#فؤاد حمه خورشيد#
( الغذاء الذي كان يقدم للبارزاني في مقر قيادته ربما كان أفقر من الطعام المستهلك في أية قرية كردية )
دانا ادم شمدت
كان البارزاني الخالد ، بين الكورد ، شخصية أسطورية الإبعاد، وكانت حياته وسيرته الشخصية تشكل وتجسد تلك الحياة الأسطورية لدى الكورد قاطبة . كان البارزاني رجلا , ولد، وترعرع ، ونضج لقيادة الآخرين في الحرب ، وكانت ثوراته، وأعماله البطولية المسلحة، وقصة منفاه في الاتحاد السوفيتي لمدة اثنتي عشر سنة، ثم عودته المجيدة منها، وبطولاته طويلة الأمد لنيل الحقوق القومية الكوردية تشكل جميعها معينا منح الكورد في كل مكان - ليس في كوردستان العراق وحسب بل في كوردستان كل من تركيا وإيران وسوري وكورد الاتحاد السوفيتي السابق – شعورا لا حدود له بالفخر للانتماء لهذه الأمة والتي لم يسبق لهم ان شعروا به من قبل. بل ان شجاعته وثبات جنانه في مواجهة أعدائه وبطولاته أضرمت نار القومية الكوردية في جسد كل كوردي .
كان البارزاني الذي تفولذ عوده في ساحات المعارك ، رجلا لا يلين ولا يمكن لعاديات الزمن من ان تفت في عضده، وصلابته ، ومبدئيته ، لأنه كان رجل الموقف والكلمة الذي لا يمكن ان يساوم على مبادئه القومية والوطنية. فبالرغم من مرضه ، في سنواته الأخيرة، بسرطان الرئة، ، ورغم مأساة مؤامرة الجزائر الدولية الخيانة في 6-03- 1975، التي أعطلت ثورة أيلول المجيدة لفترة وجيزة ، ضل هذا الرجل الأسطورة على موقفه الرافض للاستسلام للمؤامرة الإقليمية والدولية تلك ، فحاول ان يفلت من الرقابة الجبرية المفروضة عليه في ايران وان يحط في أوائل شهر أبمن ذلك العام في مطار جون كندي ذاهبا الى الولايات المتحدة الأمريكية بحجة العلاج، في عيادة (مايو) بولاية منسوتا ، فقد أراد الوصول الى الولايات المتحدة وكان هدفه الأساسي من ذلك لا كي يتلقى عناية طبية لأفضل وحسب ، بل كي يدافع عن قضيته القومية أمام عراب مؤامرة الجزائر هنري كيسنجر شخصيا باعتباره وزيرا لخارجية الولايات المتحدة الأمريكية آنذاك،وكذلك الاتصال بأصدقاء الشعب الكوردي مثل السيناتور هنري سكوب جاكسون، الديمقراطي المحافظ ، من ولاية واشنطن، وجورج ميني ، رئيس الاتحاد الأمريكي للعمل، وربما تسنح له فرصة يتحدث فيها مع الجمهور الأمريكي حول المؤامرة الدولية ضد الأمة الكوردية. هكذا استخدم البارزاني الخالد قضية مرضه للوصول الى بعض أصحاب القرار والمؤثرين فيه في الولايات المتحدة لإنقاذ شعبه من المؤامرة التي تعرض لها .
كان شاه ايران متفق مع وكالة المخابرات المركزية الأمريكية على جعل زيارة البارزاني الخالد للولايات المتحدة سرية، ومنعه من الاتصال بمن يريد، وكانت الزيارة مشروطة بتحديد تحركاته واتصالاته ، ومراقبته على مدار الساعة في الولايات المتحدة، لكن البارزاني الخالد، استطاع بذكائه من الإفلات من مراقبة وكلاء السافاك والمخابرات المركزية ، بإرسال صديقه محمد الدوسكي من مشفاه الى العاصمة واشنطن كي يتصل بالسيناتور جاكسون وكل من جورج ميني وارنست لي (صهر جورج ميني). وعند عودة محمد الدوسكي وجد ان غرفة البارزاني الخالد مطوقة بالسافاك ورجال المخابرات المركزية، فقام كل من السيدين مسعود البارزاني(نجل البارزاني الخالد ورئيس إقليم كوردستان حاليا) وشفيق قزاز المرافقين للبارزاني الخالد بدعوة مجموعة السافاك ورجال( سي. أي . ئي) لتناول العشاء في احد المطاعم وتأخيرهم هناك متعمدين على مائدة الطعام لمدة ساعتين كانتا كافيتين للبارزاني الخالد للقاء محمد الدوسكي في غرفته والتشاور معه ، واستماعه الى الرسالة التي بعثها له السيناتور جاكسون، والتي قرأها عليه الدوسكي ، والى الرسالة الشفهية من جورج ميني. وتمهيد الطريق سرا لان يسافر البارزاني الخالد الى واشنطن لإيصال ما لديه وعرض المشكلة الكوردية هناك ، ولكن بدلا من ذلك فوجئ البارزاني الخالد بان المخابرات المركزية كانت تصر على ضرورة عودته الى طهران، ومع انه عارض قرار العودة بادعائه عدم توفر العلاج الكاف تمرضه في طهران, وطالب ان يمنح فرصة ، ولو قصيرة، لمواجهه هنري كيسنجر وزير الخارجية ليشرح له الأمور كما هي في مسارها الصحيح ، لكن ذلك لم يحصل وبدلا من ذلك وبسبب المطالب الملحة ، استمع جوزيف سسكو وكيل الخارجية الأمريكي للشئون السياسية للبارزاني الخالد . لقد تكلم البارزاني الخالد معه بلهجة شديدة، وأبدى استياءه من الأسلوب الذي عومل به الشعب الكوردي, وتكلم معه عن الثقة التي وضعها الشعب الكوردي بالولايات المتحدة وقال لسسكو:انه لم يسبق له ان وثق بالشاه, لكن عندما دعمته الولايات المتحدة وثق في عدم التخلي عن الشعب الكوردي .عاد البارزاني الخالد الى طهران في أواخر تشرين الأول من عام 1975.
حاول البارزاني الخالد العودة ثانية الى الولايات المتحدة ، رغم تزايد مخاطر مرضه . لقد عارضت الحكومة الإيرانية وكذلك السفارة الأمريكية بطهران منحه الفيزا اللازمة، فقرر البارزاني الخالد التحرك من داخل الولايات المتحدة عن طريق صديقه محمد الدوسكي. وبجهود هذا الصديق سمحت وزارة الخارجية الأمريكية منح البارزاني الخالد تأشيرة الدخول (الفيزا) شريطة عدم الاتصال بالصحافة او إلقاء الخطب او الكلمات، لكنه سيكون في هذه المرة بدون مراقبة. وفي حزيران 1976 عاد البارزاني الخالد ثانية الى الولايات المتحدة للعلاج والنضال.
كانت مراجعات البارزاني الخالد لمستشفى جورج تاون تتضمن التقاط صور إشعاعية معالجات كيميائية لمرضه، وكذا الحال في مستشفى سيبلي. وفي تلك الفترة اجتمع البارزاني الخالد بأعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي كل من جاكسون وبروكسمير وجورج ميني عضو الكونكرس عن نيويورك، وستيفن سولارز وآخرون. كما كان يبدي غضبه واستنكاره من المنع الذي فرضته عليه وزارة الخارجية للاتصال بوسائل الإعلام مع ان الصحافة الأمريكية التي كانت تلح عليه وتطالبه بإجراء لقاءات معها.
في ربيع 1977 دعت السيدة الفاضلة ( روبيرتا كوهين) المدير التنفيذي للاتحاد الدولي لحقوق الإنسان( الجماعة الأمريكية الوحيدة آنذاك لحقوق الإنسان) البارزاني الخالد لزيارة مكتبها في نيويورك بعد ان شعرت بالغضب من انتهاك وزارة الخارجية لحق البارزاني في الحديث والالتقاء بالصحفيين والمراسلين . قائلة ان الحكومة الاتحادية يمكنها ان تمنع الأجنبي ، لكنها لا تستطيع ان تمنع المواطن الأمريكي من التحدث للصحفيين فجمعت السيدة المذكورة البارزاني الخالد بالصحفيين والمراسلين في الغرفة نفسها، وطلبت من المراسلين بطرح أسئلتهم عليها والتي وجهتها يدورها الى البارزاني الخالد والتي أجاب عليها ووجهها بحضور المراسلين الى السيدة روبيرتا كوهين . أثار هذا العمل احتجاج وزارة الخارجية الأمريكية, ولكن لم يكن في ذلك الوقت هنري كيسنجر وزير للخارجية الأمريكية، فقد انتقل المنصب الى الديمقراطيين الذين كرسوا جهودهم لحقوق الإنسان ولم يعد البارزاني الخالد قلقا من مسألة إبعاده ثانية.
كان لجهود البارزاني الخالد على الكونكرس الدور الكبير في سماح الولايات المتحدة. لما يقارب من ألف كوردي بدخول الولايات المتحدة كلاجئين آنذاك، ورغم كل جهوده التي لم يضعفها المرض، حاول البارزاني الخالد ان يؤثر في السياسة الأمريكية لتصحيح الوضع المأساوي للشعب الكوردي. لكن للأسف ضلت السياسة الأمريكية تتجاهل القضية الكوردية، وهذا ما افقد البارزاني الخالد الثقة بالولايات المتحدة الأمريكية وسياستها تجاه الأمة الكوردية وكثيرا ما كان يلوم نفسه في منحهم تلك الثقة.
بقي مرض البارزاني الخالد في الولايات المتحدة تحت المراقبة من 1978 وحتى 1979 حيث اخذ بالانتشار، وعندما وصل محمد الدوسكي وفرهاد البارزاني(حفيد البارزاني الخالد) الى المستشفى صبيحة يوم 3-03- 1979 وجدوا ان حالته البارزاني الخالد قد تحسنت قليلا وكان يقضا ويتحدث ولا يشعر بألم. وفي الساعة الخامسة عصر ذلك اليوم طلب البارزاني الخالد نقله من سريره الى كرسي ذو مسند في غرفته، ولكن عندما بدأ فرهاد برفع جده ، شعر بالفزع برؤية بشرة جده تحمر ، وبسرعة نودي على الممرضة التي سرعان ما أعلنت وفاة البارزاني الخالد. كان ذلك في 3-03- 1979. وفي 5 آذار أعيد رفات البارزاني الخالد الى كوردستان ايران. حدث ذلك بعد بضعة أسابيع من نجاح الثورة الإسلامية بقيادة الإمام الخميني وطرد الشاه من ايران ، وكلن مقررا ان يتقابل الزعيمان في طهران معا.
يتضح من كل ما تقدم ان المأساة الكبيرة التي حلت بثورة أيلول المجيدة من خلال التأمر الدولي ضدها ، إضافة الى مرض البارزاني الخالد الذي ابتلى به، لمتمنع هذا الرجل الفولاذي الإرادة من ان يفقد الأمل ، ولو للحظة واحدة ،بحق أمته في الوجود والبقاء والنضال والانتصار، بل ان كل تلك المصائب والآلام تتمكن من تليين عزيمته او ان تقهر إيمانه الراسخ والمتين بحق هذه الأمة في العيش بسلام وأمان واستقلال مثل سائر الشعوب. انه البارزاني الخالد بكل ما تعنيه هذه الكلمة من ارتقاء وشموخ وتألق، فعند هذا القائد الفذ كانت سعادة وحرية الشعب الكوردي أثمن من صحته وأغلى من كيانه ، لهذا سخر لها كل طاقته وحيويته وعنفوانه ، بل وعمره كله.
للمزيد من التفاصيل راجع:
David A. Kom, The last years of Mustafa Barzani , Middle East
Quarterly, June, 1994
وكذلك اللقاء الصحفي مع الأستاذ محسن دزيي،في جريدة برايه تي بتاريخ 28-11-1994.[1]