د. محمود عباس
وعندما أصبح معروفا في الوسط الأدبي العربي، أعاد لقب (كرد)على أسمه، وكانت عائلته في دمشق تسمى بها سابقا، وعلى الأرجح أقدم على هذه الخطوة ليبين أصوله القومية، بعد ارتفاع شأنه في الوسطين الإعلامي والثقافي، وهو انعكاس على ما كان يحس به في لا شعوره، والتي طمست ربما مع الزمن، لتهيمن عليها النزعة العربية-الإسلامية بشكلها شبه المطلق، فيقول في مذكراته الصفحة (5) الجزء الأول ” أكشف الغطاء عن حقيقة اسم أسرتنا (كرد علي)، وأذكر الأصل في هذه النسبة وهذه الإضافة …..جاء جدي من مدينة #السليمانية# من بلاد الأكراد (شمال العراق) وسكن دمشق قبل نحو 150 سنة وأمي شركسية من قفقاسيا فأنا على رغم أنف من آمن وكفر من جنس آري لا يقبل النزاع، وليس للغربي ولا للشرقي ما يقول في دمي” (1) كما وبعد اطلاعه الميداني على واقع الشعب الكوردي، في الجزيرة من خلال المهمة التي كلف بها من قبل رئيس الحكومة تاج الدين الحسيني في عهد الاستعمار الفرنسي، والتي على الأغلب تم اختياره تحديدا على خلفية الانتماء القومي، قدم تقريره من بعد وطني سوري، فقد كانت حينها سوريا تعرف بالجمهورية السورية، ولم تكن تفرض العربية لا في الإدارات ولا في السياسة، وكانت حينها انتشار الأحزاب العروبية كالشعب والبعث في بداياتها. تخلل نص تقريره مساحة قومية كوردية، فهو الوحيد الذي وصف منطقة شمال الجزيرة بكوردستان وليست تركيا، وكانت تلك الصيغة مواجهة مباشرة لتركيا والاستعمار الفرنسي والسلطة السورية.
مضمون تقريره عن الجزيرة الواردة في مذكراته الصفحة (440-442):
فيها قسم الشعب الكوردي في الجزيرة إلى قسمين، سكنة المنطقة تاريخيا حتى ولو قيل فيهم على أنهم قلة، ومهاجرون من (كوردستان) وليس من تركيا، والازدواجية هنا واضحة، من جهة يريد سوريا دولة وطنية إسلامية-عربية، وأخرى يثبت كوردستان بجوارها طبوغرافية وديموغرافية، وجغرافية، بل وسياسيا أيضا من خلال التسمية، ولا يتبين فيما إذا كانت عفوية أو عن رؤية ودراية، وذلك في الفترة التي كان قد تم فيه انتخاب ثلاث نواب كورد، خليل إبراهيم باشا الملي عن الجزيرة، ومصطفى شاهين برازي عن جرابلس، وحسين عوني عن جبل الأكراد.
أستمر هذا الشعور المتضارب معه، رغم طغيان الثقافة العربية الإسلامية، وليست الإسلامية العربية، ونشاطاته الأدبية والسياسية وكتاباته العديدة، التي تناول فيها العديد من أعمال الولاة والمدراء الكبار في ظل الحكم العثماني والاتحاديون قبل أن يترك الصحافة، إلى درجة حدوث محاولات لاغتياله، ففي الفترة التي كان يهاجم فيها الجمعية المحمدية العثمانية، طلب منه أحد كبار الاتحاديين حمايته بعدد من الشجعان الأكراد، رغم أنه كان على عداء مع الاتحاديين، وهذه التحديد بأن يكون حراسه من الأكراد دلالة أن أصحابه كانوا يفرزونه كشخصية كوردية بثقافة عربية، فيقول في مذكراته الصفحة (76) “قال لي عبد الرحمن باشا اليوسف من كبار الاتحاديين: إن القوم يعني جماعة المحمدية، يبيتون لك القتل، فأنا مرسل لك ثلاثة أشخاص من شجعان الأكراد يرافقونك حيث ذهبت، أو تنقطع على الأقل عن التجوال ليلاً في المدينة، فقلت له: إنهم أضعف من ذلك”.
وعلى مدى العقود الطويلة في الإعلام ومواجهة الولاة وليس الحكم العثماني الإسلامي في عرفه، وهو في الإدارة بعد انتهاء الإمبراطورية ومجيء الاستعمار، أستمر كسياسي وإعلامي معارض، سابقا لمن كان يتعامل مع ولاة العثمانيين أو الاتحاديين، وفيما بعد من كان يتعامل مع الفرنسيين، ومثلما كان ضد غلاة العنصريين الأتراك، تحول إلى محاربة غلاة العنصريين العرب، وهو ما دفع به ليستمر على خلاف مع مواقف حزب الشعب، ووقف ضد قادتها الأوائل أمثال (علي بوظو) أبن العائلة الكوردية المعروفة، حتى وفاته عام 1953م، حول ما كان يعرضه من طروحات عنصرية، ومنها ما يقوم به ضد الشعب الكوردي في الجزيرة والتي تعارضت مع تقرير كرد علي لعام 1932م.
كان حينها بوظو نائبا عن حزب الشعب ما بين عام 149-1054م، تنصب بعدها عدة وزارات، كان وبعكس محمد كرد علي، يطالب بمنع تسجيل الكورد في الجزيرة وإهمال الدوائر المدنية المعنية بالأمر فيها، ممثلا بذلك منهجية حزبه العروبي (الشعب)، فيقول محمد كرد علي في مقدمة مذكراته، الصفحة (4) “دأبت على قتال الأردياء، والشبابُ غضّ، والرغبة في إطالة حبل الأجل عظيمة، فحريّ بي ألا أكف عنهم، وأنا أطوي آخر مراحل العمر، وأنفض اليد من بهرج الحياة.” وبالمقابل كان على وفاق مع موقف النائب (محمد إسماعيل باشا الملي) الذي كان على خلاف دائم مع علي بوظو حول الكورد، بل وحصل بين النائبين مواجهات ضمن البرلمان.
في الواقع لا يتضمن تقريره أي مشروع مشابه أو حتى قريب من الحزام العربي، بل يذكر في مضمون النص على أن يشعر وكأن المنطقة ستصبح جزء من كوردستان، أي أنه يعترف بوجود كوردستان، كما ويهاجم فيها الدولة العثمانية وفيما بعد الإتحادية، فكما ذكرنا كان ينتقد مساوئهم وفساد إداراتهم وتدميرهم للأوطان، وكثيرا ما كانت تؤدي به إلى المحاكم، أو التهديد بالقتل، كما وتم تفتيش داره عدة مرات، من قبل ولاة دمشق، منها ما أقدم عليه ناظم باش في شتاء عام 1904م عند عودته من مصر، على خلفية وشاية أتهم فيها بأنه صاحب البيان الجارح بحقه، وكان دارجا حينها على أنه ” ليس في المدينة من يكتب بالعربية غيري! فصدر أمر الوالي بتفتيش داري، ففتشوها وروعوا عيالي، وأخذوا أوراقي ودفاتري” كما يقولها في الصفحة (79) من مذكراته.
فيقول في تقريره المنوه إليه بعد جولته الميدانية إلى الجزيرة ودراسة الوضع وواقع الشعب هناك ” وإني لمغتبط جد الاغتباط بما رأيت من قيام أعمال مهمة في بعض أنحاء لواء الجزيرة الذي لم تضع فيه الدولة البائدة حجرا على حجر…والحكمة تقضي بمضاعفة هذه العناية وأن ينشأ فيه في السنة القادمة عشر مدارس ابتدائية لا تكلف أكثر من عشرة آلاف ليرة سورية وينشأ جامع فخم في عين دوار” ويقصد بالدولة البائدة؛ السلطة العثمانية، ولا شك الغاية من النقاط التالية أكثر من واضحة: بناء المدارس في المنطقة المدمرة، تحت مبرر مخفي تحت عباءة الدين، ولئلا تنضم مستقبلا إلى كوردستان.
يتبع…[1]