إعداد/ مثنى المحمود
على مسافة ثلاثين كيلو متر جنوب شرق مقاطعة الحسكة يقع “تل تنينير” الذي يعدّ أحد أهمّ الموقع الأثرية في إقليم الجزيرة، شاهد على حضارة المنطقة، يعود تاريخه إلى ما يقارب خمسة ألاف عام.
يقع تل تنينير بالقرب من واحدة من الينابيع الدائمة القليلة على طول نهر الخابور، عين التنينير كما يُسمّى (عين نوح) من قبل سكان المنطقة، ومازال مصدر المياه مستمرّاً فيه حتى خلال سنوات الجفاف الشديد.
من قرية إلى مدينة
بيّنت كِسر الفخار العائدة إلى فترة نينوى، وعينات الكربون المشع أنّ الاستيطان الأول في الموقع كان قد بدأ خلال الألف الثالث قبل الميلاد، ومن الممكن أن حجم منطقة الاستيطان قد امتدّ من قرية بحجم متوسط في عصر البرونز حتى وصلت إلى الحد الأقصى في توسعها حيث تحول من قرية إلى مدينة متوسطة الحجم خلال فترة العصور الوسطى (1000-1300).
تاريخ الحفريات
بدأت حفريات الإنقاذ الأثرية في التل عام 198 واستمرّت حتى عام 2002 وموّلت الأعمال في الموقع، كلية جمعية القديس لويس في الولايات المتحدة الأمريكية، وبيّن العمل الميداني، أن الطبقات السطحية في الموقع تعود إلى العصور الوسطى، وعلى وجهة التحديد: العصر الأيوبي، السلجوقي، الخلافة العباسية، دُفنت طبقات الرومانية والبيزنطية في الموقع أسفل عدّة امتار من استيطان العصور الوسطى، وأظهرت قطاعات التنقيب العميقة في المنطقة العصور التالية : البارثية والفارسية، والآشورية الحديثة، والبابلية وعصر السلالات الباكر الثاني.
نشاط تجاري
نُقبت المباني الأثرية المهدمة المكشوفة على الطرف الجنوبي كلّها لتل تنينير، حيث كانت المنشأة الأكبر، سوقا كاملاً يتضمّن ورشة عمل لصناعة الفخار، ومخبز وعلى الأقل محل جزّار واحد كما وجد خانان شمال وجنوب السوق، ويتضمّن مسجدا فيه غرفة صغيرة للصلاة زيّنت جدار القبلة في المسجد، ألواح جصية دائرية ومستطيلة بجوار الخان التي تتضمّن حماماً فيه قبتان تغطي الغرفة الدافئة وأربع غرف ساخنة.
بيّنت دراسة العظام الحيوانية العائدة إلى فترة العصور الوسطى في تل تنينير، وجود عدد كبير من عظام أطراف الحيوانات، سُلخت وقُطعت في السوق، وبيع معظم اللحم مع العظم، وأُخذ إلى المنازل حيث قام السكان بتقطيعه إلى قطع صغيرة، تمثل بقايا الأغنام والماعز 78،6% من الحيوانات التي تمّ تحديدها في السوق بينما تمثل الماشية المدجنة الأخرى 11،9%.
تعود بقايا البيوت الطينية والفخار المنزلي في القسم المركزي من الموقع إلى بيوت العصور الوسطى التي كانت شُيّدت على طول الشوارع المتعرجة، يعود تاريخ النقود المعدنية والفخار والزجاج التي عُثر عليها في القسم المركزي إلى عصر السيطرة السلجوقية والأيوبية الإيلخانية.
مجمّع دينيّ مسيحيّ
وجد في الموقع مجموعة من المباني قرب جسر نهر الخابور، يرجّح أنّها تعود إلى مجتمع رهباني كامل ، مع معصرتي خمر و ورشة صناعة الفخار ومطعم ومهجع النوم وكنيسة كبيرة جداً، عثر على العديد من الطبعات الطينية خارج المنطقة، تحمل طبعات أختام دائرية لأسماء رهبان متعددة مثل: بار دينو وصبره عبيل، بار سرجويس وأبيل بن أيوب، كما وجد ختم برونزي يحمل نقش سرياني يشير النقش السرياني بجانب معاصر الخمر إلى أن الرهبان يصنعون النبيذ من أجل الاستخدام اليومي، مع وجبات الطعام والخمر المقدّس، وتحضير نوعين من الخمر الطبي على الأقل.
تشير النقود مع القبور وتاريخ الكربون المشع إلى عنف شديد، عانى منه الدير خلال القرن الحادي عشر الميلادي، كما لم يرمم نهائياً مهجع النوم ومعمل النبيذ وورشة عمل الفخار، شيدت الطائفة المسيحية مبنى الدير في المرحلة الأولى من تفكيك حجارة المبنى الروماني الصغير الذي كان قد بُني سابقا خلف الجسر، كما وجد على لوحة المرمر الزخرفة في مدخل الدير نقش سرياني يذكر اسم زعيم أو مؤسس الدير “داوود” كانت لوحة الرخام جزء من معرض بعنوان سورية أرض الحضارات.
اكتشف مزيد من الأدلة على وجود الطائفة المسيحية في الموقع مسافة 300 م شرق تل تنينير، حيث عثر على أربع مراحل معمارية متميزة في الكنيسة مع مكان إقامة متصل بها ، تؤرّخ المرحلة الأقدم من الكنيسة إلى أواخر العصر الروماني البريطاني حيث أعادت الكنيسة من أضرار جسيمة وفي الوقت نفسه، تضرر مجمع الدير، وجد في الموقع مدفن دفن فيه كأس تعميد وسراجين ومذبح بأسلوب طقسي أثناء إعادة بناء الكنيسة في الفترة الأيوبي.[1]