“لم تكن ضربة من العدم، كما لو أن الوحش قد أدار رأسه ببطء نحوه، وتعرف عليه ثم مدّ يدَه ليخنقه. كانت أفكاره واضحة حيث استنزف الضعف جسده، وبهذا الوضوح كان يعتقد، وبطريقة عبثية، أن هذا يجب أن يكون، الشعور بالجوع أو التجمد حتى الموت أو أن يسحق الحجر أنفاس جسدك”.
ابدأ بمقطع من رواية “الهدية الأخيرة”، للكاتب عبد الرزاق غورنا، التي سارع إلى ترجمة فصل منها مُهرّب كتب الثوار في القارة السوداء، الكاتب جمال الجلاصي، واسأل: هل يُشكل فوز الكاتب التنزاني غورنا، بجائزة نوبل للآداب2021، انتصارا للمثقف المنتمي لقضايا الشعوب، أم أنه نوع من التطهير ليقول العالم نحن ننحاز لقضاياكم وأدبكم؟
وإلى أي درجة يدفعنا فوز كاتب ينتمي إلى القارة السوداء إلى البحث عنه بشكل أعمق، ما الذي كتبه، وماذا قيل عن أدبه، ويجعلنا نلتفت إلى أسماء كبيرة وكثيرة، وهنا لابد من الإشارة إلى الشاعر والروائي سليم بركات، الذي كتب “سبايا سنجار”، و”فقهاء الظلام”، وغيرها الكثير، وبقيت هوية الكردي السوري في نصوصه وأساطيره التي اختلقها، وفي كتاباته التي دانت داعش في سبايا سنجار والتي كتبت بلون الفن والشعر والفكر والثقافة، وهو لا يريد أن يمضي وحيدا وبلا أثر.
ها هي العيون تتوجه إلى أفريقيا، وإلى أدب غورنا، الذي يعتبر أول إفريقي يفوز بالجائزة منذ فوز النيجيري وولي سوينكا عام 1986، وقد أخذته أشهر رواياته الجنة “باراديس”، إلى الفوز، نظراً إلى سرده “المتعاطف والذي يخلو من أي مساومة لآثار الاستعمار ومصير اللاجئين العالقين بين الثقافات والقارات”. حسب لجنة تحكيم نوبل، غورنا الذي عرف معنى اللجوء والمعاناة.
وهنا أستعيد ما ذكر في صحيفة الغارديان عن هذا الكاتب “حين يكتب رواياته يجعلنا غورنا أن نفكر ما الذي يمكن إنقاذه عندما تكون إحدى عواقب الاستعمار هي الإقصاء المتعمد لوجهة النظر الإفريقية، ومحوها من أرشيف البشرية”.
فكيف ونحن نشهد قرنا كاملا ينزاح نحو العزلة من جهة، ومن جهة أخرى زلزال من اللجوء من إفريقيا، ومن بعض دول الشرق الأوسط لا سيما العالم العربي، ما دفعه للقول: “أصبح العالم أكثر عنفاً بكثير مما كان عليه في الستينيات، لذلك هناك ضغط أكبر الآن على البلدان الآمنة، فهي تجتذب المزيد من الناس حتماً”.
ولأن العالم أصبح أكثر عنفاً، فلا الربيع العربي، الذي دفع فيه الشباب حياتهم ودمهم وصل إلى مبتغاه، ولا الاستعمار الذي زرع الفقر وصل إلى قطاف مما يريد لأن الهجرة واللجوء باتت مشكلة يواجهها العالم اليوم.
وهنا يحضر السؤال: هل ينتصر الأدب على الحروب، وهل تنتصر الكتب على واقع مزرٍ، وعالم يرتفع فيه الغبار والعنصرية وكل صور الإرهاب؟
عندما نشرت روايته “الجنة” عام 1994 وصفتها صحيفة الإندبندنت بأنها رواية “متعددة الطبقات وعنيفة وجميلة وغريبة”، تتناول “برادايس”، حكاية صبي إفريقي يتعرض للبيع، في مناخ فاسد، نتيجة الاستعمار الأوروبي.
تطغى موضوعات الوجود الإنساني على معظم رواياته، فأبطال هذه الروايات يحملون أسئلتهم أنى ذهبوا، يبحثون دائما عن معنى لوجودهم، ومهما كان الاندماج في المجتمعات الجديدة
أحداث رواية الجنة تقع في شرق أفريقيا، وفي الفترة التي سبقت مباشرة ظهور الاستعمار الألماني في تنجانيقا، يركز على البعثات التجارية قبل الاستعمار التي نفذت بين سكان المناطق الساحلية العرب/ السواحيلية والمجتمعات المحلية الداخلية يلاحظ أن كل حالات الشتات قدمت داخل شرق أفريقيا، فهي تفضح فكرة التشريد وإظهار حقيقة الهيمنة التي سبقت الاستعمار..
صدر لللكاتب عدد من الروايات، ذكرى المغادرة، طريق الحج، الجنة، الإعجاب بالصمت، عن طريق البحر، الهجر، الهدية، الآخرة.
تطغى موضوعات الوجود الإنساني على معظم رواياته، فأبطال هذه الروايات يحملون أسئلتهم أنى ذهبوا، يبحثون دائما عن معنى لوجودهم، ومهما كان الاندماج في المجتمعات الجديدة، فهو يرى أنه “من الصعب بل من المستحيل الانصهار كليا في المجتمع الجديد، مهما كانت ظروف هذا الإنسان اللاجئ”.
لا شك فإن الفوز يشكل مناسبة للبحث عن قيم العدالة والمساواة المطلوبة في معايير نوبل الأدب، الجائزة التي تميل أكثر إلى إعلاء شأن المراكز الثقافية على حساب الأطراف لاسيما في آسيا وأفريقيا، وأمريكا اللاتينية، رغم فوز أسماء كثيرة مما تسمى أطرافاً.
في هذا السياق تمّ إدراج اسم سليم بركات مجدداً ضمن قائمة من يستحقون جائزة نوبل للآداب 2021، وتعليقا على وصول اسم سليم بركات، كتب الشاعر إبراهيم حسو: “أنا واثق جدا أن ثلثي الكرد لا يتمنون فوز سليم بركات بجائزة نوبل كون كتاباته لا تخدم قوميته ولغته وثلث العرب كونه من أصول كردية”.
وتعليقا على هذا أقول ألا ننتمي نحن حقيقة للإنسان، لثقافة المكان، للغة التي نكتب فيها، للضمير الذي يحرك شخصياتنا ونصوصنا وقصائدنا، سليم بركات هو لسوريا، وفلسطين للكرد والعرب، لثقافة إنسانية فوق كل الأثنيات، كنا نتمنى فعلا لهذا الشاعر الروائي الذي سأله محمود درويش بإعجاب: “من أين تستمد خيالك؟” والذي قال عنه أدونيس إنه: “يحمل مفتاح اللغة العربية في جيبه”.
نتمنى له الفوز، على الأقل كانت فرصة حقيقية أن يعرف العالم حقيقة المأساة في عالمنا العربي، الحرب، والاستبداد، والإرهاب، وطبيعة الناس، وكان الضوء سيتوجه بشكل كبير إلى سوريا والعراق من خلال روايته “سبايا سنجار”، وربما أكثر سيضاء اسم سوريا من خلال الكاتب السوري الكردي، الشاعر، بعيدا عن الحساسيات والتعصب والانتماءات الأثنية.
وأظن أنه مناسبة للرجوع إلى “سبايا سنجار” الرواية التي تطرح مشكلة الإرهاب من خلال خمس فتيات ايزيديات وجدن أنفسهن سبايا بيد جند دولة الخلافة، وبتن لاجئات بعد تجارب مؤلمة، يطلبن من الرسام “سارات” رسمهن في لوحته التي يريد تنفيذها وتسميتها: “سبايا سنجار”، ليبدأن بعدها بوحهن عن الظلم والاغتصاب.
يستحضر بركات في الرواية الفنانين العالميين شاغال، و”غويا”، وقد اشتهر غويا باللوحات السوداء، والموضوعات الحزينة، والتي ربما تعيد الفاجعة الإنسانية إلى زمن بعيد، فيتقمص الروائي مضامين اللوحات العالمية التي تطبع على يده كل صباح.
إنها تعكس زمنا يفوق أي تصور، التهجير، الاعتقال، المنفى، تدمير المكان، يكفي أنها تنتمي لروح الثورة رغم كل الخيبات.
تبقى الكتابة وطن الغريب، وطن المثقف الذي يحمله معه أنى ذهب، فهل يفتح فوز غورنا عيون العالم على مشكلة تواجهنا لاسيما مشكلة أوطان تحولت إلى منصة خصبة للموت والهجرة، وأرض المنفى؟
ثمة الكثير من الروائيين العرب، الذين ترجمت بعض أعمالهم، أوالذين يكتبون بلغات أخرى، أمين معلوف، الذي يمتلك مشروعه في الرواية، وأعتقد أن حاجز الترجمة يسهم في ظلم النتاج الروائي والأدبي، إلياس خوري جدير بالفوز، إبراهيم الكوني والطاهر بن جلون وغيرهم من المشاهير العرب الذين وصلت كتابتهم إلى الآخر، عبر الترجمة أو عبر الكتابة بلغة أخرى، غير العربية.
وفي العودة إلى “بارادايس”، وإلى غورنا المولود في تنزانيا والمقيم في بريطانيا، ألا يكفي ما قالته لجنة نوبل للآداب بأن روايات غورنا “تفتح عيوننا على شرق أفريقيا المتنوع ثقافياً، وغير المعروف بالنسبة لكثيرين حول العالم”.
وتبقى الكتابة وطن الغريب، وطن المثقف الذي يحمله معه أنى ذهب، فهل يفتح فوز غورنا عيون العالم على مشكلة تواجهنا لاسيما مشكلة أوطان تحولت إلى منصة خصبة للموت والهجرة، وأرض المنفى؟[1]