الشعارات الرنانة وحق تقرير المصير: نظرة موضوعية
اكرم حسين
الحوار المتمدن-العدد: 8091
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
في عالم السياسة، تُعد الشعارات الرنانة وسيلة فعّالة لجذب الانتباه والتأثيّر على الرأي العام، إلا أنها قد تبتعد في بعض الأحيان عن الواقع الموضوعي ، وخاصة ، عندما يتعلق الأمر بحق الشعب الكردي في تقرير مصيره، فإن هذا الشعار يحتاج إلى مراجعة دقيقة ، وتناول للوقائع والظروف الموضوعية رغم أن هذا الحق مصان بالعهود والمواثيق الدولية ، وفي هذا السياق، نحتاج إلى تحليل مختلف جوانب قضية تقرير مصير الكرد بطريقة عقلانية ، بحيث تأخذ في اعتبارها الظروف الذاتية والموضوعية، وتدعو إلى حلول عملية تتناسب مع الواقع الحالي وميزان القوى الفعلي ، وتوزع الكرد بين أربعة دول لا تعترف حتى الآن بهم بشكل صريح وواضح في دساتيرها ، وتحاول صهرهم واذابتهم ، في إطار الاكثريات السائدة ....!
يشكّل حق الكرد في تقرير مصيرهم قضية ذات جذور تاريخية عميقة، حيث يصنف الكرد من الشعوب التي تطالب بحقوقها السياسية والثقافية منذ عدة قرون ، وينص هذا الحق على أن للشعوب الحق في تحديد مستقبلها السياسي، سواء بالاستقلال التام أو من خلال أشكال أخرى من الحكم الذاتي . هذا المبدأ يعكس أساساً من الأسس التي تقوم عليها مبادئ حقوق الإنسان ، وقد تم التأكيد عليه في العديد من الوثائق والمعاهدات الدولية ، ومع ذلك، فإن هذا الحق يجب أن يُفهم ضمن سياق أوسع يتضمن الاعتبارات السياسية والإقليمية المعقدة التي تحكم واقع المنطقة. فالمطالبة بحق تقرير المصير لا يمكن له أن يتحقق فقط ، من خلال شعارات رنانة ، بل يحتاج إلى استراتيجيات واقعية ، وميزان قوى يأخذ في الاعتبار الظروف المحلية والإقليمية والدولية المتغيرة على الأرض ، وموقف الدول والحكومات النافذة في هذا الشأن .
اذاً، الانتقال من الحق والمطالبات النظرية إلى الواقع ، يتطلب فهماً دقيقاً للوقائع الملموسة. فالشروط الذاتية تشمل إرادة الكرد أنفسهم ، وتماسكهم السياسي والاجتماعي، بينما الشروط الموضوعية تتعلق بالوضع الجغرافي والسياسي والاقتصادي للدول التي يتواجدون فيها. وفي كثير من الأحيان، يختلف الخطاب السياسي عن الواقع الفعلي؛ فالتجارب التاريخية تشير إلى أن التحولات الكبرى لا تحدث بسهولة، بل تتطلب توافقات داخلية وإقليمية ودولية .
من هنا ، تستقطب الشعارات الرنانة الكثير من الدعم العاطفي ، لكنها غالباً ما تبتعد عن الواقع العياني الذي تعيشه المناطق الكردية . فالعديد ممن يطالبون أو يروجون لحق تقرير مصير الكرد يعيشون خارج جغرافية كردستان، وقد يقتصر ارتباطهم بالمسألة على الدعم الإعلامي والشعارات ، دون الإلمام بالواقع المحلي ، والتحديات التي تواجهها المجتمعات الكردية في الأجزاء الأربعة . فهؤلاء بعيدون عن الصعوبات التي يعانيها الكرد بشكل يومي ، مثل السياسيات الجائرة ، والضغوطات الهائلة ، والوضع الأمني والسياسي والاقتصادي، الذي يحد بشكل مباشر من قدرة الكرد على تحقيق أهدافهم...!
لاشك أن المطالبة بدولة كردية مستقلة في سوريا هو أحد الشعارات التي تغوي الكرد ، وتثير اهتماماً واسعاً ، واعتقد لا يوجد كردي واحد لا يتمنى أن تقوم هذه الدولة ، ولكن من الضروري أن تُطرح حقوق الكرد ضمن إطار واقعي وقابل للتنفيذ. فتحقيق دولة مستقلة يتطلب أكثر من مجرد النوايا الطيبة والشعارات، بل يحتاج إلى استراتيجيات واضحة وآليات عملية يمكن تنفيذها ضمن السياق المحلي والإقليمي والدولي ، وخاصة في ظل رفض قاطع من حكومات سوريا وتركيا وإيران والعراق لأي شكل من أشكال الاستقلال الكردي سواء على صعيد جزء أو أكثر، والأمثلة كثيرة ..!
من يطالب بدولة كردية مستقلة يجب عليه أن يكون مستعدا للتعامل مع التحديات اللوجستية والسياسية التي يحتاجها هذا الشعار، وهذا يشمل اقناع القوى المحلية والإقليمية والدولية ، ومعالجة القضايا الأمنية، وتحقيق استقرار اقتصادي واجتماعي ضمن الدولة الجديدة ، والاخذ بعين الاعتبار التوازنات الجيوسياسية في المنطقة...!
تقتضي الطموحات الكبيرة مثل إنشاء دولة كردية مستقلة إعادة رسم الحدود الوطنية، وهذا ما قد يكون صعباً أو مستحيلاً في الظروف الحالية. لان هذا التغيير يتطلب توافقاً بين الدول المعنية، وقد يتعرض للمعارضة من دول أخرى لها مصالح استراتيجية في المنطقة.
في الوقت الحالي، تبدو فكرة إعادة رسم الحدود غير ممكنة ، في ظل التوازنات الإقليمية والدولية الحالية. لذا، فإن البحث عن حلول ضمن الإطار الحالي للدول قد يكون أكثر عملية. وهو يستدعي من الكرد أن يضغطوا على الدول التي يتواجدون فيها للحصول على حقوق أكبر مثل اللامركزية السياسية والحكم الذاتي الموسع ، دون الحاجة إلى إعادة رسم الحدود.
اعتقد ، في ظل المشهد الحالي، قد يكون الحل الأنسب هو أن يقرر الكرد مصيرهم داخل البلدان التي يعيشون فيها ، بدلاً من السعي وراء تغيير الحدود، والتركيز على الظفر بحقوقهم ضمن الأطر الحالية للدول ، وهذا يشمل الحكم الذاتي، تحسين التمثيل السياسي، ضمان حقوق الإنسان الأساسية .
هذه الحلول يمكن أن تعزّز الاستقرار وتحقّق الأهداف السياسية والقومية للكرد دون الحاجة إلى خلق توترات جديدة في المنطقة. بالتالي، فإن التركيز على الضغط أو التفاوض مع الحكومات المحلية والإقليمية قد يكون أكثر فعالية في تحقيق الأهداف المشروعة للكرد ضمن السياق الدولي القائم.
أخيراً، لابد أن تستند الدعوات المتعلقة بحق تقرير المصير إلى تحليل دقيق للواقع الملموس ، والظروف الذاتية والموضوعية. فالشعارات الرنانة ذات السقوف العالية قد تكون جذابة، وتثير العاطفة ، لكنها تتجاهل التحديات والصعوبات التي يواجهها الشعب الكردي في ظل أنظمة قمعية وبونابرتية ، تقتل شعبها ، وتفتك بهم لأتفه الأسباب ، وبالتالي فإن الحلول العملاتية التي تنطلق من فهم دقيق للواقع العياني ،هي الاكثر قابلية للحياة ، لتحقيق الأهداف القومية ، والطموحات المشروعة للشعب الكردي بطريقة سلمية ، بعيداً عن الحروب والدمار …![1]