#عبد الحسين شعبان#
كلّما اقتربنا من يوم 25 سبتمبر (أيلول) الجاري يزداد الجدل احتداماً والنقاش صخباً بخصوص الاستفتاء الكردي وما بعده، فالرافضون والمعارضون أفرطوا في التبشيع والتشنيع، والمتحمّسون والمؤيدون أفرطوا في المدائح والمزايا. وبين هذا وذاك، هناك غموض والتباس وقلق وحيرة لدى الكثيرين، فالفريق الأول يعتبر الاستفتاء مقدّمة للانفصال، وله تداعيات خطيرة بخصوص مستقبل الدولة العراقية ووحدتها الجيوبوليتيكية، في حين أن الفريق الثاني يعتبر الاستفتاء حقاً للأكراد في تقرير مصيرهم، كما يجد في التوقيت فرصة مناسبة، بسبب صعود الورقة الكردية إقليمياً ودولياً، إضافة إلى الدور الذي قام به البيشمركة والكرد عموماً، سواء في العراق أو سوريا في مواجهة داعش.
وبغضّ النظر عن ردود الفعل الدولية والإقليمية التي ترفض أو تتحفّظ أو تحذّر من احتمالات اندلاع صراعات إثنية وعرقية جديدة في المنطقة، فإن الكرد وبخاصة قيادة إقليم كردستان برئاسة مسعود البارزاني يصرّون على موضوع الاستفتاء لثلاثة أسباب رئيسية مبدئية وتكتيكية في الآن، فكيف يمكن فهمها؟ ووفقاً لأية اعتبارات يمكن التعاطي معها، سواء في الحاضر أو في المستقبل؟
السبب الأول- إنهم يريدون تأكيد حقهم في تقرير المصير، وتحويله من صيغة نظرية عامة إلى صيغة عملية ملموسة، خصوصاً وإنهم يدركون أن نتائج الاستفتاء ستكون ب نعم، بما فيه إقامة دولة مستقلة، على الرغم من تردّد الاتحاد الوطني الكردستاني (أوك)، لكي لا تذهب النتائج لصالح غريمه التاريخي الحزب الديمقراطي الكردستاني (حدك)، ورفض حركة كوارن التغيير، التي كان زعيمها ناوشيروان مصطفى من أشدّ المتحمّسين لإقامة ثلاثة كيانات في العراق، وهو ما عبّر عنه في مقابلة له مع جريدة اللوموند الفرنسية في العام 1987، ويكاد يكون الوحيد من بين الكوادر الكردية المتقدّمة مَنْ اعتبر بيان 11 آذار (مارس) العام 1970، لا يلبّي الحد الأدنى من طموحات الشعب الكردي، كما أن الجماعة الإسلامية هي الأخرى أبدت تحفّظات عديدة على الاستفتاء بينها التوقيت.
وعلى الرغم من التردّد والتحفّظ بشأن التوقيت، فإنني أعتقد أنّ الكرد بشكل عام، تداعبهم فكرة قيام الدولة الكردية، إذْ إنهم الشعب الوحيد من بين شعوب المنطقة الذي يكاد يكون بلا دولة، وإن أمتهم مجزأة، مثل الأمة العربية التي تطمح إلى تحقيق وحدتها. وإذا كان هذا هو الغالب الشائع، فإن السياسيين الكرد يناورون بتصعيد هذا الشعار أو تخفيضه حسب الظروف وحسب موازين القوى ، فتراهم يقدّمون خطوة ويؤخّرون أخرى ، إضافة إلى الصراعات الداخلية بينهم، ناهيك عن المنافسات الشخصية والحزبية.
وقد شهدت الفترة بين 1994-1998 صراعاً كردياً - كردياً وقتالاً دموياً، وكان العامل الإقليمي فيه قوياً، ففي حين تعاون (أوك) مع إيران لإزاحة خصمه من الساحة، استعان (حدك) بالحكومة العراقية العام 1996، لوضع حد لسيطرة (أوك) على أربيل. وانقسمت كردستان إلى إدارتين، ولولا ضغط وتدخّل الولايات المتحدة الأمريكية، لما كان بالإمكان تسوية المشاكل العالقة بين الطرفين، والتي تطفو على السطح كلّما مرّت أزمة حتى وإن كانت عابرة، وحالياً لا يزال البرلمان الكردستاني معطّلاً وولاية رئاسة الإقليم منتهية، والوصول إلى حلول مرضية بعيد المنال، فكيف يمكن وضع نتائج الاستفتاء موضع التطبيق إذاً؟
وإذا أصبح شعار الحكم الذاتي مقبولاً منذ أواسط الستينات، وخصوصاً بدعم من اليسار العراقي، الذي كان مؤثراً آنذاك، فإن بيان 11 آذار (مارس) لعام 1970 نصّ عليه في ظل حكم حزب البعث، وصدر قانون الحكم الذاتي في العام 1974 على الرغم من نواقصه وثغراته، لكنه أسّس لواقع جديد.
ثم تطور شعار الحكم الذاتي في الثمانينات ليصبح الحكم الذاتي الموسّع واستقرّ عند شعار الفيدرالية، خصوصاً بعد إقرار صيغة حق تقرير المصير من جانب المعارضة في فيينا حزيران (يونيو) وصلاح الدين في تشرين الثاني (نوفمبر) 1992، وصدور قرار من البرلمان الكردستاني بالاتحاد الفيدرالي في 4 تشرين الأول (اكتوبر) من العام ذاته.
واحتوى قانون إدارة الدولة العام 2004، وفيما بعد الدستور العراقي الدائم العام 2005، على صيغة الفيدرالية، التي جاءت أقرب إلى النظام الكونفدرالي بحكم الصلاحيات الواسعة الممنوحة للكرد، حيث كان الإقليم هو الكيانية القائمة حصراً. وهذا ما زرع ألغاماً كثيرة في طريق تطبيقه اصطدم بها الجميع، الذين اكتشفوا أنفسهم، كلّما تقدّموا خطوة يقتربون من القنبلة الموقوتة للانفجار.
والسبب الثاني- إن هدف الدعوة للاستفتاء لا يُقصد منه قيام الدولة الآن، وهو ما عبّر عنه بعض القادة الكرد، وإنما هو في حقيقته ممارسة ضغط لمقايضة بغداد لتقديم تنازلات يمكن استثمارها في مرحلة لاحقة، لاسيّما حين نضوج الظروف الموضوعية. أما الهدف الآني من الاستفتاء فقد يكون دفع بغداد لتسديد مستحقات الإقليم التي تبلغ 17% من قيمة الميزانية العراقية التي أوقفتها الحكومة العراقية كما تقول، لعدم تسوية القضايا المتعلّقة بحقوق تصدير وإنتاج النفط التي تم الاتفاق عليها في كانون الثاني (يناير) العام 2014، وفي كانون الأول (ديسمبر) من نفس العام.
وسواء تم التوصل إلى تسوية مرحلية أو لم يتم، فإن موضوع الدولة الكردية، سيبقى أحد التحدّيات الأساسية التي تواجه العراق، مثلما هو التحدّي الطائفي، وهذان التحدّيان لو استمرا فإنهما قد يذهبان بعيداً باتجاه تفتيت الدولة العراقية، تمهيداً لانقسامها حسب بعض السيناريوهات المطروحة والتي قد تستغرق وقتاً ليس بالقصير.
السبب الثالث- قد يكون أحد أهداف الاستفتاء الحالي هو إبقاء الوضع الراهن Status que، في كركوك على ما هو عليه دون تغيير بما فيه موضوع تصدير النفط، أي عدم تحريك ساكن، فبعد أن رفع مجلس المحافظة علم كردستان (آذار/مارس 2017) لم يتغيّر شيء على الرغم من قرار القضاء ببطلانه، فضلاً عن ردود الفعل الإقليمية والدولية، علماً بأن مشكلة كركوك حسب تقديري لا حلّ لها في إطار ما هو مطروح من حلول متناقضة وحادة، فعودة القديم إلى قِدمه ليس ممكناً أو مقبولاً، والمغالبة والاستقواء وفرض الأمر الواقع صيغة غر مقبولة، ناهيك عن أنها قد تنذر بحرب أهلية، خصوصاً في ظل احتدام المشهد السياسي وتفشّي ظواهر العنف والإرهاب واستغلال القوى المتعصّبة والمتطرّفة، فضلاً عن التداخل الإقليمي الذي ينبغي أن يُحسب حسابه، سواء الإيراني وهو مؤثر وكبير أو التركي وهو غير قليل، ولاسيّما في موضوع حساس مثل كركوك.
ولكن ما العمل وكيف السبيل إلى حل ممكن؟
لقد ظلّت كركوك عقدة مستعصية وتم تأجيلها في اتفاقية 11 آذار (مارس) 1970 وبعد إعادة المفاوضات مع الحركة الكردية 1991، كان هناك اقتراح قد تردّد بإقامة إدارة مشتركة، ولكن الاتفاق لم يتحقق، وبعد الاحتلال الأمريكي للعراق العام 2003 تم تعليق موضوع كركوك، ولم تستطع المادة 58 من قانون إدارة الدولة أو المادة 140 عن الدستور العراقي، إيجاد حلّ لها ، بل إن الأمر ازداد تعقيداً وتعسّراً، لاسيّما ما صاحب ذلك من أعمال عنف وإرهاب ومناطق نفوذ ومحاولات هيمنة.
لقد حاول النظام السابق تغيير التركيب السكاني والديموغرافي لكركوك بتشجيع هجرة العرب إليها ومنحهم امتيازات على حساب الكرد والتركمان، بل إن قراراً صدر من مجلس قيادة الثورة في 6 أيلول /سبتمبر العام 2001، يقضي بإمكان تغيير الهوّية إلى العربية، ولم يمنح هذا الحق لغيرها، وهو الأمر الذي انقلب بعد الاحتلال إلى ضده، وسواء في الماضي أم في الحاضر، فإن أية محاولات لتغيير التركيب السكاني والواقع القومي بالقوة أو بالإغراءات لن تجدي نفعاً، لاسيّما إذا لم تتم على نحو عفوي وبطريقة تلقائية ودون إرغام أو إكراه وهو ما يحدث عادة عبر زمن طويل وتراكم تدريجي، فقد كانت كركوك بموجب إحصاء العام 1957 ذات أغلبية تركمانية، وفي السبعينات أصبحت بأغلبية عربية ، للأسباب التي سبق ذكرها، وبعد الاحتلال أصبحت بأغلبية كردية بعد التدفق الكردي عليها واحتدام الصراع حول مصيرها وما رافقه من أعمال عنف ومغالبة واستقطاب، ولا زالت كركوك عقدة العقد، خصوصاً وإن القادة الكرد جميعهم يتمسّكون بها كجزء من كردستان، وكما يسمّيها جلال الطالباني الرئيس العراقي السابق: قدس الأقداس .
فهل ستبقى مشكلة كركوك معلّقة إلى ما لا نهاية، وبؤرة حرب مستديمة؟ أم ثمة إمكانات لوضع حلول واشتراع معالجات طويلة الأمد لتطبيع الحياة فيها وتعزيز التعايش بين سكانها؟ وبقدر ما كانت إحدى نقاط قوة العراق من حيث التعايش القومي والديني والمذهبي واللغوي، فإنها أحد أكبر نقاط ضعفه، ولعلّ ضعف المواطنة والشعور بها وشحّ الحرّيات، خصوصاً في ظل عدم المساواة وغياب الشراكة الحقيقية والمشاركة، كانت وراء هذه العقدة المعتّقة والمستديمة والتي يمكن أن تفجّر الوضع في العراق برمّته.
ولذلك فإن أي حل يبدأ من إطفاء بؤرة التوتر ونزع الفتيل عنها، ثم البحث عن تفاهمات ترضي جميع الأطراف إذا قرّروا البقاء متعايشين، وهذا يتطلّب إرادة سياسية موحدة وتنازلات متقابلة وإدارة سليمة للأزمة يشترك فيها الفرقاء جميعهم دون استثناء، وعكس ذلك سيدفع الجميع الثمن باهظاً.
وبعد ذلك لماذا يكون الاستفتاء فزّاعة طالما إن إمكانية تطبيق نتائجه غير متوفرة، في الوقت الحاضر؟ أي أنها ليست برسم التنفيذ، والأمر لا يعود إلى رغبة فريق الموالاة أو الممانعة، ولكن بفعل توازن القوى، وخصوصاً الإقليمي والدولي.
وحتى لو كانت نتائج الاستفتاء بنعم وهي ستكون كذلك، لصالح قيام دولة كردية، فهل ستعلن قيادات الكرد الرغبة في عدم العيش المشترك مع الشعب العربي في العراق؟ وإذا افترضنا ذلك أيضاً، فهل ستقوم الدولة غداً؟ وهل ستكون سلوفاكيا أم كوسوفو أم تيمور الشرقية أم جنوب السودان مثلاً ؟ وهذه أسئلة على جميع الأطراف التفكير بإجابات لها.
وإذا كانت قناعتي الشخصية والاستشرافية بأن الدولة الكردية قادمة إن آجلاً أم عاجلاً، وربما هناك أكثر من دولة كردية ستقوم، ولكن قيامها قد لا يكون آنياً، أي برسم الاستفتاء. وبواقعية، يستغرق الأمر وقتاً طويلاً، وقد يحتاج إلى عقد أو حتى عقدين من الزمان أو أكثر، مثلما قد يتطلّب ذلك حدوث تغييرات جوهرية في إيران وتركيا وسوريا، جميعها أو بعضها، بحيث تنشأ الدولة في محيط إقليمي غير معادٍ أو رافض لقيامها، ومثل هذا الاحتمال ليس وارداً في الوقت الحاضر باستثناء سوريا، التي سيكون فيها وضع الكرد أقرب إلى الوضع العراقي فيما إذا حدثت تغييرات، لكنه سيكون مع تعقيدات أشد ومشكلات أعوص وتداخلات خارجية أوسع ومنافسات داخلية أشمل وسقف حقوق أدنى.
فلماذا الخشية من الاستفتاء؟ وسواء أجري الاستفتاء أو لم يجرِ، فإن حق الكرد في تقرير المصير وقيام دولة مستقلة سيبقى قائماً، وهم يتمسّكون به، ولعلّه سيكون من الأفضل الآن وحتى قيام تلك الدولة، أن يكون الحل سلمياً ورضائياً إذا أصبح العيش المشترك مستحيلاً فالطلاق أبغض الحلال عند الله كما يُقال، وحتى لو حصل فمن الأفضل بحكم ارتباطات العرب بأشقائهم الكرد، الإبقاء على علاقات الصداقة والتعاون والمشتركات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والعلمية والإنسانية جميعها، وألّا يُسمح بتسرّب قوى معادية للعرب والكرد أو لدول المنطقة وتطلّعات شعوبها للتحرّر والسلم والتنمية والتقدّم، خصوصاً حين يكون التفاهم والمصالح المشتركة والمنافع المتبادلة هي الأساس في العلاقة بين بلدانها وشعوبها.
وأعتقد أن ذلك ضمانة للعلاقة العربية - الكردية، سواء في الحاضر أو في المستقبل، وعلى جميع الأطراف العراقية، وخصوصاً عرب العراق وكرده إضافة إلى القوى الإقليمية، ألّا تحرق المراحل وتستعجل اندلاع الصراع، لأن نتائجه ستكون وخيمة وكارثية على الجميع. إنّ قيام الدولة الكردية يحتاج إلى بيئة حاضنة وتأييد واضح من المجتمع الدولي، وهذا غير متوفّر في المدى المنظور، وذلك يعني أنّ القرار بإقامة الدولة، بالاستفتاء أو بغيره، سيكون مؤجلاً عراقياً وإقليمياً ودولياً، وأعتقد أن القيادة الكردية تدرك - حتى وإن رفعت من سقف مطالبها وشعاراتها- أن حرارة الجو السياسي تزداد ارتفاعاً وحساسية وحراجة، خصوصاً وهي تسعى لاقتناص اللحظة التاريخية المناسبة لتحويل الحلم الكردي المشروع إلى واقع ممكن وملموس وحقيقي.[1]