أحمد حسن
منذ مطلع القرن العشرين والكُرد يحلمون بدولةٍ مستقلّة، وقد انتعشت أحلامهم بعد انتصار الحُلفاء على العثمانيين في الحرب العالميّة الأُولى وسقوط دولة الرجل المريض. لكن ثمة جملة من المصاعب الحقيقية التي تعترض تحقيق هذه الأحلام على الأرض والتي يرتبط بعضها بالطبيعة والجغرافيا وبعضها الآخر بالظروف الاقليمية والدولية والحقائق الجيوسياسية التي لا سبيل إلى تخطيها.
ويرى بعض الباحثين أن الفترة الممتدة بين نوفمبر/ تشرين الأول 1918 (بُعيد توقيع هدنة مودروس) ويونيو/ حزيران 1919 أتاحت للكرد فرصة ذهبية لم تسنح لهم على مرّ تاريخهم الطويل لإنشاء دولتهم القومية. غير أن الكرد لم يتمكّنوا من استغلال هذه الفرصة التاريخية النادرة، وفشلوا في صياغة تطلعات قومية مشتركة في مواجهة دول شرعت في بناء دولتها القومية المركزية، ورفضت الاعتراف بهويتهم و حقوقهم اللغوية و الثقافية، ناهيك عن حقهم في تقرير المصير.
وبدا أن مسألة إنشاء دولة قومية للكرد المقسّمين بين تركيا وإيران والعراق وسوريا، قد انتهت ودفنت مع الوعود التي قُطعت لهم عشية انهيار الدولة العثمانية. بيد أن دور الكرد في محاربة تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” وّفر لهم اليوم فرصة فريدة لعرض هويتهم و مطالبهم السياسية في مقدمة مسرح الأحداث.
المسألة الكردية في نهاية الحرب العالمية الأولى
إن تقويض الدولة العثمانية الذي قرره الحلفاء في نهاية الحرب العالمية الأولى أعطى الكرد أملاً بالحصول على أرض مستقلة. وقد نصت #معاهدة سيفر# الموقّعة عام 1920 على إنشاء دولة كردية، وفقاً لمبدأ ويلسون في حق تقرير المصير. وتمّ تعيين حدود كردستان بالمنطقة المأهولة بالسكان الكرد حول ديار بكر. و أُعطي لأرمينية وعد بمنحها منطقة شاسعة تقع إلى الشمال أكثر، حول بحيرة وهي أيضا مأهولة بالكرد. ودخل الجيش البريطاني إلى الموصل منذ توقيع الهدنة من أجل ضمان إنشاء دولة عربية خاضعة لسيطرتها (وفقا لتقسيم مناطق النفوذ المنصوص عليها في اتفاقيات سايكس بيكو السرية)، وتشمل العديد من حقول النفط في الجزء الكردي من بلاد ما بين النهرين. ولم تتأثر إيران بإعادة التقسيم هذه نظراً لوقوفها على الحياد وعدم مشاركتها في الحرب، ولم يكن من المتوقع ضمّ المنطقة الكردية الغربية الواقعة حول بحيرة أورميه إلى كردستان الجديدة على الرغم من قيام انتفاضة مطالبة بالاستقلال فيها عام 1919.
لكن وصول مصطفى كمال أتاتورك إلى سدّة الحكم أعاد توزيع الأوراق. فقد ترأّس مصطفى كمال حركة قومية في غربي الأناضول من أجل الدفاع عن تركيا ضمن حدودها السابقة بتاريخ توقيع الهدنة، يعني تركيا مع شمال العراق ومعظم الأراضي الكردية. وبمواجهة الاتحاد السوفييتي تمكّن مصطفى كمال من استعادة ولاية قارس. وفي الجنوب تمكّن من الحصول على ترسيم جديد للحدود مع سوريا في عهد الانتداب الفرنسي، يتطابق مع الحدود الحالية بدون لواء الإسكندرون (شمال غربي سوريا في عهد الانتداب)، والذي أُلحق بتركيا في وقت لاحق. و قد تمّ تثبيت هذه الحدود بموجب اتفاقية لوزان التي تمّ توقيعها في 24يوليو/ تموز 1923 و قضت بضم كردستان إلى تركيا على الرغم من الوعد الذي قطعه مصطفى كمال للزعماء الكرد مقابل تقديم الدعم له. وألحقت عصبة الأمم منطقة الموصل بالانتداب البريطاني على العراق في عام 1926 فأنهت بذلك الأطماع التركية فيها.
ازدادت صعوبة وضع الكرد في تركيا خلال عشرينيات القرن العشرين: فقد رفض كمال الاعتراف بخصوصيتهم لصالح رغبته في تشكيل شعور قومي تركي. ولهذا السبب منع استخدام اللغة الكردية. كما أن إلغاء الخلافة وعلمنة الدولة بالقوة وتدمير الأطر الاجتماعية التقليدية دفع بالكثيرين من الكرد إلى العصيان المسلّح في فترة ما بين 1920 و 1930.
وقد تمّ سحق جميع هذه الثورات ولجأت تركيا إلى التعاون مع العراق و إيران من أجل القضاء على ‹العصابات المسلّحة› الكردية – على حد وصفها- وبخاصةِ تلك التي تقوم بعملياتها في المناطق الحدودية.[1]
لماذا فشل الكرد في استغلال الفرصة التاريخية التي سنحت لهم؟
عندما نشبت الحرب العالمية الأولى، كان الكرد متأخرين عن ركب التطوّر مقارنةً بالحركات الأخرى ضمن السلطنة العثمانية وخاصة تلك التي ظهرت في منطقة البلقان وشرقي الأناضول، وقد تجلّى ضعف الحركة القومية الكردية في عجزها عن استثمار الفرصة التاريخية المواتية في ظل الفراغ السياسي الذي أعقب الحرب من عام 1918 إلى عام 1920 إثر سقوط الدولة العثمانية. وحول هذه النقطة، يقول مدير المعهد الكردي في باريس، الدكتور كندال نزان [2] «اقترب المجتمع الكردي من الحرب العالمية الأولى و هو مقسّم، بلا قيادة حقيقية وبلا مشروع مشترك يعبّر عن مستقبلهم. ثم جاءت اتفاقيات سايكس-بيكو المنعقدة عام 1916 لتكرّس تقسيم بلادهم. ودخل الكرد في صراع حول مستقبلهم: ففي حين أن البعض المؤمن بالخلافة الإسلامية، كان يرى خلاص الكرد في الاستقلال الذاتي الثقافي والإداري في إطار الدولة العثمانية، كان البعض الآخر المتسلّح بالأيديولوجيا القومية وأفكار الثورة الفرنسية ومبادئ ويلسون، يناضل من أجل الاستقلال التام لكردستان[3]». و في السياق ذاته أفاد الباحث الكردي، الدكتور نضال حاج درويش ل ARA News: «بعد انهيار السلطنة العثمانية كانت الطاقات الكردية مشتتة ولم تكن تملك قيادات ناضجة قادرة على فهم سياسات الدول الكبرى (كأتاتورك بالنسبة للأتراك) وجذب الناس للالتفاف حول مشروع قومي». ومن جهته قال الباحث والكاتب الكردي، الدكتور علي ميراني في تصريح ل ARA News: « لقد عانى الكرد من صعوبات جمة لم تتح لهم الفرصة كي يستغلوا الاوضاع، كما إن تصدي الكمالية للمشهد في تركيا ووجود عدد من الساسة البريطانيين والفرنسيين ممن لم يكونوا في وارد الاعتراف بالكرد كقومية كان السبب في ذلك، خاصةً وأن دعايات مغرضة نُقلت عن الكرد بانهم ضد الاقليات المسيحية».
تجربة جمهورية مهاباد
في 20أغسطس / آب 1941 دخلت القوات السوفيتية والبريطانية إلى إيران وقضت على نظام رضا شاه، الأمر الذي ساهم في إضعاف مراقبة السلطة المركزية في المناطق الكردية. فأصبح القسم الأعظم من منطقة مهاباد واقعاً خارج مناطق تمركز القوات السوفيتية والبريطانية، وبعد مغادرة السلطات والقوات المسلحة الإيرانية للمنطقة، أخذت تتشكل فيها أجهزة إدارة ذاتية كردية، رفضت الاعتراف بسلطة الحكومة المركزية الإيرانية.
وفي22 يناير/ كانون الثاني 1946 تمّ الإعلان عن قيام جمهورية مهاباد برئاسة قاضي محمد، وقد ضمت أجزاء واسعة من منطقة مهاباد وشنو وميرگه ور وتيرگه ور وسردشت وبانه ومناطق أخرى [4]. وشملت مساحتها 30% من المساحة الإجمالية لكردستان الشرقية. وجاء إعلان تأسيس الجمهورية بعد بضعة أيام من قيام الحكومة الإيرانية بتقديم شكوى إلى هيئة الأمم ضد الاتحاد السوفياتي متهمة إياه بالتدخل في شؤونها الداخلية وعدم تنفيذ بنود معاهدة 1942.
وقد فشلت مساعي الحكومة الإيرانية في إقناع قيادة الكرملين بسحب قواتها من إيران، غير أنها تمكّنت من الحصول على دعم بريطاني وأمريكي في مواجهتها السياسية مع موسكو فحدث انفراج مفاجئ في هذه المواجهة، إذ أعلن الاتحاد السوفياتي استعداده للانسحاب من الأراضي الإيرانية بعد حصوله على امتيازات نفطية في إيران. وأصبحت إيران بعد الانسحاب السوفياتي جزءً من منطقة النفوذ البريطاني والأميركي، وكان القضاء على جمهوريتي مهاباد وأذربيجان من أولى نتائج هذه المتغيرات، فبعدما تأكدت السلطات في طهران من حقيقة الموقف البريطاني الأميركي الداعم لها, وانسحاب القوات السوفياتية، قامت القوات الإيرانية في ديسمبر/كانون الأول عام 1946 باقتحام جمهورية أذربيجان ثم بعد ذلك بأيام اقتحمت هذه القوات مهاباد لتقضي على هذه الجمهورية الفتية، ثم لتقوم بعد ذلك وتحديدا في مارس/آذار 1947 بإعدام قاضي محمد وعدد من معاونيه من قادة الجمهورية ومناضلي الحركة الكردية.
لم يكن شعار جمهورية مهاباد الانفصال بل الحصول على حق الحكم الذاتي رسميا داخل إيران. وشهدت التجربة التي استمرت نحو أحد عشر شهراً تشكيلات وزارية بزعامة قاضي محمد وقوات عسكرية محلية بزعامة مصطفى البارزاني (القائد الكردي العراقي بعد إخفاق تجربته في العراق عام 1945).
ثمة عوامل عديدة دولية وإقليمية وداخلية أدت إلى الانهيار السريع للجمهورية الفتية، أمّا العوامل الدولية فقد تجلّى أبرزها في الصراع السوفياتي مع الغرب الذي استثمرته حكومة طهران، وأمّا العوامل الداخلية فكانت تتعلّق بالمصالح الاقتصادية والاجتماعية للقبائل الكردية وعدم استطاعة الحزب الديمقراطي الكردستاني/إيران اعتماد سياسة دبلوماسية ناجحة في احتوائها فضلا عن الافتقار إلى استراتيجية قومية مع أجزاء كردستان الأخرى (تركيا، العراق، سوريا) إضافة إلى محدودية مساحة الجمهورية إلى جانب الارتجالية والعفوية والعاطفة القومية التي كانت من سمات هذه التجربة[5] .
تنظيم الحركات الكردية في الفترة الأخيرة
اشتعلت ولايات الأناضول الشرقية مجدداً في منتصف ثمانينيات القرن العشرين. وبدأت الأعمال القتالية من جانب حزب العمال الكردستاني PKK الذي أعلن ‹الكفاح المسلّح› ضد الجيش التركي في 15أغسطس / آب 1984، وهو حزب ذو توجه ماركسي لينيني تأسّس عام 1978. وقد نفّذ الحزب حملة اغتيالات بحق موظفين وزعماء قبائل موالين لتركيا. وكانت ردّة فعل الجيش التركي عنيفة، تمثّلت في تدمير آلاف القرى الكردية وتشريد ثلاثة ملايين كردي. وفي فبراير/شباط 1999 ألقت الاستخبارات التركية القبض على عبدالله أوجلان، زعيم حزب العمال الكردستاني، موجّهةً بذلك ضربة قاصمة للحزب[6].
مع سقوط نظام الشاه وانتصار الثورة الإسلامية في إيران، رفض مرشد الثورة الخميني إعطاء الكرد حكما ذاتيا، فدخلت القوات الكردية (بيشمركة الحزب الديمقراطي الكردستاني/إيران) في مواجهات مسلحة مع القوات الإيرانية في كثير من المدن الكردية التي تعرضت لهجمات عنيفة من الحرس الثوري الإيراني ممّا اضطر البيشمركة للجوء إلى جبال كردستان.
وعندما نشبت الحرب بين العراق وإيران عام 1980 تلقى كرد إيران دعما من العراق، واستمرت الموجهات بين الطرفين خلال التسعينيات وقد تعرّض الكرد في هذه الأثناء إلى نكسات عديدة، وتخللتها مفاوضات في بعض الأحيان، لكن في نهاية المطاف استقر الوضع للسلطات الإيرانية وأصبحت المواجهات المسلحة متقطعة و غير ذات أهمية، وفي هذه الفترة تعرّض عدد من زعماء الكرد في الخارج للاغتيال و من أبرزهم زعيم الحزب الديمقراطي عبد الرحمن قاسملو[7].
وفي العراق هدأت حدة الدعوة الانفصالية التي كان سائدة في ثمانينيات القرن العشرين مع إنشاء إقليم كردستان في عام 1991، عقب انتهاء حرب الخليج، بضغط من الولايات المتحدة الأمريكية التي صدمتها عمليات الأنفال السيئة الصيت: قاد صدام حسين في عام 1988حملة عسكرية تمّ خلالها تدمير مئات القرى وقتل الآلاف من المواطنين الكرد وإجبار قرابة نصف مليون مواطن كردي على الإقامة في قرى أقامتها الحكومة العراقية آنذاك خصيصا كي تسهل السيطرة عليهم وتمّ إلقاء القبض على ما يقارب 182,000 مواطن كردي جرت تصفيتهم ودفنهم في قبور جماعية في مناطق نائية من العراق. وقد اعترف الدستور العراقي الجديد في عام 2005 بمنطقة الحكم الذاتي في كردستان البالغ عدد سكانها 4 ملايين نسمة برئاسة مسعود البارزاني. كما سمح الدستور للحكومة الكردية بأن يكون لها جيشها الخاص ( 100000 بشمركة) وعلمها ونشيدها و برلمانها وتمثيلها الدبلوماسي في الخارج. وبدأت ملامح دولة كرديّة تلوح في الأفق، تضمّ كلّ المُكوِّنات والمؤهلات لدولة مُستقِلّة. لديها الأرض والسُكّان والعوائِد والحكومة التي تُتيح ظهور دولةٍ مُستقلّة في الشرق الأوسط[8].
في سوريا، وبتاريخ 12 مارس / آذار 2004 اندلعت في مدينة القامشلي ذات الأغلبية الكردية انتفاضة كردية عقب مباراة كرة قدم شهدت مواجهات بين مشجعي الفريق المحلي (الجهاد) ومشجعي فريق مدينة دير الزور المجاورة (الفتوة)، وامتدت هذه الانتفاضة إلى باقي المدن الكردية واستمرت لمدة 6 أيام. وقد كشفت أحداث القامشلي عن وجود مشكلة كردية في سوريا حاول النظام إنكارها حتى ذلك الوقت. تسّبب قمع هذه الانتفاضة بسقوط عدد من الضحايا بين الكرد وأدّى إلى تجدد المظاهرات في المناطق الكردية في حلب ودمشق، لكن النظام تمكن في النهاية من إخمادها.
ومع انطلاق ‹الثورة السورية› في عام 2011 ظهر الاحتجاج الكردي مجدّدا. وقد أفسحت التعبئة الكردية المجال للخصومة بين حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) والمجلس الوطني الكردي في سوريا (ENKS). فحزب الاتحاد الديمقراطي الذي يُعتبر فرعا من حزب العمال الكردستاني(PKK)، بالرغم من أنه ينتقد النظام، اتّخذ موقفا غامضا من الثورة. وسعى إلى تقديم نفسه كطرف ثالث.
أمّا المجلس الوطني الكردي في سوريا (ENKS) فهو أقرب إلى الحزب الديمقراطي الكردستاني(PDK) وقد انضم الى المجلس الوطني السوري المعارض. أحكم حزب الاتحاد الديمقراطي قبضته على المناطق الكردية في شمال سوريا. وقد تمكّن من وضع قوانينه الخاصة وعدالته الخاصة به وحصل على الإيرادات من الرسوم الجمركية ومبيعات الوقود دون أن يهدّد النظام إدارته الذاتية هذه لأنه لا يريد أن يحارب على جبهة جديدة[9].
الكرد والحرب على تنظيم الدولة الإسلامية ‹داعش›
تحول اهتمام الصحافة العالمية نحو الكرد أثناء تقدم الإسلاميين المتطرفين في شمال العراق صيف عام 2014 وخاصة بعد سيطرتهم على الموصل، المدينة الثانية في البلاد. أعطت فرنسا وغيرها من الدول الغربية الأسلحة والمعدات العسكرية إلى كردستان العراق لمساعدتها على مواجهة الموقف. ومنذ ذلك الحين، وكردستان تقاوم، تستضيف اللاجئين وتدافع عن المدن الكردية المهدّدة في سوريا. وأصبح لدى الكرد فرصة لتوسيع نفوذهم خارج منطقة الحكم الذاتي والسيطرة على مواقع جديدة في مناطق شمال العراق لطالما طالبت بها الحكومة الكردية منذ سنوات.
وقد سيطرت قوات البيشمركة التي تشكّل الآن الجيش النظامي لكردستان العراق، على مدينة كركوك في حزيران 2014 عندما فرّ الجيش العراقي أمام وصول جهاديي تنظيم الدولة الإسلامية ‹داعش›. إن السيطرة على هذه المدينة التي يعيش فيها العديد من الجماعات العرقية والدينية والغنية بحقول بالنفط سوف تشكّل من الآن فصاعدا مكسبا كبيرا لدولة كردستان المستقلة، أو تشكّل قوة إضافية لإجراء مفاوضات مع الحكومة العراقية من أجل الحصول على مساحة أكبر ومزيدِ من الحكم الذاتي.
أما كرد سوريا فقد أصبحوا بدورهم رمزاَ لمقاومة تنظيم الدولة الإسلامية ‹داعش› منذ معركة كوباني / عين العرب التي امتنعت تركيا عن الدفاع عنها خشية أن يتعزّز نفوذ حزب العمال الكردستاني في المنطقة. وقد قدمت الولايات المتحدة الدعم الجوي للمقاومة الكردية وبدأت في أواخر تشرين الاول عام 2014 بإسقاط الإمدادات الطبية والأسلحة إلى حزب الاتحاد الديمقراطي. حاولت أنقرة إثبات حسن نواياها من خلال السماح ل 160 عنصر من البيشمركة، الذين أرسلتهم قيادة اقليم كردستان العراق، بعبور الحدود التركية إلى كوباني. ولكن هذه القوات لم تكن موضع ترحيب كبير، ذلك أن حزب الاتحاد الديمقراطي كان يريد الاحتفاظ بقيادة العمليات وينظر بعين الشك إلى تدخّل اقليم كردستان في شؤونه.
كرد سوريا والفيدرالية
بعد نحو ثلاث سنوات من إعلانه ‹الإدارة الذاتية› في ‹كانتونات› عفرين، الجزيرة / الحسكة، كوباني / عين العرب، بادر حزب الاتحاد الديمقراطي PYD إلى إعلان إقليم فيدارالي (فيدرالية روج آفا- شمال سوريا) في المناطق الخاضعة لسيطرته في شمال سوريا، وذلك في مؤتمر عقد بمنطقة رميلان على الحدود السورية- التركية- العراقية، بمشاركة نحو 40 حزباً ومنظمة، بينها ممثلون عن العرب والتركمان والمسيحيين. غير أنّ تحديات كبيرة تواجه هذه الفيدرالية وتقلّل من فرص نجاحها، بالنظرإلى ردود الفعل الرافضة لهذا المشروع، سواء من المعارضة أو النظام، أو الأطراف الإقليمية والدولية وبالنظر إلى خارطة توزّع السكان تاريخياً، وتداخل المكوّنات السورية في بعض مناطق الإقليم المعلن عنه.
ثمة من يرى أن هذه الفيدرالية غير قابلة للحياة عملياَ، ويعتبرها مجرد ورقة تكتيكية ترمي من خلال رفع السقف إلى الضغط على سير المفاوضات بين السلطة والمعارضة بغية مراعاة حقوق الكرد والتعددية السورية. في حين يرى البعض الآخر أن هذا الإعلان كان قراراَ استراتيجياً من جانب كرد سوريا، يهدف إلى اكتساب الشرعية وكسب التأييد الدولي عند قيام سوريا الجديدة.
وقد تنوعت آراء الأكاديميين الكرد حول فيدرالية التي أعلن عنهاPYD و شركائه، إذ أكّد ل ARA News الدكتور علي ميراني تأييده لهذه الخطوة بقوله : «أنا معها حتى لو كانت مزيّفة، المهم أنها خطوة يمكن البناء عليها، ويبقى الخطأ الأكبر لها أنها لم تعلن من قبل كل الاطراف»، فيما عبّر الدكتور نضال حاج درويش ل ARA News عن رأيه حول الموضوع بصورة مختلفة: « إن إعلان أي مشروع قومي كردي ومن بينها الفيدرالية يجب أن يأخذ في الحسبان مواقف الدول الإقليمية والدولية بالدرجة الأولى، ونحن لا نعلم على ماذا يستند PYD في طرحه للفيدرالية، خاصة وأن القوى الدولية لم تبدي اعترافها بالمشروع ولم تضغط من أجل مشاركتهم في مؤتمر جنيف كما رفضت فرنسا فتح ممثلية لهم في بلدها، هذه الأمور وأمور أخرى تدفعنا للخوف من المجهول. مع كل ما ذكر يبقى مصير الكرد في سوريا مجهولاً وننتظر ما خططه الآخرون لنا».
أما الكاتب الصحفي خورشيد دلي فيرى أن «توقيت إعلان الكرد الفيدرالية مدروسٌ لجهة الظروف والمواقف والتطورات الميدانية على الأرض، إذ سبق أن طرحت أحزاب كردية، ولا سيما المنضوية في الائتلاف الوطني السوري المعارض، الفيدرالية من دون الإعلان عنها، فيما كان وقتها يرفض حزب الاتحاد الديمقراطي الفيدرالية، ويتبنى فكرة الإدارة الذاتية، وسط جدلٍ بشأن طبيعة الفيدرالية ومضمونها، بين من يرى أنها ينبغي أن تكون على أساس قومي، كما هو حال الكرد، تعبيراً عن توقهم إلى إقليم قومي، ومن يرى أن الفيدرالية ينبغي أن تكون إداريةً لا أكثر، شكلاً من أشكال الحكم المحلي، بدلا من المركزي، فيما أغلبية القوى السورية المعارضة ترفض الفيدرالية جملة وتفصيلاً، إذ ترى فيها مدخلاً للتفتيت والتقسيم»[10].
ومهما اختلفت الآراء حول هذا الإعلان غير المسبوق للفيدرالية، فإنّه يشكّل رسالة قوية مفادها أن الكرد مصممّون على تقرير مصيرهم ولا يمكن تجاهلهم، خاصةً وأنهم باتوا يشكلون رقماً صعبا في مجال محاربة ‹داعش›. وقد بات الكرد مقتنعين، بحكم التجربة، أنّهم يشكّلون حالة خاصة لا يمكن مقاربتها إلّا من خلال الطرح الفيدرالي أو ربما الذهاب إلى أبعد من ذلك بالنسبة للراديكاليين.
[ 1 ]– Corentin Denis, «Les Kurdes et le Kurdistan par les cartes : du traité de Sèvres à la guerre contre l’État islamique (EI) » , Les Clés du Moyen-Orient, 13 novembre 2014,
[2] – كندال نزان عالم فيزياء فرنسي من أصل كردي، وُلد في كردستان تركيا عام 1949 و هو يدير المعهد الكردي في باريس منذ تأسيسه في شباط 1983 و حتى الآن. له العديد من المقالات و المؤلّفات (بالفرنسية) في الشأن الثقافي و السياسي الكردي.
[3] -Kendal NEZAN, un aperçu de l’histoire des kurdes, www.institutkurde.org, consulté le 15 juillet 2016.
[4] – م. س. لازارييف و آخرون، تاريخ كردستان، ترجمة د. حاجي عبدي، أربيل، الطبعة الثانية، 2011، ص 260-261.
[5] –أورماني، جمهورية مهاباد، 2 يونيو/ حزيران 2009 ، معهد زاخو التقنيztie.org
[6] – Corentin Denis, «Les Kurdes et le Kurdistan par les cartes : du traité de Sèvres à la guerre contre l’État islamique (EI) », ibid.
[7] – شفيق شقير، محطات العمل المسلح للكرد في إيران، الكرد و دروب الحياة الوعرة، منشورات شبكة الجزيرة، 2006، ص 79.
[8] – Corentin Denis, ibid.
[9] – Corentin Denis, ibid.
[10] – خورشيد دلي، كرد سورية و الفيدرالية، العربي الجديد، 29 مارس 2016.[1]