القضية الكردية في تركيا: هل تبدأ مرحلة جديدة أم أنّ العجلة التاريخية مستمرّة؟ دليل زيلان
يجري الحديث عن تصريحات التحالف الفاشي بين حزبي العدالة والتنمية والحركة القومية بشكل لافتٍ مؤخراً، ويتساءل العديد حول ما إذا كانت الدولة بهذه التصريحات تبدأ مرحلة جديدة من الحل أم لا، ويعتبر البعض أنّ هذه التصريحات مجرّد حملة تكتيكية، لكننا نرى أنّ القضية الكردية في تركيا ومكانة هذه القضية في سياسات الدولة كقضية تاريخية وجوهرية، لا تقتصر على التصريحات اليومية، لذا سنحاول في هذا المقال تقييم الجذور التاريخية للسياسة الكردية في تركيا وتأثيراتها على الوضع الحالي.
كانت الفترة الأخيرة للإمبراطورية العثمانية فترة انهيار ودمار كبيرين تحت تأثير الديناميكيات الداخلية والخارجية، ونظراً لأنّ الإمبراطورية فقدت قوتها، اجتمعت المجتمعات العرقية والدينية المختلفة وظهرت دول جديدة، وخلال تلك الفترة، تأسّست الجمهورية التركية على أنقاض الإمبراطورية العثمانية، وعزّزتها ثورة تشرين الأول والكرد، لكنهم تجاهلوا تحالفات أو مطالب الشعب الكردي وباقي المكونات والجماعات بهدف بناء دولة قومية جديدة، وأدارت تركيا ظهرها لأكبر حلفائها وهو الاتحاد السوفيتي.
قرّرت الكوادر التي أسّست الجمهورية التركية على أنقاض العثمانيين عدم إشراك الكرد في عملية بناء الجمهورية والاستمرار بهذا الشكل، ويُعدّ هذا خطأ فادحاً في تاريخ الجمهورية التركية، فخلال مرحلة حرب التحرير كان الكرد يُعدّون من المؤسسين الرئيسيين للدولة، لكنّهم استُبعدوا بعد بناء الجمهورية، وبدلاً من أن يمنح النظام الجديد للكرد حقوقهم الثقافية والسياسية، انتهج سياسات الإمحاء والقمع ووضع هيكل دولة قومية أحادية، وتجاهلوا كيان الكرد في معاهدة لوزان أيضاً، وهذا ما أدّى إلى تعمّق القضية الكردية في تركيا وتحوّلها إلى قضية دولية.
الأيديولوجية الأحادية للجمهورية واستبعاد الكرد
ترتكز الأيديولوجية الرسمية للجمهورية التركية على عبارة شعب واحد، علم واحد، لغة واحدة، لقد وضعت هذه الأيديولوجية الهوية الكردية في المركز وتجاهلت مطالب المجموعات العرقية الأخرى، لقد تجاهلوا خلال هذه المرحلة الهويات العرقية والدينية الأخرى ولا سيما الكرد، لذا أصبح تاريخ الجمهورية أشبه بعملية إبادة مستمرّة حتى اليوم لجميع الاختلافات والمكونات ولا سيما الكرد.
بدأت العديد من عمليات المقاومة ضدّ هجمات الإبادة التي جاءت خلال سنوات تأسيس الجمهورية، لكنّها انتهت بالمجازر، وسبّب ذلك بصدمة كبيرة للكرد، وانتفاضة الشيخ سعيد عام 1925 والمجازر التي وقعت في أغري، ديرسم وزيلان هي الأمثلة الأبرز على محاولات قمع المطالب السياسية والاجتماعية للكرد، لقد عمّقت سياسات القمع التي انتهجتها الدولة خلال تلك المرحلة القضية الكردية أكثر وتسبّبت في بدء دوران عجلة الحرب والصراع عبر تاريخ تركيا.
كانت أيديولوجية الدولة القومية تسعى جاهدةً إلى جمع قسم كبير من الشعب تحت سقف الشعب الواحد وحاولت إظهار نفسها كدولة قوية بناءً على هذا الشعار، كانت شعارات ليكن العالم أجمع فداءً لتركيا والدولة القوية تحفّز القوميين وكانوا يخفون نهج الدولة في عدم حل القضية الكردية خلف هذه الشعارات.
لكن لم تحقّق سياسات الإبادة والإنكار هذه مآربها في نظر الشعب الكردي قط، ومن ناحية أخرى، واصل أولئك الذين نشأوا على العصبية القومية التركية دعمهم لسياسات الدولة هذه، وعلى وجه الخصوص، أدّى إنشاء نظام التعليم بإيديولوجيةٍ قومية، إلى ترسّخ هذا النهج في المجتمع واعتبار سياسات الدولة مشروعة.
المقاومة الكردية وإفلاس سياسات الدولة
بدأت حركة التحرّر الكردستانية تنظيم صفوفها على الصعيدين السياسي والاجتماعي بشكل أكبر منذ عام 1973، وأثار ظهور حركة التحرّر الكردستانية الجدل حول سياسات القمع التركية بحقّ الكرد، وبدأ حزب العمال الكردستاني الكفاح المسلّح عام 1984، مما أظهر إفلاس سياسات الدولة ضدّ الكرد، وأدّى التدخل العسكري للدولة والتعامل الأمني مع القضية الكردية إلى تعميق القضية الكردية بدلاً من حلّها.
وحظي النضال الذي بدأه القائد عبد الله أوجلان في سبيل الحرية، بدعم واسع في أجزاء كردستان الأربعة وفي تركيا وعلى الساحة الدولية أيضاً، وعندما اعتُقل القائد عبد الله أوجلان وتمّ إحضاره إلى تركيا بمؤامرة دوليّة في عام 1999، واعتبار الدولة لهذا الحدث انتصاراً، لم يتراجع الشعب الكردي خطوة واحدة في نضاله، وأجرى القائد عبد الله أوجلان محادثات من أجل السلام وقدّم اقتراحات من أجل الحل من داخل سجن إمرالي، وأدّى هذا إلى ظهور احتمال آخر بأنّ الدولة ستتعامل مع القضية الكردية بأسلوب آخر، لكنّ هذه العمليات لم تسفر عن نتائج لفترة طويلة.
وخاصة عندما نلتفت إلى تصريحات الدولة الأخيرة، نرى أنّ اعترافاتهم بالهزيمة أمام القائد عبد الله أوجلان وحركة التحرّر الكردستانية تدلّ على فشل سياسات الدولة حيال حركة التحرّر الكردستانية، إنّهم باعترافاتهم هذه يعترفون أيضاً بأنّ سياسات القمع والإمحاء التي انتهجتها تركيا ضدّ الشعب الكردي طويلاً لم تنجح.
محاولة الدولة إنقاذ نفسها
تهدف التصريحات الأخيرة لمسؤولي الدولة إلى خلق توقعات وآمال جديدة لدى الرأي العام بإمكانية انطلاق جولة جديدة للحل، لكن هذا لا يعني حدوث تغيير جوهري في السياسات التركية حيال الكرد، بل على العكس، يبدو أنّ الدولة اعتمدت نهجاً تكتيكياً لحماية مصالحها، تواصل تركيا الضغط العسكري والسياسي على حركة التحرّر الكردستانية، ومن جهة أخرى، تعبّر عن استيائها من موقف القوى الدولية من الكرد.
ويزيد الوضع الحالي في سوريا من احتمالية شنّ تركيا لعملية عسكرية جديدة على روج آفا، فتركيا تعتبر روج آفا تهديداً لها نظراً لأّنها منطقة إدارة ذاتية ديمقراطية الكرد، ترى تركيا هذه المنطقة خطراً كبيراً على أمن حدودها وسياستها الداخلية، ولا سيما أنّ التطورات في سوريا تدفع تركيا إلى اتّخاذ خطوات أكثر عدوانية في القضية الكردية.
أمام الكرد طريقان رئيسيان في هذا المرحلة، إمّا أن يصبحوا جزءاً من نظام الهيمنة المركزية بالتعاون مع القوى الدولية، وإمّا أن يواصلوا نضالهم في سبيل الحرية والديمقراطية ويواصلوا طريقهم في نموذج الأمة الديمقراطية، ولهذا ينبغي رؤية أنّ مشروع الأمة الديمقراطية للقائد عبد الله أوجلان هو السبيل المناسب الوحيد لحرية الشعوب.
إنّ نموذج الأمة الديمقراطية للقائد عبد الله أوجلان يريد أن يشارك الكرد في هيكل سياسي أوسع، دون أن يظلّوا عالقين في هوياتهم العرقية والقومية، ومن المطلوب في هذا النموذج، أن يجتمع الكرد على أساس القيم الديمقراطية وليس على أساس هويتهم فقط، ويبنوا مستقبلاً مشتركاً مع باقي شعوب المنطقة، لذا فإنّ هذا النموذج يقف أمامنا كحل رئيسي وعالمي، فهو ينقذنا من فخ الحداثة الرأسمالية وذراعها الدولة القومية.
وفي هذا السياق، ستلعب المقاومة الكردية المنظمة، دوراً حاسماً في التوازنات الدولية والإقليمية، وبشكل طبيعي ستكون الاستراتيجية التي سيتبعها الكرد في هذه المرحلة مهمةً جداً بالنسبة لمستقبل المنطقة.
[1]