حاورته/ رشا علي
صوته ذاكرة للتاريخ، وفنه مرآة لما عاشه ويعيشه الكرد من أفراح وأحلام وثورات وخيبات، غنى فأطرب الجميع وأحبه الكبير والصغير، احتل مكاناً في قلوب الكرد في أرجاء كردستان، كل بلاد الكرد أوطانه والوطن يسكنه، اشتهر بغنائه لقصائد الشاعر الكلاسيكي ملاي جزيري، ومن أشهرها أغنية (صباح الخير خانامن). ورغبةً في التعرف عليه أكثر وعن قرب كان لنا معه هذا الحوار:
إن قلّبنا في أوراق السيرة الذاتية للفنان زبير صالح؛ ماذا سنقرأ؟
في السيرة الذاتية لزبير صالح؛ الورقة الأولى تقول أنني من مواليد عام 1965 في قرية “دليكي” وهي إحدى قرى التابعة لمدينة درباسية في روج آفا, أنحدر من عائلة فنية، أبي كان يجيد العزف والغناء, وأمي كانت تعزف في بعض الأوقات على البزق, وإخوتي كذلك، ترعرعت بين الآلات الموسيقية وألحانها, وانتقلت كثيراً بين مدن روج آفا، وأقمت أخيراً في مدينة الحسكة، وكنت أبلغ حينها 13 سنة, في ذلك الوقت كان عدد الفنانين الكرد في مدينة الحسكة قليلاً بالنسبة لعددهم في مدينة عامودا وقامشلو, عندما بدأت مشواري الفني في الحسكة شهدت تشجيعاً من أصدقائي وترحيباً من الأهالي، والبعض منهم وصفوني بخليفة سعيد يوسف في العزف على البزق, وأحييت الكثير من حفلات الأعراس في المدينة, وبدأت في سن مبكرة بغناء الأغاني الخاصة بي، بسبب تأثري بغناء العمالقة، محمد شيخو وسعيد يوسف وبعض فناني تلك الحقبة, اشتهرت كثيراً في مدينة الحسكة, وأصدرت 17 كاسيتاً في الوطن بالإضافة إلى الكثير من الأغاني, وهاجرت إلى ألمانيا عام 2000م.
– للفن عموماً والغناء خصوصاً سحره الجذاب، ما الذي شدك إلى هذا العالم؟ وكيف وجدته؟
الشيء الذي جذبني إلى الموسيقى وجعلني أعشقها كانت عائلتي, لأن الطفل الذي يولد في عائلة فنية ويسمع الأغاني والموسيقى قبل أن يولد لن يستطيع الابتعاد عنها, وأنا ولدت مع أنغام الأوتار والأصوات الجميلة, عالم الفن والغناء غريب وحساس للغاية، الموسيقى والغناء لها خاصيتها وتعتمد على الإبداع, والفنان الصادق من يشعر بمعاناة وألم شعبه ويتغنى بجمال وحب الوطن, وعندما يصل إلى الشهرة يكون قد مر بمآسي كثيرة وقدم التضحيات.
– مسيرة الفن كثيراً ما تكون محفوفة بالمعارضين والمشجعين، ماذا تحدثنا عن هذا الجانب؟
هناك بعض الأشخاص من شعبنا يشجعون الفن والفنانين ويقدرون عملهم وتضحياتهم، عندما يسمعون إحدى أغانينا القديمة يعيدهم الحنين للماضي ويقولون بأنهم “كبروا” على أغانينا، وهناك البعض الآخر ينظرون إلى الفن نظرة استهزاء وإلى الفنان نظرة دونية، هذا الفنان الذي حافظ على اللغة والثقافة والتراث وأحياها، غنى بآهات وأوجاع شعبه، فرح لأفراحهم وحزن لأحزانهم، علماً أنه ثمة الكثير من الوسائل الإعلامية الكردية المسموعة والمقروءة والمرئية ولكن لم يصل المتلقي إلى الوعي اللازم من ناحية تقدير الفن والفنانين ودورهم في المجتمع وخدمتهم لوطنهم وشعبهم، في بلادنا دفع الفنانون الحقيقيون الكثير من الضرائب بسبب نظرة المجتمع لهم وإنكار ما قدموه من خدمات وتضحيات، فمن أبسط الأمور ومن أجل أن تتعلم اللغة الكردية الأصيلة عليك أن تستمع إلى الأغاني الكردية الكلاسيكية، لكن للأسف لم يدرك شعبنا حتى اليوم بأن الفن هو مرآة المجتمع.
طريق الفن محفوف بالمصاعب التي قد تحد من عطاء أي فنان، وتنال من عزيمته، ما الصعوبات التي وقفت في طريق الفنان زبير صالح, وهل تجاوزها؟ وكيف؟
عندما كنت في الوطن واجهت الكثير من الصعوبات والعراقيل ومنها نظرة المجتمع للفنانين وعدم تقديرهم له، تألمت كثيراً لأنهم كانوا ينظرون إلى الفن كشيء معيب, وأنا شخصياً تعرضت لصعوبات كثيرة من المجتمع، في زمن كان يعاملنا الكثير معاملة سيئة ولا يسمحون حتى لأطفالهم أن يتكلموا مع أطفالنا أو مرافقتهم, ولكني واجهت تلك الصعوبات ولم أستسلم ولم أتوقف عن السير في هذا الطريق وتابعت عملي، ولم نندم أنا وعائلتي، أنا والكثير من الفنانين كمحمد شيخو وسعيد كاباري وسعيد يوسف سرنا في طريق الفن، وكسرنا تلك القيود وقررنا أن نعمل من أجل تطوير المجتمع وأن يتقبل الشعب ما نقدمه ويقدره، واستطعنا أن نزرع حب الفن في قلوب وعقول الكثيرين, في البداية كان بعض الأشخاص يستهزئون بموهبتي ولكن اليوم يقفون احتراماً لموهبتي وغنائي.
– تشهد روج آفا ثورة فنية ثقافية في العقد الأخير، كيف ترون ذلك؟
تطور الفن في السنوات الأخيرة في روج آفا, وبدأت الثورة الفنية, ولكن ليس كل ما يظهر على الساحة يرتقي إلى المستوى المطلوب, فمع ظهور أغنية جميلة ولائقة تظهر المئات من الأغاني الركيكة التي لا تمت للفن بأية صلة, وهنا تتكون نظرة غير جيدة عن الفن الكردي، وهناك من يشوهها؛ بل إن هناك من يضيف لأغنيات غيره أو يبدل فيها عدة كلمات وينسبها لنفسه، وهذا عمل لا أخلاقي فنياً، والمشكلة الأكبر أن الشعب يتقبل ذلك، وهنا تتأكد من أنهم أفسدوا الذوق العام للأغاني النقية.
روج آفا صغيرة ولكنها أخرجت الكثير من الفنانين الذين نشروا الفن في جميع أجزاء كردستان, خرج منها المئات من الشعراء والفنانين والكتاب والمثقفين أمثال محمد شيخو ومحمد علي شاكر وسعيد كاباري وغيرهم الكثير، بنوا خزينة كبيرة ومليئة بالعطاء والإبداع, فنانو باكور كردستان غنوا الكثير من أغانينا، وهذا يدل على أن الفن في روج آفا أصيل وأن كلماتنا حافظت على نقائها، ومشاعرنا صادقة ورقيقة وجميلة، ونعالج همومنا وآلامنا بالفن، نغني عن الأم وعن مناضلينا ووطننا ومحبوبتنا, فهذا يدل أن الفن هنا كسر الحدود ودخل أجزاء كردستان الأربعة.
– الخصوصية في الحضور الفني، كأداء وإمكانات صوت، ما مدى تأثيرها على شعبية وانتشار الفن؟
الخصوصية في الفن مهمة جداً، ولكل فنان عطر خاص به، بمعنى أن تذهب إلى حقل الزهور وتجد أن ألوانها جميعاً متشابهة وروائحها مختلفة، فلا يوجد فنان ليس له خصوصية، فمثلاً النمط أو اللون الذي غنى به محمد شيخو يختلف عن النمط الذي غنى به آرام تيكران، وزبير صالح له أسلوب ولون خاص وسعيد كاباري له أسلوب ولون آخر، ولكل فنان لحن وأحاسيس ومشاعر يختلف بها عن فنان آخر، ويميزه، فالكلمات والأشعار والصوت تتباين وتتمايز، ولكل واحد حقله الخاص به، وليس كل من حمل آلة موسيقية أصبح فناناً.
– الغربة ملهمة وبيت وجع الكثيرين، كيف تجلت في فنك وعطائك؟
هو البعد عن وطنك وعائلتك ومدينتك والجيران والأخوات والأصدقاء وتراب وهواء الوطن، فكل شهقة في الوطن لا تقدر بثمن، ولكن المشكلة تكمن عندما تكون في الوطن أسيراً، أثرت الغربة على مشواري الفني بشكل إيجابي، في الوطن غنيت وفي الغربة واصلت طريق الفن وغنيت لعموم كردستان، المهم أن أواصل العطاء في غربتي بل طورته، تلقيت دعوات للحضور والمشاركة في مهرجانات دولية، تنقلت بين الكثير من الدول العربية والأوروبية وعملت على نشر فني بين الشعوب، صقلت موهبتي في الغربة رغم أنني عانيت في بداية اغترابي، حصلت على الجنسية الألمانية ولكني مرتبط بأرضي ووطني الذي ولدت فيه، هنا ألتزم بقوانينهم وقوانين مجتمعهم ولكن لم يؤثر ذلك على عملي الفني، وألفت هنا أكثر من 350 أغنية.
– هل استطاع زبير صالح تعريف العالم على التراث والفن الكردي من خلال صوته وعزفه المنفرد؟
أذكر أنني عزفت عدة مقامات موسيقية كعزف منفرد، ونشرتها عبر مواقع التواصل، شُوهدت لأكثر من مليون مرة، وتلقيت آلاف الرسائل من كثير من البلدان والعازفين للتواصل والتعارف، وانتشرت المعزوفات في العديد من الدول وسمعت فيها وما زالت، وهنا في ألمانيا الكثير من المنظمات الثقافية والإنسانية تواصلوا معي وانضممت معهم إلى الندوات والحفلات كفنان كردي، الموسيقى لغة العالم ولا تحتاج إلى الترجمة. للمفارقة؛ عند عودتي من إقليم تاتا وبعد انتهاء المهرجان, نشرت على صفحتي في الفيس بوك بأنني حضرت مهرجاناً حضره العديد من الفنانين العالميين، وعرفتهم بالموسيقى الكردية وحضرت كفنان كردي يعزف موسيقا كردستانية وعزفت الأغاني الكردية القومية ورفعنا علم كردستان في المهرجان، ولكن لم يتواصل معي الإعلام الكردي أو أي قناة كردية حول مشاركتي في المهرجان.
– ما هي الأغاني الأقرب إليك والتي تعيد غناءها كثيراً؟
كل أغنية تولد تحت فكر أو تأثير معين، لا يوجد لدي فرق بين أي أغنية وأخرى، ولكن طلب الجمهور وتذوقه يكرر الأغنية، فمثلاً أغنية “دايي” التي غنيتها في وداع أخي الذي اغتاله النظام السوري ولفظ أنفاسه الأخيرة بين يدي طلبها الجمهور كثيراً، وكان لها تأثير كبير على المجتمع وعلي أيضاً، استمع إليها أجزاء كردستان الأربعة، وأغنية “صباح الخير” كانت من قصائد ملاي جزيري وألحاني، وجرى حولها الكثير من النقاشات والحوارات وغناها الكثير، وكليب الأغنية تم بثه على القنوات الإيرانية والأفغانية والسورية الرسمية، فأصبحت أغنية صباح الخير كهوية يعرفني بها الناس، وهناك العديد من الأغاني التي أعددتها وهي من قصائد ملاي جزيري وسيحبها الناس وتصل لمستوى أغنية صباح الخير.
– كلمة أخيرة تختتم بها هذا الحديث؟
وأخيراً أريد القول رحم الله الفنان “آرام تيكران” فعندما سألوه أي لقب تريد أن نلقبك به، الفنان الكردي أم الفنان الأرمني؟ فقال أحب أن ألقب بالفنان الأرمني وأنا حي، لأن الأرمن يحبون ويقدرون الفنانين وهم أحياء، والفنان الكردي بعد موتي، لأن الكرد يقدرون ويحبون الفنانين بعد موتهم. وهو كان محقاً في ذلك، هنا في ألمانيا نجد تقديراً لكبار السن، لأنهم هم من بنوا ألمانيا بعد دمارها في الحرب, ولا يفرقون بين الشباب وكبار السن, نحن أيضاً يجب ألا نهمل الفنانين القدماء لأنهم حافظوا على لغتنا وتاريخنا، فنحن لا نكره الفنانين الجدد ولكن القدماء أمثال محمد شيخو وآرام تيكران وسعيد يوسف وزبير صالح ومحمد علي شاكر هم من صنعوا الفنانين الجدد ومهدوا لهم الطريق، وكلمتي الأخيرة أن من لم يستطع الحفاظ على الفنانين القدماء لن يستطيع الحفاظ على التاريخ, ولكم جزيل الشكر لإتاحة الفرصة لي لكي أتحدث عن آلامي ومشواري الفني وأحلامي.[1]