراطية، لا بد من تحديد الأولويات، وإعطاء تعاريف مختصرة ووافية لبعض المصطلحات المطروحة، فمن خلال التجربة العملية، ظهرت الكثير من علامات الاستفهام حول هذين المصطلحين (القضية الكردية، والأمة الديمقراطية)، وهل هما مصطلحان متلازمان أم أن أحدهما ينفي الآخر؟ وبالطبع، هذا يعتبر لبّ الإشكاليّة التي نحن بصددها.
سوف نحاول بإيجاز إعطاء تعاريف موجزة وفق رؤية السيد أوجلان لبعض المصطلحات المتعلقة بهذا الشأن، وبيان الهدف من الوسيلة بين كلا المصطلحين.
“القضية” و”القضية الكردية”
بالإمكان تعريف القضية بإيجاز، على أنها “حالة تضاد مع المألوف الكوني والاجتماعي”. فعلى سبيل المثال لا الحصر، الاحتباس الحراري المسبب للجفاف والحرارة أو البرودة الزائدة، فضلاً عن التضخّم السكاني، جميعها تُعتبر من أهم القضايا التي تواجه العالم.
أما القضيّة الاجتماعيّة بمفهومها العام، فترتكز على الممارسات القسرية التي يلجأ إليها القوي تجاه المستضعف، كحالات الإقصاء والقمع والاستغلال المعاش ضمن الجماعات البشرية، ولا شك أن المجتمعات البشرية، خاصة عبر التاريخ، باتت تعاني بشكل كبير من حجم القضايا العالقة، سيّما القضايا الطبقيّة والتمييز الجنسي.
ربما شكّلت القضايا الاجتماعية دافعاً كبيراً لرفع مستوى وعي الإنسان بحد ذاته ومراحل التطور التاريخي لدى المجتمعات البشرية لم تكن إلا دلالة واضحة على ذلك، وهذا يأتي من تفكير وبحث الإنسان المستمر عن الحقيقة الكونيّة والاجتماعية؛ فظهور النظام الهرمي والطبقي في نهاية الثورة الزراعية (التدجين) جاء تلبيةً لحاجة المجتمعات بالتوسع في التدجين والزراعة، نظراً للنمو السكاني المتزايد وضيق المساحات الزراعية، من خلال انشاء الأقنية والروابي، لتظهر فيما بعد قضية المرأة، والقضايا الطبقية الأخرى المتمحورة حول سطو الكهنة والأسياد على المفاصل الحياتية للمجتمعات.
وهكذا حتى يومنا الراهن، الذي باتت فيه الحداثة الرأسمالية متعششة في أدق التفاصيل الحياتية للمجتمعات. إن جميع المراحل التاريخية للمجتمعات البشرية جاءت كحلول لقضايا اجتماعية معاشة ومن ثم دخلت في مراحل متأزمة، كل حسب موقعه الزمني.
برزت القضية الكردية نتيجة سياقات التطور التاريخي، والتي تمحورت مجملها حول ثالوث (المدينة – الطبقة – الدولة)، وكنتيجة للتعارض الثقافي الكردي مع ثقافة الاستغلال المنبثقة من جوف المدينة والدولة، اللتان شكلتا – فيما بعد- ثنائي معيق لمسارات الديمقراطية والمساواة طيلة مراحل التاريخ.
لذا، فإن القضية الكردية تعنى بمكانة واسعة بقضايا الحرية والمساواة والديمقراطية، ولأن وطأة الحداثة الرأسمالية والدولة القومية حالت دون تحقيق الأهداف المنشودة، فإن القضية الكردية أيضاً باتت في مرمى مخططات ومشاريع النظام العالمي الرأسمالي في مرحلة انشائه للدولة القومية، ليكون الكرد وقضيتهم من إحدى أهم المظالم الاجتماعية في التاريخ المعاصر وجزء لا يتجزأ من القضايا الاجتماعية الأخرى.
الأمة، القومية، الوطن… اصطلاحاً
تُعتبر المصطلحات الثلاث من أكثر المصطلحات تداولاً بين المجتمعات، وربما يقدّسها البعض، ولكنها أيضاً لم تظهر بمعزل عن تراكمات القضايا الاجتماعية ومفرزاتها، حيث لم تتشكل الأمم إلا من خلال مرحلة من مراحل التطور الاجتماعي، والأمر نفسه يسري على القومية والوطن أيضاً، فنجد أن الأمة عُرِّفت على أنها “مجموعة من المشتركات الاجتماعية، كاللغة، والثقافة، والدين، والسوق والتاريخ والحدود السياسية”، ولكن بالمحصلة إن لم تضمن روح “الذهنية المشتركة (ذهنية الحرية والمساواة)؛ فإن جميعها تصب في مصلحة الدولة، فالأمة معنيّة أكثر بالوعي والعقيدة والتعاضد في سياق الإدارة المشتركة، والاقتدار الديمقراطي الحر.
أما الوطن فيُعنى أكثر بالجغرافيا التي يتشكل عليها الأمة بركائزها المتكاملة، حيث لاقى مصطلح الوطن أهميّة أكثر في مرحلة التحول القومي، ولم يكن للوطن أية مكانة في ظل الدول والممالك والإمارات في مرحلة ما قبل الوعي القومي والدولة القومية بقدر مكانة الأمة، فعلى سبيل المثال عُرف الإسلام بالأمة رغم تمتعها بمقدرات الدولة، ولم يُذكر مصطلح الوطن في أية تسمية للممالك والسلطنات والإمارات والدول المنبثقة عن الإسلام، إلا بعد تشكل مجموعة الدول العربية، وسميت ب”الوطن العربي” أو “الوطن التركي”، وعليه قد نكون مبالغين حينما نضع الوطن في مرتبة القدسيّة، وشعب الوطن الذي نعنيه يفتقر لأدنى أسباب الحرية والمساواة، ومن غير الممكن أن يكون الوطن في هذه الحالة غاية، يتم تقديم كل شيء من أجله.
ولكي نكون واقعيين أكثر في طرح ما يمكن طرحه في سياق القضية الكردية، وكردستان الوطن، علينا – قبل كل شيء- العمل على مسار الحرية والمساواة، أي حينما نقول “كل شيء من أجل كردستان حرة”، فإننا ننشد الحرية في كردستان، وننشد الوطن المتمتع بأعلى مستويات الوعي والديمقراطية، لا كردستان مستبدة ومستغلة لشعوبها ومكوناتها؛ لأن حينها لن تختلف كردستان عن مُستغليها من الدول القومية.
الأمة الديمقراطية
تُعرف الديمقراطية عموماً على أنها “حكم الشعب”، ولكن لهذا المصطلح أساليب واتجاهات متعددة، وهي تتعلق بشكل السيادة وعلاقتها بالشعب، سواء كانت ديمقراطية مباشرة أم تمثيلية نيابية. تعرّض هذا المصطلح للكثير من الاضفاء والانتقاد من خلال الممارسة، لذا تلخّص على لسان الكثيرين على أنه “ممارسة” في الشكل والمضمون، ذلك بسبب حساسية تقاربه من السلطة المستغلة للفرد والمجتمع، فيرى “جان جاك روسو” بأن السيادة الحقيقية هي عبارة عن ممارسة للإدارة العامة، وأنّها ملكٌ للأمة قاطبةً، باعتبارها وحدة مستقلة عن الأفراد المكونين لها، وليس للحاكم سيادة مطلقة”، طبعاً هنا نتحدث عن حالة الديمقراطية التمثيلة. أما في حالة الديمقراطية المباشرة، فأنها تقرر اشتراك الأفراد ذاتهم بالإدارة.
وفق رؤية السيد أوجلان، بالإمكان ربط الأمة بالديمقراطية “في حالة قيام المجموعات بتحقيق تحولها الوطني عبر التسييس، من خلال مؤسسات الاستقلال الذاتي المعنية بحقل الدفاع الذاتي والميادين الاقتصادية والقانونية والاجتماعية والدبلوماسية والثقافية، دون الاعتماد على السلطة أو الدولة، لتشكل وعي تاريخي وذهنية مشتركة، مبنية على ثقافة التعددية والحرية والمساواة”، حينها نستطيع تسمية تلك الجماعات بالأمة الديمقراطية، ولكن هذا لا يعني تذويب الخصوصية الثقافية للجماعات المتنوعة في بوتقة الأمة الديمقراطية، فالتعددية في النموذج الديمقراطي تعتبر من إحدى أهم مكامن القوة، وتغييبها ربما ستؤدي إلى استفحال جديد للقضايا الاجتماعية.
الأمة الديمقراطية بين الوسيلة والهدف
كثيراً ما يتم الجدل حول مفهوم “الأولوية” بين مصطلحي “القضية الكردية”، و”الأمة الديمقراطية” في رؤية السيد عبد الله أوجلان، سيّما خلال الممارسة العملية التي مرت بها روجآفاي كردستان (#غرب كردستان#)، وريادة حزب الاتحاد الديمقراطي في عملية تشكيل الإدارة الذاتية، حيث واجه الحزب اتهامات حادة من معارضيه، بخلو أهدافه ورؤيته السياسية، من الروح الكردية، وأن القضيّة الكردية غير موجودة في الأجندات المعلنة للحزب. وبحكم تبني الحزب لمشروع الأمة الديمقراطية وانتهاجه لأفكاره، فإن الاتهام والتشكيك طال المشروع نفسه.
لا شك أن هذا المشروع لاقى تحديات جمّة في خضم الخلافات السياسية الكردية-الكردية، والحروب والمعارك الدّامية بين أطراف النزاع السوري، والتدخلات الإقليمية والدولية، التي أدت إلى احتلالات مباشرة وغير مباشرة لسوريا، خاصة الدور التركي السلبي في هذا الشأن، بناءً على موقفه الوجودي من القضية الكردية، ومعرفة الدولة التركية التامة بأن المشروع المطروح من جانب حزب الاتحاد الديمقراطي، هو من صلب فكر السيد عبد الله أوجلان. وبالتالي، سيكون له تأثير على المسألة الكردية في تركيا أيضاً، وهذا ما لا ينفيه أي حزب من الأحزاب التي تتبنى مشروع الأمة الديمقراطية في جميع أجزاء كردستان، فهم يرون أن نموذج الحل الديمقراطي؛ هو السبيل الأمثل لحل القضية الكردية، وأن حل الدولة القومية باتت غير مجدية في ظل أزمة الرأسمالية والحاجة الاجتماعية. ولكن يبدو أن حزب الاتحاد الديمقراطي أيضاً بات لا يملك الجواب الكافي لتلك الاتهامات الموجّهة إليه من قبل بعض الأطراف الكردية، وذلك –ربما- بسبب الظروف السياسية المتقلّبة، والحذر الدائم من وقوعه في مرمى الاتهام ب”الانفصالية”، من قِبل القوى الفاعلة في الشأن السوري. ولكن، بجميع الأحوال، لابد من إظهار الشفافية، خاصة في الأمور الفكرية والإيديولوجية.
إن التحكيم في مسألة الأولوية مرتبط بالمشاعر والوعي، ولأن الشعور الكردي يسوده المشاعر القومية والثقافية والتاريخية، فهذا يعني ضرورة عدم إهمال تلك المشاعر المفعمة بالروح الكردية، وخنقها في بوتقة الحل. قد تختلف الحالة من مكون لآخر، فعلى سبيل المثال، المجتمعات العربية عاشت تفاصيل الدولة القومية، وبالتالي تشكل لديها نوعاً من الإشباع القومي، وباتت بحاجة إلى نموذج آخر لنمط الحياة، وعلى غرار ذلك التركي والفارسي أيضاً. أما في الحالة الكردية، فهي مختلفة تماماً، فبالرغم من إعطاء السيد أوجلان الأهمية الكبرى للعامل الذهني المشترك في مسألة البعد الوطني، إلا أنه يحرص على الحفاظ وإبقاء الآفاق الأساسية للكرد، كاللغة، والتاريخ، والاقتصاد، والجغرافيا ركيزة أساسية لنموذج الأمة الديمقراطية، وعلى ما أعتقد، تأكيده على “وحدة الاختلاف”، يعطي جواباً وافياً لهذه المسألة، أي مسألة “الأولوية “.
لذلك نستطيع أن نقول بكل وضوح: إن نموذج الأمة الديمقراطية بالنسبة للكرد يُعتبر وسيلة لتحقيق الهدف، وهو حل القضية الكردية، أما بالنسبة للمجتمعات المشبعة قومياً، فيعتبر هدفاً لإيصالهم إلى الانعتاق من سطوة الدولة القومية، التي باتت تشكّل عبئاً على الحريات العامة. [1]