جاسم عاصي
نجد في اشتغال الفنان #إسماعيل خياط# عبر تجربته في التخطيطات (الأقنعة) محاولة لتداول حراك الأزمنة، ضمن جدلية حراك الوجود، مختاراً لها كفضاء للعرض (المقبرة) وهي تجربة تنطوي على معاني تتركز في جدلية الوجود والموت، كظاهرة تحتفظ بعناصر الانبعاث. ولعل اختيار المكان هنا منبعث من نظرة الفنان الداعية إلى إعادة شكل الحياة وسط كون يحتوي الانغلاق والمحو.
إن إعادة الحياة يعني انبعاث حيوات الوجود من جديد. فالتجربة توحي بالإيمان المطلق بموت الكائنات من جهة، وانبعاثها من جهة أخرى، بمعنى تحقيق حراك أسطوري، رافق الإنسان منذ الأزل، ابتداء من دفن الأخ لأخيه، تمثلاً لفعل الغراب. غير أن موت الكائنات آنذاك لم يوقف حركة الوجود، والدليل امتداد الحياة وتواصلها مع الخلق الجديد، فالفنان بتجربته هذا يؤاخي بين رموز الموت، وبالمقابل يقترب من رموز الانبعاث والتجدد ضمن دارة زمنية مستمرة في الإلغاء والتجديد.
فعل معاكس
إن تجدد مسعى الفنان؛ هو فعل عكس الإيمان بجدلية الحياة، فاختياره المكان ضمن موضعين أساسيين هي (مقبرة في السليمانية وخانقين) دليل على تواصله لتقديم خطاب فيه تنوع، وإن تواصل مع رموز قارة كالطير والسمكة. إلا أنه بوضعه مثل هذه الرموز ضمن موقعها الدال على فعالية فنية أولاً، ثم فعالية فكرية ثانياً. إنه فنان مزحوم بحراك فكري. صحيح يمكن افتراض أنه خصص حيزاً رمزياً، تموضع ضمن مكان ثابت بالصورة والدلالة، إلا أننا نرى في مثل هذا الحراك الجمالي، نوعا من استدراج الحياة والوجود الإنساني إلى حقيقة فلسفية، تموضع معها وفق رؤى مكشوفة من الخارج، لكنها مضمرة في متنها الأسطوري أي الدلالي، إن رموز (خياط) أكثر حيوية في تموضعها، أي توظيفها. وهذه سمة شملت تشكيلاته السابقة واللاحقة، سواء في التخطيطات أو الأقنعة. يبدو لي أنه بصدد استكمال محيط الدائرة الفنية لاحتواء المنطق الفلسفي.
في اللوحات ثمة نشاط تخيلي، استطاع من خلاله أن يستنبط الأسود عبر وجود الأبيض والعكس صحيح. فهو كفنان كثير التداعيات الذهنية، قادر على صياغة متنه الفني عبر أشكال هي مندمجة بالرؤى الأسطورية. فالمخيال الفني دفعه وبحراك فكري ذهني إلى وطئ المناطق غير المحسوبة. وتلك منطقة العمق المحققة بفعل العفوية الفنية. لأنها أساساً معتمدة على رؤى قارة. وهذه الرؤى مارست فعل التجدد في الاختيار، ما توفر على المنبعث وليس المتكرر. إن صياغة العلاقات بين الأشكال؛ تُعد من أصعب المهام الفنية، لأنها تترك أثرها الدال على النمطية. غير أن ما نلاحظه، لاسيما في تفاصيل القراءة للوحاته؛ أنه قادر على الصياغة الجديدة من خلال رموز ودالات معدودة. ففي هذا يتبع الفنان حيوية الذهن المرتبطة بالعقل. والعقل من قاد الإنسان الأول إلى جدار الكهف. فهي بالمعنى العام للوجود، البحث عن الملاذ. وجدار (خياط) يتمثل هذه الحقيقة والجدلية الجمالية لتحقيق النوع.
في اللوحات ثمة نشاط تخيلي، استطاع من خلاله أن يستنبط الأسود عبر وجود الأبيض والعكس صحيح. فهو كفنان كثير التداعيات الذهنية، قادر على صياغة متنه الفني عبر أشكال هي مندمجة بالرؤى الأسطورية.
تنوعات العزف على المكونات
ما نقصده بالمكون ؛ هو الأسود والأبيض، الذي خلق الأشكال. وما نعنيه بالتنوع هو الاستخدام المتجدد والمنبعث من النظرة إلى كلا المكونين. لذا نرى أن حراك الأول (التنوع) على الثاني (المكون) يعمل على استغلال واستثمار الرؤى الموسيقية في حركة الأشياء، بحيث تتحول فضاءات اللوحة بأشكالها المتظافرة، عبارة عن تخيلات، وهي كذلك، غير أن تخييلها نابع من صلب واقعيتها. ودليلنا على هذا كون اختيار مكان العرض، وطبيعة مكونات اللوحات فيه قوة جدلية، ويقين فكري ثابت بمعنى مستقر ومتحول بمعنى ديالكتيكي الحركة. ومن هذه التنوعات النصية التي وجد فيها الفنان نوعا من الانتهاك للجسد، ليس من باب رثاء الجسد، بقدر ما هو الضرب على تنوع مصادر هذا الانتهاك في الوجود المادي، واستقراره بدعة تحت المدفن. هذه المعادلة التي قد تتحول إلى الفلسفية في الرؤى، إلا أنها تشمل النظرة الهيولية التي عليها الوعي العام ما بعد الموت والفناء. فرؤية الفنان هنا تُزاوج بين المعتقدات والرؤى الميثولوجية، لغرض عكس النفس البشرية ما بعد الفناء الجسدي. فهو ينظر من خلال معتقد وجود الحياة الأخرى ما بعد الموت. لذا نجده يُسفر عن توظيفات متعددة من أجل بلورة هذا المعتقد، الذي هو من بناة فكره ونظرته الميثولوجية للوجود واللاوجود. أي الوجود في الوجود المفترض. كما أن الاطمئنان على هذا العالم المفترض، وضع له دالة مهيمنة هي مجموع الطيور، مستثمراً دلالاتها الأسطورية. إذ يضعها ضمن حراك متباين، لكنه يصب في دلالة موحدة. فالطيور التي تتخذ لها أشكالاً من الحراك، هي نوع من خلق الاطمئنان الدالة عليه صورة الطائر الجاثم، ومن حوله مجموع الطيور. إن الفنان يُفيض في توظيفه لصورة الطير، لأنه ومن منطلق الحس الصوفي يدرك الدلالة أولاً، ثم يسبر متن المعنى من خلال الملاحقة ثانياً. بينما نجده في لوحة أخرى محققاً لصراع فلسفي واضح، عبر تنوع أشكال الطير، كذلك قدرته على احتواء لحيوات الأخرى. فالرؤى بدت متمكنة من الإمساك بأطراف جدلية وجود الموجودات، ورسم حراك لها يصب في المنحى ذاته الذي يؤكد رؤيته.
إن الأشكال هذه دليل على تداول الأفكار ذات التماس بفكرة الفناء، وجدلية الانبعاث. وقد نجدها في أكثر من لوحة؛ يعتمد التداعي الذهني، المعبر عنه بتعدد هيئات وأشكال وحراك الطائر، ضمن تحقيقات براءة الطير ونقاء سريرته. فالاشتباك بين الأشكال دليل على قدرة الطير كرمز أسطوري قادر على توليد الدلالات المتنوعة من خلال وجودها ضمن كادر اللوحة. ولعل تشابك الرؤى؛ قد تكرر في لوحات أخرى، ولكن على أنماط متباينة، ولا نقول مختلفة.
فالرؤى بدت متمكنة من الإمساك بأطراف جدلية وجود الموجودات، ورسم حراك لها يصب في المنحى ذاته الذي يؤكد رؤيته.
لأن الاختلاف يعني الاستقلال في التوظيف، بينما ما نجده في لوحات إسماعيل نوعا من تعدد التوظيفات، وتغير نمط الرمز بدلالة حركته بين مجموع حراك النوع. فالاشتباك هنا دال على حيوية الرؤى المندمجة بفكرة أو ظاهرة الفناء، والطير دال على البشارة. تماماً كما فعل في كشف اليابسة ل(نوح) ولمن في السفينة. فهم رعايا شكلوا الأنواع في نوع واحد متوحد هو الانبعاث من بعد هيمنة شبح الفناء. فالطير رمز متعدد الدلالات، لعل أكثرها دلالة؛ هي التلقائية في الوجود التي تُرحلها إلى المنظور الفلسفي لجدية الوجود، باعتباره رمزاً للانعتاق.
ولعل اختيار شكل الدائرة إطارا لإحدى لوحاته، دافعها التعبير عن دوامة الوجود الإنساني، أولاً، وتمكن الرؤى من تحليل الواقع والحقيقة الناتجة عن الفناء ثانياً، من خلال الاستجابة لتعدد تنفيذ هذا الفناء كالحروب مثلاً، ثم تمكن ذات الفنان من تخييل مثل هذه الحقائق التي عبرت من متنها الواقعي، إلى الحقيقة الفلسفية. ويكرر الإطار نفسه، ولكن بمحتوى أكثر اشتباكاً، متخيلاً لحظات صيرورة ميثولوجية تعددت فيها الأشكال. وهي أشكال أكثر حدة عبر التجاذب الحاصل بين الأطراف، ورأس الطير شكل عنصراً حاضراً ضمن كثافة الأشكال. ويركز أكثر على شكل الطائر الذي تقنع بالقسوة، من خلال حجم الرأس، وإضفاء بنيات تشويهية تُنذر بالخراب الروحي. ويؤكد أيضاً وبالإطار الدائري للوحة على شبح الموت بتعدد الرؤوس واضمحلال قسماتها. وكمعادل فني، نجد أن المساحة التي يحتلها الطير عابراً سماء فضاء الرؤوس، متوازناً تماماً. فالوجوه بدت كأقنعة ضامرة. وهي أقنعة الفناء الأبدي.
إن التشوه في الشكل في لوحات الفنان دليل الموقف الفكري إزاء جدلية الموت والحياة. لذا يلجأ إلى إضفاء أشكال على الشكل، بحيث يضعه ضمن دائرة القسوة والهجينية في التكون. وهو موقف إدانة للظاهرة متمثلة الشكل المشوه لحيوان هجين. إن خلق المعادل الموضوعي في اللوحة، يأتي من خلال تعدد المستويات الدائرة في مساحتها. والفنان يعمد إلى اختيارات أكثر تعبيراً ليس عن أشكال كينونة المكونات، قدر ما محاولته للانتصار للإنسان وحقيقته فالطير معادل متواصل مع وجود الإنسان، لأنه يمثل جدليته في الحياة والفناء والانبعاث. فحيوية الطير مرحلة إلى الوجود البشري، لإنقاذه أو رثائه على الأقل.[1]