#بدري نوئيل يوسف#
حدثني الشيخ الجليل انه اليوم الاثنين ، الثالث من آب ، يصادف الذكرى السنوية الاولى للأحداث التي شهدها قضاء سنجار بعد دخول المسلحين للقضاء ، قال لي قبل عشرة اشهر كنت في زيارة صديق وانتظر عودته ، عاد إلى المستشفى وقد تملكه حزن شديد وتترقرق الدمعة في عينيه المهمومتان .
حدثني قائلا : استأجرت سيارة اجرة تقلني الى مخيم اللاجئين وبعد ثلاث ساعات وصلت مقصدي حاملا رسالة من مقاتلة ايزيدية وباقة زهور حيث يقيم النازحون واللاجئين بين أحضان الخيام ارى الأطفال وهم يلعبون ويقفزون ويركضون بين الاوحال والأطيان والصخور وشوارع المخيم مليئة ببرك المياه ، سألت احد النازحين عن رجل في العقد السادس والد المقاتلة أرشدني الى خيمته ، استقبلني الرجل عند باب الخيمة ، بعد السلام قدمت له باقة الزهور ، ضمها الى صدره واشتم رائحتها ، جلست بجانبه فوق فرشة صغيرة مفروشة على ارضية الخيمة ، يظهر عليه الحزن ولا يفارق قلبه ، اعطيته الرسالة التي احملها وبدأ يقرؤها بهدوء شعرت ان الدموع انهارت على وجنتيه وأحستُ كأنها حمم تحرق وجهه ، قال لي والد المقاتلة بنبرة حزينة باكية :خذ اقرأ الرسالة التي حملتها لي من المقاتلة . اخذت الرسالة منه وبدأت اقرأ بصوت خافت .
ابي العزيز حامل هذه الرسالة ستعرفه بعد قراءة رسالتي .
والدي أهدي إليك تحيّة من صميم القلب وشوقا يجلّ عن الوصف ، ولوالدتي أهدي إليها سلاما مقرونا بالودّ ، مفعما بالحبّ . بعد معركة حربية قتالية شرسة دامت ايام دخلنا المدينة العتيقة سنجار ، مدينتنا ذات القلب العريق بنمطه الخاص ، التي اصبحت أطلالا ، بيوتها محترقة ورائحة الموت والبارود في كل شارع وآثار الدمار والخراب في كل زاوية ، انتابني الذعر والخوف لمنظر المدينة كأنها شهدت اعصارا ،كانت هادئة اسمع حفيف الاشجار واشعر بريح الشمال محملة بالبرودة واندفاعي بسرعة نحو منزلنا وبيت ذكرياتي وأحلامي السعيدة ، شعرت انني اصبحت بعيدة عن اخواني المقاتلين وأخواتي المقاتلات ، ولا مجال امامي للتراجع لاني سأقع في كمين او يصيبني احد القناصة المختفين في احد البيوت المهجورة ، توقفت وحضنت بندقيتي وأسندت ظهري بسياج منزل متهدم ، كتمت فرحتي وأنا ادخل المدينة بعد تحريرها ، ما أصعب أن يقع الإنسان في قبضة الخوف ، شعرت برجفة الخوف اعاتب نفسي على استعجالي والابتعاد عن المقاتلين ، ارى من بعيد المقاتلات يلوحن لي ان احمي نفسي او اتراجع للمنطقة الامنة ، جالت بخاطري عدة أسئلة ، لا حل أمامي سوى ان اجد مخبأ لحين اصل الى بر الامان ، اسمع بين الحين والآخر صوت تراشق الرصاص قادم من مجهول ، تشجعت وأتمتم مع نفسي : سَنرجعُ يوماً إلى حيِّنا ، ونغرقُ في دافئاتِ المُنى ، سنرجعُ مهما يمرُّ الزمان .
بعد دقائق تقدمت في خطى مترددة وأنا أتحسس الشارع المقفر بهدوء وحذر نحو المكان الذي تقف فيه المقاتلات او حتى اجد مخبأ احتمي فيه ، وأنا اواجه ريحا عاتية تصفع وجهي وتلسع ساقي وتتسرب تحت ملابسي فيقشعر جلدي ويرتعش جسمي وتصطك أسناني من الخوف والبرد ، فانطلقت اهرول بهدوء حانية ظهري دافنة رأسي بين كتفي وأصبعي على زناد بندقتي ، ومن حين لآخر أمسح وجهي من العرق ، وقد استحال نبعا لا يجف ماؤه رغم برودة الجو ، توقفت عند منزل مهجور متهدم لكي اخذه مخبأ لي ، سمعت صوت انين المتوجع من الالم يئنّ أنينا خافتا ، اشتدّ فزعي و اشتدّ بي الخوف وانهمرت الدّموع من مقلتي ارتعدت مفاصلي ، وانهارت أعصابي بعد أن اصبحت وحيدة في الشارع ، ارى من بعيد اخواني وأخواتي يترقبون لحظة الوصول لموقعي أو اصل اليهم ، كانت لحظات قاسية ومريرة ، وأنا اقول يا الهي انقذني من هذا الموقف العسير ، تكرر سماعي للصوت ولكن هذه المرة سمعت صوت خفيفا هادئا ينادي عليه قائلا : انت يا حسناء سنجار . أخذ قلبي يخفق بشدّة من الخوف وجفّ ريقي ، و تراجعت إلى الوراء كالمصعوق ، و انحبس صوتي في حلقي و لم أعد قادرة على النّطق من شدّة الفزع و الاضطراب وأسندت ظهري على سياج احد المنازل ارصد المدينة ارى قباب ومنارات مهدمة وأبواب منازل محطمة وأزقة مملئة بالأنقاض تهب ريح تحمل معها غبار الشارع ، قلت مع نفسي : لن اخاف الشهادة لكن اخاف ان اقع ضحية وفريسة نتيجة استعجالي والابتعاد عن صديقاتي المقاتلات .
سمعت الصوت مرة اخرى ينادني يا حسناء سنجار ، شعرت بخفقان شديد في قلبي وارتعاش قويّ في أطرافي و قشعريرة تعمّ كامل جسدي وقلت في نفسي : هذا الصوت ليس وهم انه صوت انسان يتألم ، قريب من مكان وقوفي في الشارع .
سمعت الصوت مرة اخرى يقول بهدوء :تعرفين يا حسناء في ليلة من الليالي ، حل الظلام معلنا عن ظلامه ، اختفى نور القمر بالغيوم السوداء القادمة على المدينة ، خيّم على المكان إعصار الحزن والأسى ، اصبح اليوم سكان مدينتنا الجميلة مهجرون متشائمون منتشرون تائهون ضائعون في السهول والوديان والجبال وعلى قارعات الطرق وأرصفة الشوارع .
بادره قائلة بهدوء ولا اعلم مع من اتكلم : منهم والديّ فهم يقيمان في مخيم بعيدان عن ارضهم يحتميان خلف جدران وحصير وخيام ، هكذا ما فعلوه بالأمس مع أجدادهم عندما اخرجوهم من المدن ، بل يظنون انهم يقدموا خدمة لله.
تشجعت والتفت نحو الخلف اتصنت مصدر الصوت انتهت الحيرة و انقشع الحزن ومات القلق ، رأيت شابا ملتحي الوجه شاحب الوجه جميل الطلعة جريحاً يظهر الألم على وجهه مطروحا على الارض خلف سياج المنزل .
رفعت رشاشتي بوجه و سألته باندهاش: من أنتَ .
قال لي بنبرة حزينة وصوت خافت : أنا أحد أبناء هذه المدينة الذين شربوا من مياهها وأكلوا زادها ووضعوا بين أيديها مصيره ومنحتي ثقتها ، أنا لست من طَعنها بخنجر مسموم في ظهرها ، ولست من اعدائها الذين ثملوا فرحاً ورقصوا طرباً على جراحها .
تقربت بهدوء نحوه ووضعت بندقتي خلف ظهري وقلت له باستغراب لم افهم قصدك وماذا تقول : من أنتَ.
قال بهدوء :يا حسناء سنجار ، أما سمعتَ أن الزمان يأخذ الحبيب ، أنا ابن هذه المدينة التي اصبحت كنائسها ومساجدها مهجورة محروقة ومعابدها مهدمة ، مآذنها باكية ، قبابها دمرت ...من أنتِ .
قلت له : أنا بنت هذا المدينة التي احببتها حبا لا يوصف ، ومن تربعت في قلبي وجعلت حبها وساما على صدري ، ومنها تغار الشمس والقمر وكل البشر ، وطني يا اغلى من عمري ، لأجلك اطرح العالم جانبا فقلبي لن يضم إلا حبك وصدري لن يضم إلا شوقك وحنانك .
تقربت منه اكثر وشعرت انه يستغيث كي اسقيه الماء ورفعت رأسه وبللت شفتيه بعض قطرات الماء التي معي وقلت له : تعال معي لأخذك الى اقرب مستشفى .
قال لي : يا حسناء لقد مضى عليه ثلاثة ايام وأنا جريح .. ولا اقدر ان امشي .
قلت له : انا سأحملك على ظهري وأوصلك الى اصدقائي المقاتلين .
قال : سيقتلوننا القناصة او نقع في كمين .
قلت له : لا تخاف ، المسافة بينا وأصدقائي قريبة لا تزيد عن خمسمائة متر.
كنت احمل معي بعض الضمادات وضعتها على جرحه وقلت له مستفسرة : أين اصدقائك المقاتلين ؟ قال بصوت خافت : كنا مجموعة من المقاتلين نصد هجوم مضاد وبالمقابل كانوا اكثر منا عدد وأسلحة متطورة ، على اثر هذا الهجوم جرحتُ ولم اخبر اصدقائي المقاتلين خوفا عليهم من ان يصابوا عند اخلائي من المعركة ، زحفت بهدوء واختفيت هنا خلف هذا السياج ، ثم اردف قائلا تراجع اصدقائي للخلف وكنت على ثقة سيأتون لإنقاذي ، وكان معي بعض الضمادات عالجت الجروح .
قلت له مندهشة : لكن اصابتك في قدميك.
قال : اصابتي من شظايا لغم انفجر بالقرب مني ، الحمد الله لم تكن قاتله .
قلت له مستفسرة : ولكنك تحتاج الى علاج قبل ان يزداد الالم وتصاب بمضاعفات لا تحمد عقباها .
قال لي بنبرة حزينة : ولكني لا استطيع المشي والنهوض . فقد أصبحت ساقاي غير قادرتين على حملي .
قلت له : سأحملك على ظهري ، لا تهتم ، انا قادرة على ذلك المهم ان نصل الى الاخوة المقاتلين .
غمرته سعادة لا توصف وظهرت على شفتيه ابتسامة هادئة ، شجّعته بأطيب الكلام داعية لنا بالتّوفيق والوصول الى اقرب مساعدة ، حملته على ظهري كطفل صغير وعلقت بندقتيه على ظهره وبيدي احمل بندقتي وخرجت نحو الشارع متجه نحو اخواني وأخواتي ، كانت لحظات قاسية ومريرة ، وأنا اسير منحية الظهر ، ولكن العناية الإلهية كانت سببا في انقاذنا من هذا الموقف العسير ، كاد قلبي يقفز من بين أضلعي فرحا وسرورا عندما شاهدت اصدقائي المقاتلين اقتربوا منا حملوه وأخذوه الى الوحدة الطبية .
بقيت في الجبهة مع المقاتلات نقوم بواجباتنا وحماية المدينة من الغرباء ، وتوالت الأيام متثاقلة متباطئة ارتسمت علامات الحيرة على محياي يا للمصيبة وأحسست بندم لقد نسيت أن أساله ما اسمه ، وأين اجده ،كنت أتحرق شوقا ان اعرف ما جرى له . لقد كان شاب تتوقّد في عينيه عزيمة الابطال وعلى شفتيه ابتسامة هادئة رغم اصابته.
يا لها من مفاجأة سارة خلفت في نفسي البهجة والسرور والفرح عندما اتصل معي قائد كتيبتنا ويعلمني ان الجريح بخير ويرقد في المستشفى لتلقي العلاج ، طلبت منه اجازة لزيارة الجريح ووافق القائد على ذلك .
في اليوم التالي تركت سنجار متجهة نحو المستشفى ، على كل حال وصلت الى الغرفة التي يقيم فيها داخل المستشفى وجدته يقف امام النافذة ينظر للخارج كأنه متوقع مجيء ، وقفت عند باب الغرفة مترددة خائفة من الدخول عندما رأيته مبتور احد الساقين ، التفت نحوي مبتسما كان منشرح الصدر تعلو وجهه علامات الغبطة .
قال بفرح وسرور : كنت اتوقع مجيئك للمستشفى وكنت انتظرك ، يا حسناء لو كنت اقدر أن أهديك قلبي لنزعته من صدري وقدمته إليك وأسجل أيام عمري باسمك ، وأقول لك إذا لم تجمعنا الايام جمعتنا الذكريات ، انت هدية لي من السماء عندما وصلتِ الى المنزل المهجور ، انت انقذت ساقي الواقف عليه .
قلت له : لماذا ناديتني حسناء .
تقرب مني يمشي على ساق واحدة وعكازان وقال مبتسما : ماذا تحبين ان اقول لشابة لها عينان زرقاوان جميلتان ، يا
أطهر وجه في الدنيا ، في عينيك الواسعتان رأيتُ فيهما الأمل ، تحمل بندقية الى جانب رفاقها الرجال لتحرير وحماية مدينتها ووطننا ، أنتِ وصديقاتك المقاتلات اشتركم بهذه المعركة لتعيدوا للمرأة حقوقها التي سلبوها ، لا اريد ان اطيل الحديث اقول لك اهديك قلبي وحبي وعمري لقد اصبحتِ كل شي في حياتي . أنت المنتظرة .
قلت له : لا أملك أي رد ، لان الكلمات التي اسمعها منك صادقة ، عندي قلب وعندك دقاته ، لم أستطع التّعبير عن بهجتي وغبطتي بالكلام ، سأكتب لوالدي رسالة خذها وسلمها له فهو يقيم في مخيم للاجئين والنازحين . وخذ الجواب منه ، لم ينبس بأي كلمة لكنه هز رأسه موافقا مبتسما بهدوء وفرح .
يا والدي العزيز اكتب لك هذه الرسالة و ما جرى معي وحاملها هو الشاب الجريح الذي انقذت حياته ، سيطلب منك يدي فأنت ولي امري والرأي الاخير لك ، أسأل الله القدير أن يوفّقني لرضاك ، و أن لا يحرمني من عطفك .
التوقيع ابنتك المقاتلة
طويت ورقة الرسالة وأعطيتها لوالد المقاتلة الحسناء، قلت له : كانت مقاتلة شجاعة .
قال لي والد الحسناء مستفسرا : متى رأيت الحسناء أخر مرة .
قلت له : رأيتها عندما زارتني في المستشفى و جلست الحسناء في غرفة الانتظار كتبت الرسالة ووضعتها في ظرف وسلمتها لي ثم ودعتني قائلة : لم افكر يوما في حمل السلاح لكنني ادركت ان الامة كم تحتاجني وللمرأة حقوق ولهذا اخترت هذا الطريق ، و إنّي لأدعو لك بالصّحّة الكاملة وأن نلتقي في اقرب وقت ، خذ مع الرسالة باقة زهور الى والدي فهو يحب الطبيعة والحرية ، ثم قبلتني على جبيني وخرجت من الغرفة بعد ان امتلأت عيناها بالدموع عائدة الى جبهة القتال على امل ان نلتقي بعد ان استلم موافقتك لزواجي منها .
سأل والد المقاتلة مستفسرا: ولماذا تأخرت عن المجيء .
قلت له بهدوء وتوضيح : مرت الايام و أنا أعدّ السّاعات ، و أنتظر بشوق خروجي من المستشفى لان الطبيب المشرف على علاجي منعي من الخروج حتى تلتئم الجروح وبعد تسعة عشر يوما وفي صبيحة هذا اليوم بطقسه الجميل جاءني الطبيب وقال لي : تستطيع الخروج فأنا مطمئن على صحتك ، غيرت ملابسي وعلى الفور خرجت من المستشفى احمل معي أحلامي السعيدة والوصول الى دنياي الجديدة .
قال لي والد الحسناء بنبرة حزينة : ابني لقد جئت متأخرا حسناءك التي تبحث عنها ليست في جبهة القتال ، انها تقيم منذ عشرة أيام في مقبرة الشهداء ، سَقت بدمائها ارض الوطن ، خذ هذه الزهور وضعها على قبرها .
عانقني والدها وهو يجهش بالبكاء أسفا وحزنا على فقدان الحسناء، ودعته حاملا باقة الزهور متجها نحو مقبرة الشهداء..[1]