جنيف مرت من الحسكة إلى جرابلس
#محمود عباس#
الحوار المتمدن-العدد: 5267 - #27-08-2016# - 12:14
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
حقائق يجب أن يدركها الشعب السوري، وهي: أن الحرب الأهلية سوف لن تنهيها القوى الإقليمية والكبرى قريباً، وما دمر لن يعمر على مدى قرن وأكثر، وأن نصف الشعب السوري المهاجر لن يعودوا، وأن مؤتمرات جنيف لن تنتهي، والكرد لا يطالبون بالانفصال، وأن تركيا تعمل لاقتطاع جزء من سوريا لتوسيع لواء اسكندرونه، وستحتل تحت مسميات متنوعة مئات الكيلومترات من الأراضي السورية، ومعها بضعة آلاف من التركمان، وستدعي مستقبلا بأنهم الأكثرية في المنطقة، مثلما فعلتها في الثلاثينات من القرن الماضي. رحمة الله ولعنة الله عليك يا زكي الأرسوزي، على ما ذكرته من شنائع وخباثة وعنصرية الأتراك، وعلى ما نشرته من نهج عنصري بين الشعوب السورية.
كم هي قصيرة ذاكرة المعارضة العربية السياسية والمسلحة، من الائتلاف إلى الجيش الحر إلى الفيالق والفتوحات المتعددة الأسماء، وكم ساذجة هي تحليلاتهم، وضحلة آمالهم وأحلامهم. حصرهم أردوغان في مجالات صراعه ضمن الحيز الكردي، وأغمض أعينهم عن المحادثات الواسعة الجارية في جنيف بدونهم، وأنساهم أن الطاولات في الأروقة الدبلوماسية لا يوجد حولها سوري، لا هم ولا النظام، وهناك من يقرر مصيرهم، بدونهم، ونقلهم من الصراع ضد السلطة وعلى السلطة إلى صراع مع الكرد تحت خيمة محاربة ربيبتها داعش، في فترة كانوا ضد الانقياد للأجندات الأمريكية على ترك المواجهة مع سلطة بشار الأسد ومحاربة داعش، وإذا هم بين ليلة وضحاها وبرسالة غرامية ونفخ في الصور تاهت فيالق المعارضة طريقها واتجهت نحو داعش، وتركوا جيش بشار الأسد ليعبث بداريا، مركز أضخم واعتى المظاهرات السلمية ضد طاغية دمشق، واليوم يتم إخراجهم، وأعين السوريين مدمعه تراقبهم، ونظرات أردوغان مركزة نحو الكرد وشرقي الفرات، ولا يعلم بما يجري على أطراف دمشق، ولا في جنوب حلب، وسوف لن يهتم حتى ولو بلغت مسامعه، والعتب ليس عليه بل على المعارضة المنصاعة للسلطان العثماني، والذين يحلمون بالعيش تحت مالك عرش الخلافة أربعمائة سنة أخرى.
لا تعيبهم بما يجري حول دمشق، وخدعة أردوغان وإيران وروسيا، وكيف أنهم خففوا الضغط عن جيش بشار الأسد ومرتزقة حزب الله، بعد أن تركوا جبهات شمال حلب وحول إعزاز، وأعطي لهم المجال بالتركيز على داريا، وليعلموا بأنه غدا ستكون المناطق الأخرى حول دمشق. ولم تكن كلمة جون كيري في جنيف ارتجالية، عندما قال أن الاتفاق في معظمه قد تم وأن اللجان تتشاور حول الثانويات، وستبدأ بإيقاف المعارك، في المواقع كما هي الأن، ونحن نعلم لم تبقى للمعارضة إلا الفتات، وبعدها ستدخل المساعدات الإنسانية، ومن ثم الاتفاق على الحكومة الوطنية وليست الانتقالية والتي تخلت عنها أردوغان، والتي لن تكون للمعارضة فيها سوى التبعية وبعدها الإهمال، وأردوغان حينها يكون وبموافقة هذه المعارضة التي تجلس على دباباته قد أتمم ضم ما يريد من الأراضي السورية لتركيا، تحت حجة منطقة محمية لخدمة مخيمات اللاجئين إلى أن تبدأ الدول العالمية بتعمير سوريا، ونحن نتحدث ربما عن مئة سنة قادمة، تكون حينها حدود تركيا مارة بجانب قلعة حلب أو ربما من جنوبها.
ضيع أردوغان المعارضة الانتهازية والتكفيرية والساذجة في صراعات جانبية، ومرر من على أكتافهم أجنداته، وسيتمكن من تنفيذ أحلامه السلطانية بهم وعليهم. فقد كانوا يعترضون على إقامة منطقة عازلة تحت يدي الجيش التركي حتى البارحة، ورفضوا التدخل الأجنبي بكل أشكاله، والغريب أنهم اليوم، وافقوا عليها وببهجة، وساندوها، ودخلوا من على دبابات الأجنبي إلى الأرضي السورية، وهي عملية لا تختلف عن طريقة عرض العاهرة لجسمها وبيتها لمغتصبها، وهناك في جنيف يجري تعريتهم وتقييمهم.
جميع القوى الإقليمية والدولية، شاركت مع سلطة بشار الأسد والمعارضة المتحولة إلى الإسلامية الراديكالية والتكفيرية، في انتهاك كل محرمات الشعوب السورية، وأديانه، ولا تعني هذا انه تحق لتركيا التسابق على تمزيقه، والعبث به، ولو كان أردوغان يملك قليلا من الكرامة لما انتهك كرامة الشعب السوري الذي هاجر نصفه من خلال الأراضي التركية، وتاجر بهم وبهجراتهم، وباعهم في أسواق النخاسة، ودعم قسم من داعش للتسلط عليهم وخلق المجازر بالأمنين منهم، ولا شك أن تركيا كانت ترغب في رؤية سوريا ضعيفة، فكثيرا ما خلقت لها المشاكل، وحلمت بتدميرها بنفس المقدار الذي أرادته أئمة ولاية الفقيه، والأسد وحاشيته، ولهذا اتفقت وخلال أقل من أسابيع وبتنازلات مريعة، مع إيران وسلطة بشار الأسد، ليحرضه على فتح جبهات مع الكرد في الحسكة، ويخفف من ضغطهم على داعش في جبهات منبج ليتأخر زحفهم على جرابلس ويحصل أردوغان على الوقت، لتهيئة انسحاب داعش أو طرق انضمامهم إلى المعارضة، وتجهيز المجموعات اللازمة لدخول جرابلس قبل القوات الكردية، ولا شك العملية كان تكتيكا خبيثا، وخدعة شريرة على الشعب السوري والمعارضة السياسية والتكفيرية العسكرية الساذجة قبل أن تكون مواجهة ضد قوات الحماية الشعبية، وجيش سوريا الديمقراطية، ولا شك دبرت تركيا أثناءها عملية اغتيال قذرة بحق قائد قوات جرابلس المتشكلة من شباب المدينة، الذين كانوا يتهيؤون للهجوم على داعش في جرابلس، وهي كانت من ضمن خطة لتأخير العملية، وقد تمكن أردوغان وبتوافق مع إيران إرضاخ الأسد من دمج ما ذكر، بعد دعم المعارضة في حلب لفتح الحصار عنها، والتمكن من تغيير موازين القوى فيها، وبها أوصل رسالته لبشار الأسد بانه قادر على دعم المعارضة إذا أراد، وما على السلطة السورية سوى الرضوخ لمنطق التعامل معه عن طريق إيران، وبذلك وافق بشار الأسد على الخطة مرغماً، وضرب قوات ال ي ب ج في الحسكة، ولو تطلب الأمر لألحق قامشلو بها، لكن الخطة اكتفت بمدينة الحسكة، وبذلك أطمأن أردوغان، أن القضية الكردية في سوريا لا تزال تحت السيطرة، وأنها لا تستطيع أن تتسع بأكثر ما يسمح لها، أو هي لا تزال دون القدرة على تجاوزه، ولولا أوامر أمريكا لكان طيرانه قد دمر الأكثر. وبالتالي أصبحت جنيف جاهزة للبدء، بعد إتمام تبخر داعش بقدرة الآيات الأردوغانية، دون أن يتهدم جدار واحد في مدينة جرابلس، ولم يجرج جندي تركي ولا أحد من المعارضة أو من داعش. سبحان الله حتى طيور الأبابيل وبأمر من الله لم تتمكن من فعل ما فعله أردوغان بأعداء الله من المنظمة الإرهابية!
بعد هذه التحركات الدولية، والتكتيكات الحديثة جدا، والتغيرات المريبة في مواقف تركيا، لم يعد مستغرباً، غياب الائتلاف من الساحات السياسية، ولم نعد نسمع بالمؤتمرات، لا في الرياض، أو إستانبول، إلا عند حاجة تركيا، في إصدار بيان ضد الكرد، أو تبيان موقف شوفيني عنصري. وفي خطهم الموازي سلطة بشار الأسد، والأجندات الإيرانية، وهؤلاء لهما حرية اللعب بقدر سوريا، إلى أن يبلغ أمريكا وروسيا من تجاوز نقاط اختلافاتهم، مع غياب مطلق للدول العربية المهترئة، والتي أتمت مهماتها في نشر أبشع الأفكار المذهبية والتكفيرية الإسلامية في العالم، وقد بلغت رسالتهم قمتها، فأصبح من السهل للقاصي والداني، التهجم على الإسلام بمطلقه، ومن السهل أن يقول الناس أي من هذه الملل هي النقية، أمام العشرات التي تبينت بأنها ضالة.
استغنت أمريكا عن المعارضة، مثلما استغنت روسيا عن الأسد، بعد أن جمعوهم على طاولات وكانوا على اليقين بانها لن تؤدي سوى إلى المزيد من الكراهية والصراع، وكانت الغاية هي توسيع الهوة بينهم، وتعميق الكراهية في العالم من الإسلام، وهذا ما قامت به المنظمات التكفيرية وبينهم المعارضة السورية خير قيام، وقد كان ولا يزال يسمح لهما بالتقاتل ضمن مساحات جغرافية محددة مسبقا لهم، وتبين وبعد خمس سنوات من الدمار والكوارث أن افضل من سيحصل على الغنيمة هي تركيا وإيران، فقد خرج أردوغان من الانهيار إلى النجاح، بعدة قفزات سياسية ودبلوماسية، من مسرحية الانقلاب، إلى الرحلات الدبلوماسية المكوكية، ما بين بطرسبورغ وطهران، ومن عزل شريحة من ضمن حزبه، إلى القضاء على كل معارضيه في تركيا، وبالمقابل فعلتها إيران بأن تمددت في منطقة الشرق الأوسط، وأخذ الكثير من الثأر لإمبراطورتيهم الفارسية تحت خيمة نشر نهج أئمة ولاية الفقيه الشيعية، هناك السلطان السني وهنا االشاهنشاه الشيعي. ليست شماتة بالشعوب السورية ولا بالكرد، فمبروك عليهما قدراتهما وسيطرتهما على الشرق، وإعادة أمجادهما على أكتاف السذج من المعارضة العربية وسلطة بشار الأسد، وقدراتهما على دمج مصالحهما مع مصالح روسيا وأمريكا على حساب الكرد والمعارضة العروبية الانتهازية والمنافقة السورية الساذجة، فيا حسرتي على من لم يعد يجد جدارا في سوريا يستند عليه ويبكي نحو الله.
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
mamokurda@gmail.com
[1]