الحرب السورية الأخيرة.. الحرب السورية الأولى
بعد عاصفة سقوط نظام الحكم في دمشق من الضروري التذكير بعدد من الحقائق التاريخية والمحطات السياسية المفصلية التي ساهمت في تكوين سوريا الحديثة. أولها أنه لم يكن هنالك أي كيان سياسي باسم سوريا بحدودها الراهنة أو قريبة من هذه المساحة قبل الحرب العالمية الأولى والانتداب الفرنسي على سوريا. كانت هنالك مسميات لأقاليم جغرافية بهذا الاسم، لكنها لم تكن كيانات سياسية ذات ثقل ديمغرافي، لأن المجتمعات السورية القديمة عانت من الحروب والهجرات، ومن التبعية، حتى انكمشت في ظل تسلط الإمبراطوريات المجاورة كاليونانية / الاغريقية والايرانية منذ القرن السابع قبل الميلاد.
ولا نود العودة إلى مرحلة أقدم من هذا التاريخ لعدم الجدوى السياسية والعلمية. ثم عانت المجتمعات في هذه المنطقة بدرجة أو أخرى من الاضطهاد الروماني والبيزنطي تالياً، بحيث استطال زمن الحروب فيها، وزادت عن فترات السلم. عرفت أغلب مناطق سوريا الحالية ببلاد الشام في المرحلة الاسلامية. حظيت مجتمعاتها بحرية واستقرار نسبيين، كونها كانت تدين بالمسيحية كمعتقد لغالبية السكان حتى أواخر العهد العباسي، وذلك بحسب معظم المصادر الاسلامية، لكنها تعرضت للاضطهاد واستثمر الدين من قبل الحكام المحليين وسادتهم في العواصم البعيدة، وكذلك الغزاة. حتى تخربت هياكل بلاد الشام الاجتماعية والديمغرافية نتيجة لحروب الافرنج.
ما نود ايصاله كمعرفة تاريخية مختزلة تشكل مدخلاً للتعرف على ملامح تكوين سوريا وسياقات تطورها السياسي، لأن الأحداث الراهنة تعد امتداداً للماضي، واعادة انتاج له. لدرجة أن تكوين سوريا المعاصر لم يشذ عن القاعدة، فقد ساهمت الحروب في صياغة بنيتها، وبدأت ولادتها بالحرب التي سميت (بالثورة العربية)، التي كانت في الجوهر حركة مسلحة بقيادة الضباط العثمانيين العرب تحت راية فيصل بن الشريف حسين ضد السلطنة العثمانية، وتحالفاً مع الانكليز في الوقت نفسه. بصرف النظر عن دلالات هذه الحرب ورمزيتها، فقد كانت حرباً بقيادة أسرة حجازية من خارج سوريا، واشارة صريحة الى عدم قدرة المجتمع السوري عهدئذ في تشكيل قيادة مدنية موحدة وقوية للتحدث باسم مجتمعاتها لنيل الاستقلال والسيادة.
وعلى الرغم من الخلاف في منهج كتابة تاريخ سوريا المعاصر، لكن يظل هنالك توافق على ان الجانب المدني والسياسي والوحدة المجتمعية لعموم المناطق السورية كانت شبه غائبة، وإن تحققت نسبياً في مواجهة الاحتلال - الانتداب الفرنسي لفترة قصيرة، فقد ترافقت هذه المقاومة مع سجال طويل ذات علاقة بعدة مسائل جوهرية كالهوية السورية الجامعة، والانتقال من الحكومات المحلية إلى حكومة مركزية في دمشق. إذ كانت دمشق عاصمة لسوريا خلال سنوات (1918 – 1920)، ثم اصبحت حلب عاصمة لثلاث فدراليات، هي دويلات: دمشق وحلب والعلويين خلال سنوات (1920 -1922).
لكن من المؤكد أن الاتفاق بين بريطانيا وحكومة تركيا الكمالية، ساهمت مع خبرة ومرونة الرئيس شكري القوتلي (1891 -1967) في تثبيت خارطة سوريا ولبنان على الشكل الراهن، ولولا تعاون تيارات سياسية وشخصيات مؤثرة في مناطق شرقي الفرات مع الرئيس القوتلي، لما انتهت الحرب في الجزيرة بين المنتفضين والشرطة التابعين لحكومة دمشق. تلك الانتفاضة المطالبة بالاستقلال/ الحكم الذاتي التي استمرت بين سنوات (1933 – 1946). بمعنى كان من الصعب انضمام مناطق شرق الفرات أرضاً ومجتمعاً الى دولة سوريا المعاصرة بعد جلاء القوات الفرنسية والبريطانية سنة 1946، لولا الايمان بالمشتركات المجتمعية والسعي لشراكة وطنية سياسية.
جدير بالتذكر أن الحياة السياسية في سوريا بعد الاستقلال كانت أيضاً سلسلة من الحروب الخارجية والداخلية. اشتعلت حرب فلسطين سنة 1948، ومنها اشتقت الحروب الداخلية على السلطة. حيث تصارع العسكر على السلطة واختلفوا على طرائق التسليح، فضلاً عن التغني بالقضية المصيرية وهي استرجاع فلسطين. بحيث تجسدت الخلافات في الصراعات الداخلية ضمن أجنحة الجيش، وتفجرت بدءاً بانقلاب الضابط الكوردي حسني الزعيم سنة 1949 واستيلائه على السلطة في دمشق عبر أول انقلاب عسكري. مع حركته، وفي عهده تفاقم الصراع العنيف على السلطة، واصطبغت بألوان قومية وطائفية وجهوية سورية. ولم تمر عدة أشهر حتى تم الانقلاب على الزعيم أيضاً، واعدم مباشرة مع رئيس الوزراء، الشخصية المدنية الدكتور في القانون محسن البرازي، وكانا من وجهاء مدينة حماه.
لقد كان الحدث دموياً وذات خلفية سياسة وصراعية قومية لدرجة أن اعلنت بعض صحف دمشق يومها: (عن نهاية الحكم الكوردي في دمشق). وبهذه المناسبة، ومع احترامنا لكل الآراء والمجاملات التي تصف تاريخ سوريا على أنها مسيرة من الوفاق والمحبة والوئام، لكننا نرجح حقيقة أن الصراعات السياسية كانت مستعرة بين النخب الحاكمة على خلفيات قومية وطائفية ومناطقية منذ الأيام الأولى للاستقلال، وحتى قبلها. واستمرت حتى وصول حافظ الأسد للحكم سنة 1970، الذي أضفى على العنف السياسي الداخلي وحروبها بعداً أشد خطورة، وصولاً الى الحكم المطلق، عن طريق ممارسة الاعدامات ضد خصومه والاستئثار التام بالسطلة والموارد الوطنية. حتى توحشت أجهزة القمع الذي وسعها وضخمها لتشوه المجتمع السوري وتفترسه في الوقت نفسه. وبعد موته ورثه ابنه بشار سنة 2000 بدعم صريح من الولايات المتحدة الأمريكية (اذ عبرت عن موقفها ورغبتها الصريحة في انتقال سلس للسلطة من الأب إلى الابن). إلى ان حدثت انعطافه وتطور خطير آخر على مسار الحرب الداخلية السورية التي كانت كامنة تحت الرماد، وتفجرت نتيجة قهر المجتمعات السورية وكاستجابة لمتغيرات الربيع العربي، فضلاً عن التدخلات والصراعات الخارجية بعد سنة 2011.
على الرغم من دموية الصراع ووحشية القمع وطول مدتها، لم تتمكن القوى المعارضة العسكرية منها والمدنية من حسم المعركة والتغلب على نظام الحكم إلا في الأيام الأخيرة. فقد حسمت المعركة التي قادتها هيئة تحرير الشام مع حلفائها في (ادارة العمليات العسكرية تحت عنوان ردع العدوان) بدءاً بيوم 26 تشرين الثاني، حتى أسقاط النظام وهزيمة قادته فجر يوم 8 كانون الأول 2024 الجاري. لقد اندهش العالم بأسره من هذه النتيجة السريعة والحاسمة للمعركة، وبات الكثير من المراقبين يميلون إلى اعتبارها الحلقة الأخيرة في الحرب السورية المستمرة منذ عشرات السنين. فهل هم على صواب؟ وهل سيتحقق ذلك؟ ما درجة نجاح فتح صفحة جديدة للسلم الأهلي والتأسيس لنظام مدني؟ هذه هي الأسئلة الملحة اليوم التي ينطق بها كل سوري من ضمن قائمة عشرات الأسئلة.
مهما يكن، وقبل المساهمة في الاجابة وكتقييم أولي، فإن ميزة هذه المعركة الخاطفة تكمن في أنها منجز سياسي كبير قل نظيره في تاريخ سوريا المعاصر. وبصرف النظر عن الملابسات، ودرجة رعاية أطراف عديدة لعملية انتقال السلطة، والسعي لخلق أرضية للتفاهم بين القوى الفاعلة داخل سوريا، ولمنع تدخل دول الجوار. فإن التخوف مازال يحيط بعملية الانتقال السياسي بقيادة (هتش) وحكومتها التي شُكِلت على عجل برئاسة محمد البشير.
المهم بالنسبة للقارئ بعين السياسية المتأنية، ولمن يقارب الحدث الجلل بعقلية مركبة وديناميكية فإن هذا التغيير قد حدث كثمرة لتراكم نضالات سياسية خلال نصف قرن، وكنتيجة لعمل دؤوب لأجيال من مناضلي سوريا الذين ضحوا بالغالي والنفيس، بالأرواح والمال في سبيل تغيير هذا النظام الاستبدادي. والمهم أيضاً أن يتم تقيم عملية اجتثاث النظام الاستبدادي من ركائزه تقييما موضوعياً، يلامس أهميته السياسية الاستثنائية. كما ينبغي تفهم السمة المرحلية لاستلام (هتش) وحلفاؤها بقيادة أحمد الشرع للسلطة، حيث يتلخص نجاحها في أنهاء أحد أسوأ الأنظمة العسكرية الاستبدادية الشوفينية والطائفية في المنطقة والعالم. لكن يبقى التساؤل المشروع في قدرة السلطة الجديدة في الوقت نفسه على انهاء الحروب السورية وزراعة بذور السلم الأهلي. وهل ستكون هذه المعركة حقاً خاتمة الحروب السورية أم بداية لسلسلة من الحروب الجديدة؟.
لاشك أن المرحلة الانتقالية شديدة التعقيد، والمأساة السورية ليس لها مثيل في العالم. لذلك النجاح في انهاء الحروب السورية يتطلب الارتكاز على ثوابت مجربة كسيادة القانون، واحترام خصوصية وتنوع المجتمعات المحلية، والعمل على تأمين حقوقها بما فيه حق الحكم نفسها بنفسها، فضلاً عن اطلاق الحريات العامة وصيانة حقوق الانسان. ومن الصعب تحقيق ذلك راهناً، إلا في حال تشكيل قيادة المرحلة الانتقالية من نخب وطنية نصفهم حكماء والنصف الآخر ملائكة، بمعنى ضرورة أن تجتمع الخبرات الوطنية الصادقة مع النخب السياسية النظيفة والنبيلة والمترفعة عن حالات الاصطفاف الحاد والكراهية. وهم متوافرون بكثرة في المجتمعات السورية. غير ذلك، فالبوصلة تشير إلى أن معركة اسقاط السلطة في دمشق تشكل الحرب السورية الأولى على درب اضطراب طويل يدمر ما تبقى من البلد، ويهجر القسم الآخر من المجتمع. ستكون بداية لصراعات داخلية لن تنتهي إلا بخراب البلد كليا، ليتحول الى أرض جرداء وربما تحقق نسبياً مقولة: أرض بلا شعب.[1]