من مزكين إلى فيان بيمان بشرى الحرية وعهد النضال والفن الثوري الأصيل
ياسر خلف
مزكين (البُشرى) إذا ما صدحت بصوتها كانت رخماً عذباً صافياً ممتلئاً كأنها سمفونية شعب بأكماتها وجبالها ووديانها وهضابها، كأنها مزيج من كافة الفصول أو نسجٌ مطرزٌ بألوان الجمال لا تكاد الأذن تسمعها حتى يحضر في النفوس، هذا الوقت القصير بين انطلاق الفجر في ظلمة الليل كأنه السهم وإشراقة الشمس على الأرض حتى تملأها ألقاً ونوراً.
مزكين؛ تلك الفتاة التي يختصر اسمها كل المعاني العذبة التي تبعث البُشرى بغدٍ نضرٍ قريب تغرد بصوتها، تصرُّ كالعنادل والبلابل التي تناجي الحرية أو تصارع العبودية المحكومة بها داخل اقفاص الهيمنات والاسرين.
متى يغدو الفن ثورة في زمن أمسي النشاز يبجل كقدر أسود أو يسرق ثقافة الشعوب وفنهم وحضارتها أمام أنظار أصحابها المحبطين المتخبطين؟! ألا يعلم المستبدون أن الفن لغة الألم التي يتقنها العاشقون ويحسنون انشادها وترنيمها بلغتها الأصيلة دونما زيف أو شذوذ، فهي لغة الأمهات التي تهدل بها لصغيرها آناء الليل الحقيقة التي اتقنتها فطرتها الأزلية وهي تقارع الظلام بنور فؤادها المتهجد لصراط الاستقامة المخفية بالنار وبارود اللصوص المستعمرين والمحتلين.
مزكين التي صعدت جبال كردستان الشامخة بروحها الهادرة وهي تغني لوطن مغتصب تراتيل الحياة لتغدو كمزامير داوود تطرب الخليقة بشذى نفحاتها ومسالك فلسفتها المتوارثة المتجددة بالأرواح السرمدية كآرين وبارين وبيمان فهل ثمة أرقى من هكذا فن! مقاتلات ينشدون الموت لصون الحياة بفنهم ومقاومتهم وتضحياتهم.
قد يكون النضال مرتبطاً بمدى حبك وتضحيتك من أجل وطنك وشعبك، ولكن حينما يغدو الروح والأحاسيس مفعماً بسلاح الفكر وهي تُسطر ملاحم الجمال والبطولة بالأدب والفن الثوري حينها يمكننا التأكد أن ثورة “الموزاييك” من الثقافة المترابطة بأوردة الفن والأدب الثوري تماماً، كما سمعناها أو ورثناها من ملاحم فنية وأدبية بطولية ك (عدولي ودرويش عبدي, ممو وزيني , سيامند وخجي, شيرين وفرهاد …..)، ولكن حينما يصبح رواد الفن والأدب الثوري ذاتهم ميراثاً ومنهلاً لشعبهم وتتحول مآثرهم إلى ذاكرة قيّمية جمعية مُفعمة بالمعنى حينها يمكن الجزم أنهم أصبحوا أيقونات لا تنطفئ قبسها كمُلهم مستمر للحقيقة المجردة دون شك والتباس.
يقول القائد #عبد الله أوجلان# : (الكردايتية ليست واقعاً يقف بثبوت دائم في التاريخ، بل تطورُ وجودها مارةً بالتحولات, مثلما هي كل ظاهرة اجتماعية، أما تحولها الراهن فأشمل وأسرع بكثير، حيث أن الظاهرة الكردية تشهد في يومنا الحالي سياقاً انشراحاً متعدد النواحي، فالتعبير الفني هو طراز التعبير الأكثر بروزاً في هذا المضمار بنحو تقليدي. يلوح أن الكردايتية بجانبها هذا تسعى نوعاً ما إلى التعريف بذاتها عن طريق الموسيقى، أي أن الموسيقى من أهم أنماط التعبير في الحقيقة الكردية).
بكل تأكيد؛ الحقيقة الكردية تعبير صارخ عما جسدتها شخصية مزكين، واستمرت في نقائها وأصالتها بروح وشاعرية وعذرية فيان بيمان وأرين وبارين وافستا … وغيرهن اللاتي لا تزلن تحملن سلاح المقاومة والفن والأدب كمتلازمة ثورية بأروحهم وتضحياتهم فكراً وجسداً ومعناً، فحينما يصار الفن لغة ملحمية لشعب عانا من الإنكار الثقافي لدرجة الإبادة والإمحاء فمن المؤكد الحتمي أن هذا الشعب بات يُدرك حقيقته ووجوده.
من المعلوم أن الأدب والفن عبر لغتها التعبيرية من أعظم وسائل الإنسان في التعامل مع واقعه وهي تعد من أبرز أدواته للتغلب على صعوباتها ومشقاتها وخاصة عندما يكون رواد الأدب والفن الثوري طليعة المقاومين والمناضلين، وكذلك إذا أدركنا أن الأدب والفن الثوري (كمأثرة وملحمة مزكين وفيان بيمان) يعد المتنفس الوحيد الأكثر تجلياً ووضوحاً في التعبير عن حالة الظلم والقهر والاستبداد التي سعت النظم الدكتاتورية المهيمنة جاهدة في منعها وكبحها عبر سياساتها السلطوية وذهنياتها الإقصائية.
إن المتمعن في سيرة وتاريخ النظم الاستبدادية سيدرك تماماً بما لا يترك مجالاً الشك حجم الكارثة التي أحلتها بشعوبها وربما يكون أكثر صورها فظاعة هي الحالة الكردية التي حُرمت من أبسط وسائل التعبير كاللغة والأدب والفن ليصل إلى حد إنكار كينونته ونشوؤه، ومن هنا يظهر عظمة لغة الأدب والفن الثوري كمبدأ وقيمة أساسية للنضال والمقاومة ضد جميع أشكال الإنكار والاستبداد بحيث تعد من أهم وسائل التعبير الأخلاقي والسياسي والأيديولوجي المرسخة لقيم الحرية والعدالة والديمقراطية.
حيث يمكن القول في هذه الجزئية من هذا المقال أن الثوار الحقيقيون هم وحدهم من كرسوا أرواحهم وفنهم وإبداعهم الأدبي والفكري إلى عراقة وأصالة نسجوها من معاناة شعبهم ليجعلوا من إبداعهم الثوري فناً وادباً وفكرا للنضال والبطولة والمقاومة أمثال الشهداء (مزكين وفيان بيمان, حسين شاويش وزردشت, عيسى حسو, وارشين, أرين, افستا وبارين …) وغيرهم الآلاف من الشهداء الذين سبقوهم ومن لحقوا بهم ليتحول فكرهم وأدبهم وفنهم وملاحمهم ومآثرهم إلى ميراثٍ ومنهلٍ للإبداع والرقي المجتمعي ليس في روج آفا وكردستان فحسب بل على الصعيد الإنساني والعالمي لتصبح بطولاتهم ومنابع فكرهم وأدبهم وفنهم الثوري مصدر إلهام لجميع الشعوب التواقة إلى الحرية والانعتاق من نير الظلم والاستبداد .[1]