رستم عبدو
يعتبر اكتشاف الزراعة ثورة حقيقيّة خلال العصر الحجري الحديث وهو يمثل مرحلة انتقال الإنسان من الصيد والجمع إلى مرحلة إنتاج الطعام، والتي ظهرت لأول مرة في أعالي بلاد الرافدين, حيث يقول بريد وود: «إن الانتقال من حياة الصيد إلى حياة الزراعة حدث في كردستان», كان هذا الانتقال يتطلب جهود بشرية كبيرة من ناحية وكذلك الارتباط برقعة معينة من الأرض من ناحية ثانية. الأمر الذي جلب معه تشكل أولى القرى الزراعية وزيادة النسل والاستقرار الدائم بعد أن كان الاستقرار موسميّاً.
تمثل قرية «جرمو» أقدم القرى الزراعيّة, وقد تأسست عندما أصبحت الزراعة وتدجين الحيوان عماد الإنسان, وإن كان في البداية يقتصر على الاكتفاء الذاتي, بمعنى كان على كل عائلة أن تزرع وتنتج بنفسها وكذلك تصنع الأدوات البدائية الخاصة بها. وهذه التحول الاقتصادي حمل جنين التطورات التي حصلت تدريجياً في القرى التي تأسست لاحقاً.
تقع جرمو (نسبة إلى قرية جرمو الحديثة) في الطرف الشرقي من سهل جمجمال على حافة وادي عميق وعلى بعد 35 كم شرق مدينة كركوك في جنوب كردستان.
تعتبر أقدم قرية زراعية مكتشفة حتى الآن, إذ تعود بداية الاستيطان فيها إلى حوالي 6750 ق.م. وتبلغ مساحتها حوالي 1,5 هكتار وارتفاعها عن السهل المجاور تقريبا 8 م وكانت مكونة من ستة عشر طبقة أثرية. قُدر عدد سكانها آنذاك بحوالي 150 نسمة, وتراوح عدد منازلها ما بين 20-25 منزل.
نَقب الموقع بعثة أمريكية من جامعة شيكاغو بإدارة روبرت بريد وود R.Braid Woodبين عامي 1948- 1955م. سكن الإنسان قبل عهد جرمو في الكهوف والأكواخ لكن ظهر خلال فترة جرمو بيوت طينية مستطيلة مكونة من عدد من الحجرات الصغيرة (كل حجرة 2 م تقريبا) بعضها مزودة بباحات وأفران للخبز وأحواض للغسيل هذه البيوت كانت مبنية على اساسات حجرية وكانت جدرانها مطلية بملاط طيني وأسقفها بمغطاة بالقصب وأغصان الأشجار وأرضياتها مفروشة بسعف النخيل ومكسية بالطين السميك. حيث يقول بريد وود أن القرى الزراعية النيولتيتية أشبه ما يكون اليوم بالقرب الزراعية الكرديّة.
دجّن سكان جرمو الكلاب والأغنام والخنازير والثيران وأنواع صغيرة من الخيول. وصنعوا أدواتهم من الصوان والأبسديان كالمناجل والفؤوس الحادة الحواف والأجران والمجارش والمدقات والهواوين وأقراص مغازل صوانيّة للغزل وحياكة الصوف, كذلك صنعوا أدوات من العظم كالملاعق والإبر والمخارز والخرز والأساور وحبات العقود, إلى جانب صناعتهم لأدوات من الطين والصلصال كدمى لحيوانات صغيرة والتي استخدمت لأغراض سحرية أو دينية وكذلك مخاريط طينية وتماثيل للربة الأم والتي نفذت بأسلوب تجريدي (أنثى بدينة متضخمة الساقين تجلس القرفصاء) ترمز إلى الخصب والإنجاب وقوى الطبيعة.
عثر في جرمو على أصداف لقواقع بحرية كانت تستخدم كسلعة غذائية وكانت تجلب من مناطق خليج فارس, كما عثر على أدوات من الأبسديان (حجر السبج- البركاني) والتي كانت تجلب من مناطق قريبة من بحيرة وان وكانت تستخدم في صناعة النصال ورؤوس السهام والمثاقب… وغيرها, وهذا يعني وجود علاقات تجارية في تلك الفترة على الرغم أن تأثير حضارة جرمو كانت محصورة ضمن مناطق وادي ديالى (جوغا مامي- تامرخان). [1]
___________
المراجع:
1- مهدي كاكا, نبذة تاريخية عن الكرد والآشوريين والعلاقة بينهم (1)- كردستان مهد السلالة البشرية الأولى. الحوار المتمدن 4-10-2013l>Rafifar, Jalal. Anthropological approaches in Neolithic studies in Iran. An article
2- حضارة العراق. تأليف نخبة من الباحثين العراقيين. الجزء الأول, بغداد 1985م.
3- محمد علي, محمد عبد اللطيف, تاريخ العراق القديم حتى نهاية الألف الثالث ق.م. منشورات مطبعة الاسكندرية 1977م.
4- عصفور أبو المحاسن, الشرق الأدنى قبل العصور التاريخية. منشورات مطبعة الاسكندرية.
5- ولي, هاوكس ول, أضواء على العصر الحجري الحديث. ترجمة يسرى الجوهري. دار المعارف الاسكندرية.