داريوس درويش
الكردي الجيّد هو من يعتبر أنّ مجرّد خروجه عن المعايير الكرديّة (إن كان ثمّة معايير موحّدة) هو تحقيق للفردانيّة وخروج عن القطيع، ولكنّه اعتبار مخادع، فما يحصل عمليّاً هو أنّ هؤلاء يخرجون عن قطيع لينضموا إلى قطيع آخر
بات من المتداول في الوسطين الثقافي والشعبي السوري معايير محدّدة لتقييم المواطنين السوريّين وتقييم درجة انتماءهم للثورة وقيمها، حتّى أصبح من الطبيعي إخراج أحدهم أو بعضهم أو تكوينات اجتماعيّة كاملة من إطار هذه القيم، أو حتّى إخراجهم من إطار المواطنة السوريّة عند الأوساط الشعبيّة أو بعض المثقّفين الأكثر تطرّفاً، طالما أنّ هؤلاء لا يلتزمون حصراً بتلك المعايير المحدّدة لقيمٍ يعتقدون أنّهم ملتزمون بها ربّما وفقاً لمعايير أخرى، والواقع أنّ تمظهر هذه التقييمات، وفقاً للمعايير المختلفة، يبدو بوضوح أكثر حين يتعلّق الأمر بفرز الكرد، بين أقليّة شريفة وأكثريّة انتهازيّة، وبين أقليّة وطنيّة وأكثريّة انفصاليّة، وبين أقليّة مسلمة وأكثريّة ملحدة، وبين أقليّة ثوريّة وأكثريّة موالية. وبشكل عام، يمكننا تعميمها على شكل أقليّة جيّدة وأكثريّة سيّئة.
الكرد الجيّدون ليسوا هم فقط أولئك الذين “ينصاعون” لتلك المعايير الثوريّة أو الوطنيّة أو الدينيّة، بل يجب أن تتوفّر مقوّمات إضافيّة أيضاً لتحقيق هذه الصفة، فليس كرديّاً جيّداً من يتخلّى عن قوميّته أو ينكر أصله الجيني بشكل كامل، بل عليه أن يبرزهما في كلّ مناسبة تتطلّبها تلك المعايير. النظام السوري استخدم مثل هؤلاء في مراكز قرار شكليّة في حكومة دمشق ليُظهر أنّ الكرد يستطيعون أن يكونوا “وطنيّين” وملتزمين بالمعايير التي يحدّدها للوطنيّة، وكذلك فعلت قوى السلفيّة الجهاديّة التي شكّلت كتائب كرديّة ضمن صفوفها، ولكن عديمة التأثير أيضاً، وأظهرت كرديّة هذه الكتائب حتّى تبيّن أنّ هناك كرداً مسلمين ملتزمون بتفسير السلفيّة الجهاديّة للدين الإسلامي يواجهون كرداً ملحدين لا يلتزمون بها. أضيف في الفترة الأخيرة صنف جديد إلى الصنفين السابقين، وهم من الكرد الناشطين في الوسطين السياسي والثقافي المعارض، هؤلاء هم الكرد الوطنيّون مقابل الكرد القوميّين، وهم الكرد الديمقراطيّون مقابل الكرد الديكتاتوريّين.
وإن كان النقاش حول أوّل صنفين سيكون مضيعة للوقت، لأنّ الصنف الأوّل يسير وفقاً لمصالحه الخاصّة، وهو ما لا يمكن مواجهته أبداً، ولن تكون أيّ محاولة احتواء لهم سوى إعادةً لإنتاج ظروف تحقيق مصالحهم الشخصيّة عبر تعميم الفساد المتميّز به نظام الأسد، فيما الصنف الثاني مستند إلى أيديولوجيا متطرّفة ليست موضوعاً لمقالة قصيرة؛ إلا أنّ الصنف الأخير يعتمد على قيم عالميّة، وحديثة العهد في المجتمع السوري عموماً، عالميّة هذه القيم تشجّع على تبنّيها من دون معيقات جديّة، ولكن حداثة عهدها ضمن مجتمعنا تصعّب القدرة على الفرز بين من يتبنّون هذه القيم وبين من يعارضونها، وتصعّب حتّى من وضع معايير الفرز تلك.
فالكردي الجيّد وفقاً للصنف الأخير، هو الكردي الذي يمكن أن يتجاوب مع أيّ اتّهام بحقّ وحدات حماية الشعب، من دون تدقيق في محتوى الاتّهام نفسه. فطالما أنّ هذه الوحدات ليست “قوّة ثوريّة” بحسب معاييرهم، فهذا كافٍ لقبول أيّ اتّهام ضدّها، وعليه الاعتقاد بهذا الشيء حكماً ولكن ليس حصراً، فلا يقتصر واجب هذا الكردي على التجاوب فقط، بل عليه المبادرة، بوصفه كرديّاً، إلى إدانة الانتهاك المزعوم الصادر عن الوحدات على اعتبارها “قوّات كرديّة” تخصّه قبل غيره، ولا ضير أن تترافق هذه الإدانة بصيغة “اعتراف” ممزوج بتشجيع الآخرين على أن يحذوا حذوه، فهو الشجاع الذي يواجه “تعصّبه القومي” ويعترف بهذه الأخطاء، ويحاول إقناع المتعصّبين من بني جلدته بعدم جدوى الإنكار. والواقع أنّ فساد دعوى “مواجهة التعصّب” يظهر في قبول الكردي الجيّد لعصبيّات أخرى (عشائريّة أو قوميّة عربيّة) تتشكّل ضمن فريقه نفسه، فلم يعارض اعتبار وجود الوحدات في مناطق عربيّة احتلالاً، قياساً، على الأقل، مع القوى التي هاجمت مدينة سري كانييه، ولم يعارض اعتبار وحدات حماية الشعب خارجةً عن الثورة السوريّة قياساً مع القوى الإسلاميّة مثلاً المسيطرة على كامل مناطق المعارضة، ولم يعتبر الأكراد الجيّدون أنّ اعتقال معارض لحزب الاتّحاد الديمقراطي أو موت أحدهم في السجن نتيجة الإهمال الطبّي هي مجرّد جرائم وانتهاكات لحقوق الإنسان، وهذا كافٍ لإدانتها طبعاً، بل اعتبروها أفعالاً مماثلةً لقتل وتقطيع مئات الناشطين الثوريّين من قبل داعش، هذا في الوقت الذي لم يعتبروا فيه أنّ اغتيال الناشطين واعتقالهم واختفائهم لسنوات وقتلهم ضمن حفلات تعذيب ساديّة قامت بها “القوى الثوريّة” غير الكرديّة على أنّها أفعالٌ مساويةٌ حقيقةً لأفعال داعش، بل بقيت هذه القوى “ثوريّةً” في حين أنّ الوحدات تمّ إلحاقها بالنظام، أو بالثورة المضادّة في أحسن الأحوال مثل داعش.
والكردي الجيّد يجب أن يبقى منتمياً لقضيّته الكرديّة أيضاً ومؤمناً بها، ولكن منتمياً فقط لتلك القضيّة المتوافقة مع معايير الثورة. لا يهمّ أنّ هذه المعايير وضعت من دون استشارة الشعب السوري سواءً كانوا من أصحاب القضيّة المباشرين أو السوريّين عموماً، بل ما يهمّ أنّ ثمّة معاييراً وُضعت، بكثير من الإعلام وقليل من المشاركة العامّة، وأنّ من الواجب اتّباعها. فالقضيّة الكرديّة بالنسبة لهذه المعايير لا يجب أن تكون قضيّة شراكة حقيقيّة في الوطن، بل شراكة لفظيّة تحت اسم المواطنة حتّى قبل أن يكون هناك وطنٌ ما يمنح تلك المواطنة. ومن المهم أن يبقى أصحاب هذه القضيّة قلقين من ضياع عدالة قضيّتهم إذا ما تصرّف حزب كرديّ خارج سياق هذه المعايير، وإن كانت عدالة القضيّة كلّها مبنيّة على حقوق المواطنة، فمن الطبيعي أن يكون التهديد بفقدان عدالتها، ورفع الشرعيّة عنها من قبل أصحاب تلك المعايير، هو تهديد بنزع حقوق المواطنة عن المنتمين لتلك القضيّة، أي أنّ استمرار خط ذلك الحزب يهدّد بإعادة الكرد إلى الوضع الذي كانوا فيه أثناء حكم الأسد كمواطنين درجة ثانية (أو ثالثة)، وربّما بما يتضمّن سحب الجنسيّة منهم مجدّداً.
أيضاً، الكردي الجيّد هو من يعتبر أنّ مجرّد خروجه عن المعايير الكرديّة (إن كان ثمّة معايير موحّدة) هو تحقيق للفردانيّة وخروج عن القطيع، ولكنّه اعتبار مخادع، فما يحصل عمليّاً هو أنّ هؤلاء يخرجون عن قطيع لينضموا إلى قطيع آخر، فالفردانيّة لا تتشكّل إلا في ظلّ مجتمعات، أو مجموعات، لديها الحدّ الأدنى من القوانين التي تربط الفرد بالمجتمع أو بالمجموعة، وهذا لا يشبه في شيء الوضع القائم تحت ظلّ معايير المعارضة السوريّة، حيث أنّ هذه المعايير لا تقف عند حدّ الالتزام بقوانين حقوق الإنسان، وليس جميعها طبعاً، بل تتجاوزها إلى جعل مسائل مثل شكل الدولة ووحدة الشعب والعَلَم وتسميات الثورة والنظام وحتّى أسلوب حل الحالة السوريّة (المعضلة، المأساة، الثورة، الأزمة، الحرب الأهليّة… الخ)، جعلها طواطم غير قابلة للمسّ، ووصف من يقترب منها بشتّى الألقاب السلبيّة. وفي الواقع، فهذه ليست ظروفاً تسمح للاتّجاهات الفردانيّة بالانتعاش، بل على العكس، فالتخلّص من هذه المعايير هو الشرط الأوّل للخطو نحو الفردانيّة الفعليّة ليليها التخلّص من المعايير المجتمعيّة، المبهمة واللينة أكثر من معايير المعارضة.
بالمحصّلة، الكردي الجيّد بالنسبة لمعظم الأطراف في سوريا هو من لا يكون كرديّاً بالفعل، ولكن بنفس الوقت يعتبر نفسه أدنى درجة من الآخرين لمجرّد كونه بيولوجيّاً من الكرد. وليس غريباً أنّ من يرى تناقضاً بين الانتماء الكردي من جهة والانتماء السوري والمسلم والثوري… الخ من جهة أخرى، لم يُنتج سوى وطنيّة مشوّهة ويساريّة مشوّهة ووحدةً مشوّهة، ولا يبدو أنّه سينتج شيئاً سوى ثوريّة مشوّهة أيضاً.[1]