محنة الكُرد ومحنة بارزاني الصراع على رئاسة الجمهورية مع برهم صالح
علي سيريني
الحوار المتمدن-العدد: 7142
المحور: #القضية الكردية#
بين جميع الإنتماءات في هذا العالم، قد يكون كون الإنسان كُرديا الأكثر محنة والأكثر إيلاما، نظرا للأثقال الباهظة التي تقع على كاهل الواعي الحامل لهذه الهوية التي لا ينضب معين محنتها. محنة الكُرد قديمة وذات عمر طويل. ومن حيث العمر الزمني، فإن هذه المحنة تدخل في مجال ‘الأركيولوجية‘ الإنسانية، بمعنى الحفريات في سيكولوجية الإنسان الكُردي عبر التأريخ. إن النتائج التي صدمت وتصدم المجاميع الكُردية، عبر التأريخ، هي دائما وأبدا تلك التي تتعلق بحواضر بيتها ودواخل نفوسها. ومن أهم هذه الحواضر والدواخل الذاتية للمجتمع الكُردي، هو النزعة الإنقسامية والميول الدائمة نحو التشرذم والعدوانية، تجاه بعضهم البعض. ومن أهم الفلاسفة الكُرد عبر التأريخ، يأتي أحمدي خاني، الذي شخص قبل حوالي أربعة قرون هذا الداء النكد في الهوية الكُردية المجتمعية والسياسية. فهذا الرجل إستطاع في بيان شعري معجز، أن يضع إصبعه على أسباب الفشل الكُردي، رغم تمتع هذا المجتمع بجميع المواصفات التي تؤهله أن يحقق النصر، ليس في نطاق جغرافيته فحسب، بل وفي نطاق ما يتعداها من جغرافيات مجاورة، اعتبرها خاني أقل شأنا بكثير من الشأن الكُردي من حيث الصفات والمواصفات التي يذكرها هو في ملحمته الشهيرة (مم وزين). وهذا الفيلسوف العبقري، الذي هو بمثابة هدية إلهية للأمة الكُردية، لا يكتفي بتشخيص الداء فقط، بل يطرح الدواء الذي هو في الواقع لا يبدو صعبا إذا ما استطاعت هذه المجاميع أن تتجاوز ما يمكن تسميته بالترهات النفسية التي تحول حجر عثرة أمامها، نحو بلوغ الأهداف الكبرى لها كأمة. فيقول خاني:
لو إتحد الكُرد جميعا واتفقوا
وانقادوا للوحدة ولم يختلفوا
لدخلت الأقوام في طاعتهم
وباتوا خدما في مملكتهم
ويقول في موضع آخر:
لو كان لنا مَلِكٌ مبجلُ
عالي الخصال لا وجلُ
لكانت رايتنا فوق الأكوان
يرنو إليها جميع الأوطان
لكنّ أميرنا المبجلُ تفاداني
لم يرَ في شعري جمال الأوزان
ظن أني واحدٌ من العوام
استجدي لدى بابه شيئا الطعام
وهكذا، يبدو أن المحنة الكُردية المتجذرة في المجتمع الكُردي هي التي صاغت شخصية خاني، قبل أن يصيغها هو في قالب ملحمي يتقطر وجعا وألماً، قد يكون السبب المباشر لموته في سن مبكرة، حيث وافاه الأجل وهو إبن خمس وخمسين عاما. لقد كان خاني يشعر بعمق حاجة المجتمع الكُردي إلى الإنقياد المطلق للوحدة، وحاجته الماسّة إلى جود أمير أو حاكم يحدو ركبهم ويترفع عن إنقاسماتهم وتشرذمهم، ويلملم خلافاتهم ويوحد كلمتهم، فيصبح بحق قائدا لهم يقودهم كأمة إلى هدفها العظيم.
في القرن العشرين، كانت لدى الكُرد مجموعة من قادة كبار، كل واحدٍ منهم كان بحق قائدا عظيما للأمة. ومن هؤلاء يأتي الشيخ سعيد بيران، والشيخ محمود الحفيد، والشيخ عبدالسلام بارزاني، وسمكو آغا شكاك، والقاضي محمد وملا مصطفى بارزاني. لذلك، حين أغتيل أو أعدم أي من هؤلاء القادة في أوقات مختلفة، لم تخلو ساحة الكُرد من قادة آخرين عظماء يسدون الفراغ، بل ظل الكُرد يرفدون بقادة عظام إلى الواجهة، وكان كل واحد منهم طودا عظيما. وكان جميعهم يحظى بإحترام وتقدير الكُرد في أرجاء المعمورة. اليوم اختلفت الأمور، حيث التشرذم الكُردي وإنقسامه شديد البأس، والعداوة بين بعضهم البعض بليغة الأمد. ولم يبق من قادة الكُرد التأريخيين من وزن أولئك العظام، إلا رجلٌ واحد، وهو مسعود بارزاني الذي يعيش عامه الخامس بعد السبعين من عمر. هذا الرجل في الواقع يتصف بكل ميزات القائد التأريخي، فهو شديد الحِلم والإتزان، وبعيد النظر، وقوي الشكيمة، وذو أخلاق رفيعة، وفوق هذا شجاع لا يخاف. لكن من سوء طالعه، فقد أبتلي هذا الرجل بشعبٍ شديد الإنحدار نحو التشرذم والإنقسام، وبحزبٍ هابطٍ غارق في الفساد، والأكثر سوءا بعائلة أمست اليوم متورطة في أوسع وأعمق أنواع الفساد الذي كان إلى عهد قريب ممنوعا (على مستوى التكوين البارزاني شديد المحافظة)، يعرض مرتكبه إلى الإعدام، وفق تراث هذه العائلة وقانونها العشائري المحافظ. فليس خافيا على أحد، كيف تورط أبناء عائلة بارزاني في جميع أنواع الموبقات والفساد الذي وصل مبلغا، يعجز أمامه مسعود بارزاني عن أي حل، وهو مستاء ومفجوع. في الواقع، لم يدرك معظمنا في وقت مبكر حجم آلام هذا الرجل الذي كان بحاجة إلى الدعم والإسناد، ليقوى على محاربة الفساد. فقد نصبت الأحزاب الكُردية عداءا ظالما للرجل الذي أصبح ضحية عائلته وحزبه، لأن كلاهما لم يكونا بمستوى مسعود بارزاني الذي بحق لا يريد هذا الفساد الذي ضرب إقليم كُردستان. لكن الفساد كان متجذرا في المجتمع منذ عام 1991، ونمى وترعرع في ظل الصراعات والحروب الداخلية بين الأحزاب الكُردية.
إلا أن محنة بارزاني الكبرى تكمن في وجود طبقة فاسدة حوله، لا يقدمون له إلا التقارير الخاطئة والمشورة الفاسدة، بغية تحريضه ودفعه نحو المواقف المضادة المطعمة بالعدوانية، تجاه المكونات والشخصيات الكُردية. إن بازار هذه الطبقة يبقى رائجاً، في ظل الإنقسامات والنزاعات الداخلية بين المكونات الكُردية. وعلى العكس فإن الإستقرار والسلم الداخلي يعرضها للإنكشاف والمساءلة، نظرا لتورطها في مسائل الفساد، كما أن المستوى الأكاديمي والعلمي لهذه الطبقة يعاني فقرا شديدا إن لم نقل الإنعدام، وفوق ذلك فهي تعاني العقل الصغير والحُلم التافه. فالتقارير التي تصل إلى مسعود بارزاني حول برهم صالح، هي التي عمقت الشرخ بين الرجلين، وفاقم في البرودة بينهما، وصب الزيت على نار العداوة التي تتململ تحت الرماد. لذلك فإن مسعود بارزاني قام وفق هذه المعطيات يقدم هوشيار زيباري مرشحا لرئاسة العراق، وهي خطوة خاطئة جدا لأسباب:
أولا: إن إقحام مسعود بارزاني في الصراعات الشخصية والحزبية، هي تقليل من مكانة الرجل كزعيم للشعب الكُردي، وهو يستحقها عن جدارة وإستحقاق.
ثانيا: إن دور مسعود بارزاني هو الترفع عن الإنقسامات المجتمعية والحزبية، وهو فوق ذلك القائد الجامع لجميع المكونات والذي تنتهي عنده الخصومات والنزاعات، بغية حل يليق بمكانته.
ثالثا: إن هوشيار زيباري كان طُرد قبل أعوام من الحكومة العراقية بسبب تورطه في الفساد. إن تقديمه كمرشح لرئاسة العراق تسئ إلى سمعة مسعود بارزاني، ويعطي إنطباعا عاما عنه أنه يدعم الفاسدين.
رابعا: إن برهم صالح رجل أكاديمي ومتزن، ويقدر بارزاني أن يستميله إلى جانبه عبر دعمه وإقامة حوار مباشر معه، بترفع عن صغائر الأمور والحساسيات الشخصية. ومن المفيد أن نستشهد هنا بحكمة بارزاني الأب، ملا مصطفى، أثناء ذهاب جلال طالباني إلى جانب الحكومة العراقية، منشقاً عن الحركة الكُردية، فما كان من بارزاني الأب إلا أن كتب إليه رسالة بليغة حكيمة استهلّ فيها خطابه لطالباني بآية قرانية (يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين). في الواقع، كان بارزاني الأب يتعامل بروحية الوالد مع الذين انفصلوا عنه، وما أحوج مسعود بارزاني اليوم إلى إقتفاء أثر هذه الحكمة في التعامل مع المكونات الكُردية، في وقت هناك إستياء عام ومعارضة كبيرة للعائلة البارزانية والحزب الديموقراطي الكُردستاني، بسبب سلطة جائرة وفاسدة منذ ثلاثين عاما.
إن المرحلة التاريخية المهمة، والمنعطف الحرج الذي يمر به الشعب الكُردي يستدعيان حكمة بالغة المرونة من مسعود بارزاني كزعيم وقائد، ينبغي أن يفكر في إصلاح جذري وعاجل للفساد والإنحرافات، وتأسيس ما يمكن العمل عليه من قبل خليفة له يقدر على الإبقاء على تراث العائلة الذي يتعرض للتشويه والتلف بإستمرار على يد أبناء العائلة نفسها. إن مسعود بارزاني قائد تأريخي وصاحب كاريزما سياسية. إن أبناؤه والأفراد ألاخرين من عائلته يفتقدون لهذه الصفة التأريخية والكاريزما السياسية. فما لم يدرك مسعود بارزاني إصلاح السفينة التي يقودها بسرعة قياسية، فإن عائلته تفتقد اليوم إلى من يملأ مكانه بعد غيابه في المستقبل. فما زال الكُرد جميعا، رغم الإستياء والنقد والنفور، يعتبرونه القائد الذي من الممكن أن تحل المشاكل على يديه، كمرجعية لاحظتُ إتفاق الكُرد عليها بمختلف إتجاهاتهم ومشاربهم.
فهل يقدر مسعود بارزاني أن يكون ذلك القائد الذي حَلُم به أحمدي خاني، وفلاسفة وعلماء وشعراء الكُرد عبر التأريخ؟[1]