Joost Hiltermann
منح الغزو الأميركي للعراق عام 2003 أكراد البلاد أملاً متجدداً في تخفيف القيود التي تربطهم ببغداد.إلّا أن الأحداث التي تلت الغزو أوهنت تلك الروح. فرغم التقدم الكبير الذي حققه الأكراد نحو الاستقلال، فإن المأزق الكردي التاريخي ما يزال قائماً.
يشكل النوروز، والاحتفال بالسنة الجديدة بالنسبة للفرس، والأكراد وكثير غيرهم، حلول الربيع، وهو وقت يتسم بالتجدد والبهجة. أما بالنسبة لأكراد العراق، فإن المناسبة حلوة ومرة في الآن نفسه، لأنه في فصل الربيع قبل 35 عاماً، عند قرب انتهاء الحرب الإيرانية–العراقية، اكتسح الجيش العراقي الريف الكردي، فدمَّر القرى وقتل السكان. قُتل في تلك الأحداث نحو 100,000 رجل، وامرأة وطفل على نحو منهجي في مواقع في صحراء العراق الجنوبية خلال ما سماها نظام صدام حسين حملة ’الأنفال’ ضد المعارضة الكردية. اليوم، بعد عشرين عاماً من الغزو الأميركي، تحرر الأكراد من مثل ذلك القمع، وتعود المجتمعات الريفية ببطء إلى الحياة.
تذوق الأكراد طعم درجة من الحرية قبل باقي سكان العراق. ففي عام 1991 ، وفي أعقاب حرب الخليج الأولى، انتفضوا ضد النظام. دفع تمردهم التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة الذي أخرج الجيش العراقي من الكويت إلى تأسيس منطقة حظر للطيران وملاذ آمن صغير في شمال العراق. أقنعت هذه التدابير مجتمعة القيادة العليا العراقية بسحب قواتها من إقليم كردستان، وفي العام التالي، بدأ الحزبان الكرديان اللذان نزل مقاتلوهما من الجبال لقيادة التمرد بمحاولة إنجاح الحكم الذاتي الذي تحقق بحكم الأمر الواقع. صارع الحزبان لتحقيق ذلك على مدى السنوات القليلة التالية، حيث أجريا انتخابات وأنشأا حكومة لتقاسم السلطة بينما كان الديكتاتور العراقي يرمقهما بسخط من بغداد. لكن سرعان ما بدأا بمحاربة بعضهما بعضاً في صراع على الموارد الاقتصادية، وبصورة رئيسية على الرسوم الجمركية، في صراع مدمر انتهى فقط عبر وساطة أميركية. عندما غزت الولايات المتحدة العراق في عام 2003 وأطاحت بصدام حسين، كان الحزبان اللذان قسما الإقليم الكردي، يحكمان المناطق التي يسيطران عليها من خلال إدارتين متوازيتين.
أكدت هذه الأحداث على وجود واقع نشأ جميع الأكراد عليه ووجدوا أنه لا فكاك منه. فعلى مدى تاريخهم الحديث، لم يتمكن الأكراد من تفادي الفخ الذي نصبته لهم القوى الاستعمارية، والمتمثل في تقسيم مناطقهم التقليدية بين أربع أمم–دول معادية لهم (إيران، والعراق، وسورية وتركيا)، وهو ما تركهم دون منفذ بحري ودون دولة خاصة بهم. ولم يكن ذلك لأنهم لم يحاولوا تحقيق ذلك. وأتى الغزو الأميركي، الذي حدث في الربيع، ليمنح أكراد العراق آمالاً متجددة بأنهم سيكونون أقل اعتماداً على بغداد، وعبر مفارقة تتمثل في لعبهم دوراً بارزاً في السياسة العراقية، بل دور مرجح في من يحكم العراق. في إقليم كردستان، أعادوا توحيد حكومتهم (ولو إنهم لم يوحدوا قواتهم الأمنية أو أجهزتهم الاستخبارية)، وفي بغداد، قدموا مدخلات أساسية في دستور عام 2005، الذي أنشأ إقليماً كردياً اتحادياً يتمتع بصلاحيات غير مسبوقة، وحصلوا على موافقة غير رسمية على أن يكون الرئيس كردياً. وبمرور الوقت، بدأوا باستغلال حقول النفط في كردستان وأنشأوا مساراً خاصاً بهم للعائدات المتأتية من تصديره. دفعوا بحقهم في إقامة دولة خاصة بهم في المحافل الدولية وبدأوا بالتحضيرات لتحقيق الاستقلال عندما يصبح الوقت مناسباً.
لكن التطورات التي حدثت على مدى السنوات الخمس الماضية، والمتمثلة في تعزيز المكانة الثانوية للأكراد في العراق، أظهرت أن هذه الآمال لم تكن في محلها. أولاً، في عام 2017، فشل محاولة حكومة إقليم كردستان لإجراء استفتاء على الاستقلال بدلاً من تحقيق تطلعات طال أمدها، دفع بغداد لإعادة قواتها إلى حزام من المناطق المتنازع عليها، بما فيها كركوك الغنية بالنفط، وفصلت بذلك إقليم كردستان عن باقي أنحاء العراق. ثم، في شباط/فبراير 2022، أتى قرار المحكمة الاتحادية العليا ليعلن أن وحدها الحكومة الاتحادية تتمتع بالحق الدستوري في تصدير النفط الخام، الأمر الذي ينزع الشرعية عن مبيعات النفط التي يقوم بها إقليم كردستان.
شهد آذار/مارس 2023 ظهور عقبة أخرى أمام رغبة حكومة إقليم كردستان بالاحتفاظ بمصدر مستقل للإيرادات. إذ حكمت محكمة التحكيم الدولية في باريس بأن أنقرة كانت قد انتهكت المعاهدة الثنائية التي أبرمتها مع بغداد في عام 1973 (والتي جددت في عام 2010) التي تعطي للحكومة الاتحادية العراقية السلطة الحصرية على مبيعات النفط العراقي من خلال أنبوب يمر إلى تركيا. استجابة لذلك، قامت تركيا فوراً بإغلاق خط الأنابيب على أراضيها، والتي كانت الحكومة الكردية تستعمله لضخ 400,000 برميل يومياً إلى السوق من حقول في كركوك وفي إقليم كردستان. (لقد استعملت الحكومة الاتحادية نفس خط الأنابيب لتصدير 75,000 برميل يومياً من نفط كركوك إلى جيهان قرب الساحل التركي على البحر المتوسط، بالتعاون مع حكومة إقليم كردستان.)
لقد ثبطت جميع هذه الأحداث إلى حد ما من روح النوروز في كردستان العراق اليوم، بعد عشرين عاماً من الغزو الأميركي. في زيارة قمت بها مؤخراً، رأيت ريفاً تغطيه خضرة غامقة بشكل مدهش، ارتوت بأمطار الربيع. خلال ما لا يزيد عن شهر، ستكون هذه التلال المتجاورة قد بدأت بالاصفرار، تحت وهج شمس لا ترحم.
منح صالح الأكراد الذين طالما عانوا في ظل الحكم القمعي للنظام السابق الشيء الذي يحظى لديهم بأكبر قيمة في حياتهم، وهي حرية التنقل، والتفكير والتجمع دون خوف.
وكما هو حال الفصول، كذلك حال السياسة: إعادة إحياء مشهدية لكن مؤقتة، تلاها على نحو عاجل الاقتتال الداخلي وبلاء الفساد (غاندالي باللغة الكردية). منذ خرج الحزبان الرئيسيان من مخابئهما الجبلية لفرض سيطرتهما، وهما يعدان بمستقبل أفضل بكثير. وقد حققا تقدماً كبيراً في قيادة السكان الذين يحكمانهم وإخراجهم من حالة البؤس التي كانوا يعيشونها. في أواخر تسعينيات القرن العشرين، كان برهم صالح، رئيس العراق بين عامي 2018 و2022، رئيس وزراء إحدى الحكومتين الكرديتين المتوازيتين، وهي تلك التي تتخذ من السليمانية مقراً لها. فعل ثلاثة “أشياء” عظيمة للمدينة، على حد تعبير أحد سكانها: لقد بنى مطاراً، وأنشأ الجامعة الأميركية في العراق وخصص قطعة أرض كبيرة لكي تكون حديقة عامة. وبجمع هذه “الأشياء” الثلاثة، سواء كان ذلك متعمداً أم لا، فإن صالح منح الأكراد الذين طالما عانوا في ظل الحكم القمعي للنظام السابق أكثر شيء يرغبونه في حياتهم، وهي حرية التنقل، والتفكير والتجمع دون خوف. بعبارة أخرى، منحهم الأوكسجين، إضافة إلى بعض المال الذي يقيم أودهم.
لكن رغم هذه الإنجازات (يمكن للمرء أن يذكر أيضاً مراكز التسوق المبهرجة، وفنادق الخمسة نجوم والشركات الأجنبية التي تُدخل العملة الصعبة)، فإن الحزبين أفسدا الأمور. لقد تميز حكمهما بالواسطة والمحسوبية ونهب المال العام ، في تنافسهما، بل حتى تقاتلهما، على الغنائم: العائدات النفطية، والرسوم الجمركية التي تُفرض على الحدود التركية والإيرانية، والرشى من الشركات الأجنبية. في عام 2014، وبسبب انخفاض أسعار النفط والمعركة مع الحشود المهاجمة لتنظيم الدولة الإسلامية، بدأ المجتمع في مواجهة صعوبات مالية. جُمدت رواتب القطاع العالم الذي يعتمد عليها معظم الناس أو خُفضت، وتدهور الاقتصاد بشكل كبير، رغم أن المتمردين الذين تحولوا إلى زعماء عائلات وعشائر مع ذريتهم، استمروا في مراكمة الثروات. المفارقة المؤلمة هي أن الآلية التي استعملها الأكراد لتحاشي اللعنة المزدوجة لعدم تمتعهم بمنفذ بحري ولا بدولة – وهي الثروة النفطية - أصبحت هي نفسها سرطاناً في الجسد السياسي.
ثم أتى القمع – الذي كان أسوأ في أربيل، المقر المتجهم للحكومة الموحدة للإقليم، مما كان في السليمانية، التي تتمتع بمجتمع أكثر انفتاحاً ومشهداً ثقافياً مزدهراً. يكرر القادة الأكراد قولهم إنهم يريدون أن تصبح كردستان دبي الجديدة، في إشارة إلى المركز الاقتصادي الحيوي للإمارات العربية المتحدة. لكن في محاولتهم تقليد ذلك النموذج، تمكنوا من تبني المظاهر الاستبدادية لدبي قبل أي شيء آخر. انخرط كلا الحزبان الرئيسيان في تكتيكات الدولة البوليسية، فحدّا من حرية التعبير وقمعا المعارضة، السرية منها والعلنية. وإذا كان الحزب الموجود في أربيل (الذي يشار إليه بحزب ’الملاليين’، المشتق من اسم الزعيم التاريخي للأكراد، المُلا مصطفى البرزاني) أكثر كفاءة في ذلك، فلأن الحزب الآخر في السليمانية (الذي يُعرف أفراده بالجلاليين، نسبة إلى قائد الحزب الراحل، الرئيس العراقي السابق جلال طالباني) بدأ بالتفكك. لكن النزعة نحو الممارسات الاستبدادية هي نفسها.
خلال العام الماضي، استقرت أسعار النفط، وبدا أن الناس العاديين يعتقدون أن المرحلة الأسوأ في الأزمة الاقتصادية أصبحت وراءهم. لكني أحسست بوجود غضب يمور تحت السطح، عُبِّر عنه في المجالس الخاصة من قبل بعض أصدقائي القدامى الذين كانوا منخرطين في نضال سري قبل عام 1991، إلى درجة أن الكلمات التي يختارونها لوصف القيادة لا تصلح للطباعة. حتى الآن لم يتمكن موظفو الدولة من استلام رواتبهم، ولا معاشاتهم التقاعدية بشكل كامل.
على هذه الخلفية، في آذار/مارس، مباشرة قبل النوروز، نظمت الجامعة الأميركية في العراق في السليمانية الدورة السابعة لمنتدى السليمانية، وهو مهرجان سنوي يجتذب الباحثين العراقيين والأجانب، ورجال الأعمال وممثلي وسائل الإعلام. جمع صالح، الذي أصبح الآن رئيساً للجامعة ومنظم الفعالية، المجموعة المعتادة من الشخصيات البارزة: رئيس الوزراء العراقي ووزير الخارجية، ورئيس إقليم كردستان ونائب رئيس وزرائه، وممثلة الأمم المتحدة في العراق، وآخرين. أبرز الغائبين عن صفوف الحضور كانوا أعداء صالح السياسيين، ولا سيما الرئيس العراقي (وهو كردي من حزب صالح حل مكانه رئيساً للدولة) ورئيس وزراء إقليم كردستان، مسرور بارزاني، الذي أنشأ جامعته الأميركية الخاصة في العراق، التي تقيم منتدى سنوياً موازياً، في مدينة دهوك.
اقترح [قوباد طالباني] أن تتبنى الحكومة الكردية ... خياراً ... هو التفاوض على قانون تقاسم للعائدات مع بغداد لجميع العراق، بما في ذلك إقليم كردستان.
في منتدى السليمانية، اقترح نائب رئيس وزراء إقليم كردستان، قوباد طالباني (ابن جلال)، مقترحاً براغماتياً تماماً لكنه فاجأ كثيرين بين الجمهور. اقترح أن تنسى حكومة إقليم كردستان موضوع السيطرة على حقول النفط، وأن تختار بدلاً من ذلك التفاوض على قانون تقاسم للعائدات مع بغداد لكل العراق، بما في ذلك إقليم كردستان. بتعويم هذه الفكرة، بدا أنه يختلف مع التفسير الذي تبنته حكومة الإقليم منذ وقت طويل للدستور العراقي لعام 2005، الذي كان المستشارون الأجانب للقيادة الكردية بشأن حقول النفط قد وضعوه بشكل محدد لتعزيز تطلعات الإقليم إلى الاستقلال. أنكر طالباني علناً أن لمقترحه طبيعة المراجعة (أو الثورية)، لكنه أقر بأنه ربما لا يمثل الإجماع داخل الحكومة الكردية.
في الواقع، فإن هذه الفكرة، التي تُطرح منذ بدأ إقليم كردستان بإنتاج النفط قبل خمسة عشر عاماً، تظهر الانقسام بين الملاليين والجلاليين (إلى الحد الذي يشكل فيه هؤلاء كتلتين متماسكتين)، ليس فقط على تقسيم الغنائم بل على مستقبل كردستان العراق. إذ يريد الطرف الأول اتخاذ خطوات تبلغ ذروتها في تأسيس دولة كردية، في حين أن الطرف الثاني راضٍ بالاستمرار بالعيش في عراق اتحادي يمنح إقليم كردستان حصة منصفة من الكعكة الكلية، وهي أكبر بكثير مما يستطيع الإقليم أن ينتجه. وهكذا، فإن فكرة طالباني تستحضر النزاعات المريرة التي أدت إلى الصراع الأخوي بين الحزبين في تسعينيات القرن العشرين. وبات الحديث عن حرب أهلية شائعاً مرة أخرى.
تخوض حكومة بارزاني مفاوضات مع الحكومة الاتحادية برئاسة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني للتوصل إلى ترتيب جديد. يريد الأكراد بيع نفطهم، بينما تريد بغداد ضخ نفطها من حقل كركوك عبر خط الأنابيب الكردي إلى تركيا في غياب بديل لها عن ذلك. (إذ دمر تنظيم الدولة الإسلامية خط الأنابيب العراقي من كركوك إلى تركيا في عام 2014.) في مطلع نيسان/أبريل، توصل الطرفان إلى اتفاق مؤقت لاستئناف الصادرات النفطية، لكنه يبقى دون تنفيذ. تعطي الاحتياطيات النفطية في الإقليم الحكومة الكردية نفوذاً على بغداد، بالنظر إلى أنها تسيطر على خط الأنابيب الشمالي. لكن الأكراد لا يستطيعون الالتفاف على القرارات الاقتصادية للعاصمة، التي تمرر جميع مبيعات النفط الخارجية من خلال هيئة التصدير الاتحادية.
إذن، ما هو موقف كردستان العراق؟ القيادة التي نزلت من الجبال وأحكمت سيطرتها عندما أخرجت الولايات المتحدة وحلفاؤها النظام العراقي، أولاً من الإقليم في عام 1991، ثم من باقي العراق بعد اثني عشر عاماً، هرمت وباتت فاقدة الشرعية. علاوة على ذلك، فإن النظام السياسي المتصلب في كردستان العراق جعل من الصعوبة بمكان ظهور قادة غير ملطخين بالفساد العائلي. ويتميز الإقليم بتركيبة سكانية يطغى عليها الشباب القلق والذي يمكن أن يكون متقلباً. في عالم مثالي، يمكن أن تجري تنحية القيادة القديمة جانباً في انتخابات محلية، وتطهير البيت الكردي واستعمال نفوذ الأكراد في بغداد للعمل نحو أكبر درجة ممكنة من الحكم الذاتي داخل العراق – استقلال كامل إلا بالاسم. لكن، بالنظر إلى عدم احتمال وجود تجدد سياسي – فإن كثيراً من الشباب الأكراد يصوتون بأقدامهم بإختيارهم الهجرة، إذ يمضون في الرحلة الخطرة والمكلفة عبر تركيا والمتوسط إلى دول يعتقدون أن العشب فيها أكثر اخضراراً.[1]