الفريق الركن الدكتور عبدالعزيز المفتي
محاضرة الوضع السياسي في العراق بعد #مؤتمر القاهرة# آذار 1921م وحتى تتويج الأمير فيصل ملكاً على العراق الجديد في 23 -08-1921
إن السيد عبد الرحمن النقيب رئيس الحكومة العراقية المؤقتة كان أحد أهم المرشحين لعرش العراق الجديد، وكان اسمه يتصدر القائمة الأولى التي صدرت من قبل اللجنة السياسية المنبثقة من مؤتمر القاهرة آذار 1921، كما كان أهم المنافسين للاميرفيصل. ويذكر برسي كوكس أن عبد الرحمن النقيب لم يتخذ أية خطوة لترويج ترشيحه الخاص. لكنه إذا وجد أن أغلبية الشعب العراقي تريده فإنه سيستجيب للدعوة وسيسعى إلى استمالة شيوخ القبائل المهمين لنشر مضابط أو رسائل مضادة للشريف فيصل. إلا أن برسي كوكس قرر أن يوضح رأيه للنقيب (عبد الرحمن النقيب) كونه صديقاً شخصياً له. بأنه بسبب شيخوخته وصحته المتدهورة فإنه من الصعوبة أن يتوقع مؤازرة الشعب له، لأن الحاكم عليه أن يتحرك بنشاط بين شعبه وجيشه فلذلك من الأفضل له أن يكتفي بموقعه المكرم من قبل بريطانيا.
وصل الأمير فيصل إلى البصرة مساء يوم 20-06- 1921 وجرى له استقبال حافل من قبل العامة وعلى المستوى الرسمي حيث استقبله ممثل المندوب السامي ومستشار وزارة الداخلية وجعفر باشا العسكري وزير الدفاع وأحمد باشا متصرف البصرة وحوالي 120 شخص يمثلون وجهاء بغداد والبصرة.
بعد وصوله بغداد أقام السيد عبد الرحمن النقيب مأدبة عامة على شرف الأمير فيصل في مقر أقامته الرسمية مقابل جامع جده السيد عبد القادر الكيلاني وتحت أضواء منارته استقبل عبد الرحمن النقيب الأمير فيصل وهو يسير بصعوبة وبعد أن عانقه وقبله من كلا وجنتيه أرشده إلى مقعده في النهاية العليا من الديوان المفتوح حيث كان يجلس كل من المندوب السامي بيرسي كوكس والقائد العام للجيش البريطاني الجنرال هالدين والمس بيل السكرتيرة الشرقية للمندوب السامي البريطاني والوزراء ورجال الدين. وظهور فيصل بملابسه العربية وبردائه الأبيض مع غطاء الرأس، رفع من مقامه الشخصي، واختياره الزي العربي كان له انطباع واضح على شيوخ القبائل العراقية العربية الذين تقاطروا إلى بغداد لتقديم الولاء والطاعة له.
إن إقامة هذه المأدبة تعتبر بمثابة تأييد واضح من قبل عبد الرحمن النقيب للأمير فيصل وهي تعد عاملاً جوهرياً في تمهيد الطريق لنجاح الأمير فيصل واستجابة من عبد الرحمن النقيب لإبراز ولائه للحكومة البريطانية التي اختار فيصلاً ليكون ملكا على عرش العراق العربي الجديد فأيد هذا الاختيار حتى دون سؤال.
قرر رئيس الحكومة العراقية المؤقتة السيد عبد الرحمن النقيب أن يقوم بمبادرة، وهي إعلان مبايعة الأمير فيصل من قبل مجلس الوزراء واعتقد بأن هذه المبادرة ستقابل من قبل بريطانيا بترحيب بالغ. ففي 11 تموز 1921 اجتمع مجلس الوزراء العراقي بناء على اقتراح عبد الرحمن النقيب بإعلان فيصل ملكاً على عرش العراق. فوافق المجلس بالإجماع وأصدر قراراً بإعلان سعادة الأمير فيصل ملكاً على عرش العراق الجديد شرط أن تكون حكومة سعادته دستورية نيابية ديمقراطية تحددها القوانين.. ورغب مجلس الوزراء بإيصال هذا القرار إلى وزارة الداخلية لكي تتخذ الإجراءات الضرورية. وفي ما يخص اشتراك المناطق الكوردية (ولاية الموصل) كوردستان العراق في الانتخابات فإن مجلس الوزراء أوضح رغبته بوجوب اشتراكهم في الانتخابات تعزيزاً لوحدة العراق الوطنية.
ويذكر سكرتير المندوب السامي س. سز كاربت بأن المندوب السامي برسي كوكس قرأ بمتعة كبيرة قرار مجلس الوزراء العراقي الذي يتعلق بمبايعة الأمير فيصل ليكون ملكاً على عرش العراق، وأشار إلى أن قرار مجلس الوزراء العراقي يمثل الشعور السائد في القطر (العراق العربي الجديد) إلا إنه طلب من مجلس الوزراء أن يوجه وزارة الداخلية العراقي لاتخاذ الخطوات الضرورية لإجراء الاستفتاء العام في العراق العربي الجديد.
من هذا نستنتج بأن بريطانيا لم توافق على قرار مجلس الوزراء بشكل نهائي. وإنما أكد المندوب السامي على وجوب إجراء الاستفتاء الذي من الممكن أن يسهل إيصال الأمير فيصل لعرش العراق بالجهود البريطانية ولو عن طريق الاستفتاء الصوري (الشكلي). كما أن بريطانيا لم ترغب أن يشعر الأمير فيصل بأن مجلس الوزراء هو الذي ساعده للوصول إلى العرش، لأن هذا ربما سيربطه مع الشعب العراقي بعواطف لا تخدم المصالح البريطانية.
هذا مع العلم بأن عبد الرحمن النقيب كان دائماً يظهر مشاعره السلبية تجاه العائلة الهاشمية، وعلى رأسها الشريف حسين بن علي، لاسيما منذ أن تصدر اسم الأمير فيصل قائمة المرشحين للعرش العراقي الذي فضل عبد الرحمن النقيب عودة العثمانيين الترك ألف مرة على انتقاله إلى شريف الحجاز أو أحد أنجاله( ). وقد عبر عنه بشكل مباشر بقوله: أنني من أقارب الشريف حسين وأرجو أن تفهموا بأنني لست مدفوعاً بدافع الاختلاف في الدم أو العقيدة عندما أقول لكم أنني سوف لا أوافق ولن أوافق على تعيين الشريف حسين بن علي أو أحد أنجاله أميراً وملكاً في العراق الجديد.
إن موقفه (عبدالرحمن النقيب) هذا لم يصمد عليه. فقد سحب ترشيحه لعرش العراق الجديد بناء على نصيحة برسي كوكس كما ورد في أعلاه، ثم أقام المأدبة على شرف الأمير فيصل بتاريخ 8 تموز 1921 التي عدها البريطانيون بمثابة تأييد واضح من قبل عبد الرحمن النقيب للأمير فيصل. كذلك شجع مجلس الوزراء العراقي على مبايعة الأمير فيصل ليكون ملكاً على عرش العراق في 11 تموز 1921، كاستجابة منه لإبراز ولائه للحكومة البريطانية التي اختارت فيصلاً ليكون ملكا على عرش العراق فأيد هذا الاختيار حتى من دون سؤال. ثم تنفيذاً لرغبة المندوب السامي برسي كوكس ترأس (عبدالرحمن النقيب-الكيلاني) وزارتين في عهد الملك فيصل.. وهذا يتلاءم مع وجهة نظر عبد الرحمن النقيب بالانتداب البريطاني على العراق العربي الجديد. فإنه يرى أن الإنكليز فتحوا البلاد بالقوة ومن حقهم التمتع بحكمها جرياً على عادة الفاتحين. فلذلك كان يتصرف في رئاسته للوزارة بوحي من هذا الاعتقاد ولهذا لم يعد هذا المنصب (رئاسة الوزراء) على إنه أداة لانتزاع أي شيء من بريطانيا أكسبها إياه احتلالها للعراق العربي الجديد. والظاهر أن الإنكليز فهموا شخصية عبد الرحمن النقيب وفقاً لهذا التحليل.
قرر مجلس الوزراء في 18-08-1921 تأليف لجنة مشرف على تنفيذ برنامج تتويج الملك فيصل على عرش العراق. وتألفت اللجنة من كل من (جعفر باشا العسكري وساسون حسقيل أفندي وعبد المجيد الشاوي وعبد الجبار باشا الخياط وحسين أفندي أفنان)، على أن يشارك المستر تومسون المستشار المساعد لوزارة الداخلية في اجتماعات اللجنة. وكانت هناك محاولات يائسة لتشكيل لجنة غير رسمية منافسة من قبل متصرف بغداد (رشيد الخوجة) ولكن نظراً لعدم قبولها رسمياً فقد لزمت هذه اللجنة الصمت.
وقد حددت اللجنة المشرفة يوم 23-08-1921 موعداً لتتويج الأمير فيصل ملكاً على عرش العراق لأنه يتلاءم مع احتفال الشيعة بيوم الغدير وذلك رغبة منها في أحياء اليوم الذي عين النبي محمد (ص) علياً ليكون ولياً على الناس (كما يذهب إلى ذلك الشيعة). وكان عبد الرحمن النقيب متردداً باختيار هذا اليوم ليكون يوم الاحتفال لأنه لم يرغب في أن يفضل الملك منذ اعتلائه عرش العراق مذهباً على مذهب.. إن رأى عبد الرحمن النقيب لم يؤخذ بنظر الاعتبار، بالرغم من إنه قد يؤدي فعلاً إلى التفرقة بين المذاهب (وخاصة الشيعة والسنة). إلا أن بريطانيا اتفقت مع (الملك) فيصل على أن يكون هذا اليوم هو تاريخ اعتلائه عرش العراق العربي الجديد، لأن هذا اليوم يتلاءم مع سياسة بريطانيا التي تؤكد على (سياسة فرق تسد)، وإن هذا الفرقة قد تؤدي إلى احتمال مواجهة الملك فيصل لمشاكل تكون من نتائجها التصاق الملك ببريطانيا بهدف مساندته لمواجهة المشاكل المحتملة في العراق الجديد، وبذلك تسيطر بريطانيا على الملك فيصل وهذا مما يسهل تمرير مصالحها في العراق بشكل أفضل. لقد حضر مراسيم حفل تنصيب الأمير فيصل على عرش العراق جمع غفير من المندوبين الذي يمثلون جميع الألوية (المحافظات) العراقية. وقد تم اختيار المندوبين من قبل متصرفي الألوية (المحافظات). وكان عدد الذين حضروا في حدود (1500) شخص في الساحة المخصصة للاحتفال داخل السراي وكان ترتيب الجالسين وفق خطة مهيأة بعناية من قبل اللجنة المعنية للإشراف على حفل التتويج. وعند بدء الاحتفال لم تسمح الشرطة بدخول أي شخص، وهذا مما أدى إلى استياء الذين حضروا إلى الحفل متأخرين عن الموعد المحدد.
وفي الساعة السادسة مساء رافق المندوب السامي البريطاني السير برسي كوكس والقائد الأعلى للقوات المسلحة الجنرال هالدين الأمير فيصل. وقد اعتلى سكرتير مجلس الوزراء السيد محمود النقيب وهو الابن البكر للسيد عبد الرحمن النقيب منصة القاعة في منتصف ساحة السراي.. وقرأ البيان الصادر من قبل المندوب السامي البريطاني السير برسي كوكس باللغة العربية الذي جاء فيه: تماشياً مع اقتراح رئيس مجلس الوزراء بجلسته المنعقدة في 11 تموز 1921 وأعلن بقرار وافق عليه بالإجماع تنصيب الأمير فيصل ملكاً على عرش العراق وبشرط أن تكون حكومة معاليه دستورية، وفيها تمثيل برلماني، وديمقراطي أيضاً وبحدود القانون. ومن جانبي كمندوب سامي لجلالة ملك بريطانيا أجريت استفتاء، وكانت نتيجة الاستفتاء، أن تبين موافقة الأغلبية الساحقة للشعب العراقي بنسبة 96% من جمهور المنتخبين الذين أعلنوا تأييدهم لانتخاب الأمير فيصل ملكاً على عرش العراق وبذلك أعلن هذا الاعتراف من قبل جلالة ملك بريطانيا بجلالة الملك فيصل باعتباره ملكاً على العراق. يعيش الملك.
وفي نهاية البيان رفع العلم الوطني العراقي على المنصة وأخذ حرس الشرف تحية له كما وأطلق الحرس الملكي. إحدى وعشرين أطلاقة مدفع تحية للعلم العراقي وبعد ذلك أدى السيد محمود النقيب ابن السيد عبد الرحمن النقيب صلاة الشكر بالناس.، ومن خطب جلالة الملك فيصل خطاب العرش. وأهم ما جاء فيه:
1. إن الأمة البريطانية هي أقرب الأمم لنا (العرب والعراقيين) وأكثر تحمساً لمصالحنا فيجب أن نبحث عن سبل التعاون المتبادل معها (بريطانيا) وذلك لكي نبلغ أهدافنا بالسرعة الممكنة.
2. إن المهمة الأولى هي إجراء الانتخابات بهدف تأليف مجلس تأسيسي (برلماني) يضع دستوراً للبلاد (العراق).
3. أكد (الملك فيصل) على وجوب عقد معاهدة تحدد العلاقات بين الحكومة العراقية وحكومة بريطانيا العظمى.
4. أكد (الملك فيصل) على أن نظام الحكم في العراق العربي الجديد ملكي دستوري ديمقراطي.
ثم رجع الملك من المنصة برفقة المندوب السامي البريطاني بيرسي كوكس وقائد القوات العسكرية البريطانية الجنرال هالدين ومسؤولين آخرين.
تنفيذاً للتطبيقات الدستورية فقد تم الاتفاق بين رئيس الوزراء السيد عبد الرحمن النقيب (رئيس الحكومة العراقية المؤقتة) والمندوب السامي برسي كوكس على وجوب تقديم استقالة الوزارة إلى الملك فيصل. وقد أيد الوزراء هذا الاقتراح تماشياً مع الدستور الذي يشير إلى وجوب إقالة مجلس الوزراء بمناسبة تغيير شكل الحكم. في العراق وبما أن وصول الملك فيصل إلى عرش العراق يعني تشكيل حكومة ملكية دستورية دائمية تمنح تغييراً لطبيعة الحكم فلذلك يجب على الوزارة أن تقدم استقالتها.
لقد ورد في هذا الاتفاق التأكيد على الدستور ووجوب تطبيقه، في حين أن العراق العربي الجديد لم يخضع لدستور وذلك لأن بريطانيا حينما فرضت سيطرتها على العراق، أوقفت العمل بالدستور العثماني، وأصبحت تعليمات المندوب السامي لها قوة القانون، فهي واجبة التنفيذ. واستمر الوضع هكذا حتى تم تأليف المجلس التأسيسي (البرلمان) عام 1924 الذي كان من أولى مهامه وضع دستور للبلاد. ونفذ القانون الأساسي (الدستور) عام 1925 بعد أن حل المجلس التأسيسي (البرلمان) عام 1924.
في يوم التتويج نفسه 23 -08-1921 قدم رئيس الوزراء عبد الرحمن النقيب رسائله الموجهة إلى كل من الملك فيصل والمندوب السامي السير برسي كوكس وهي تحمل استقالة الوزارة، وتم إصدار إرادة ملكية بتاريخ 23 /-08-1921 بقبول استقالة الوزارة وفي اليوم التالي وجه المندوب السامي رسالة إلى عبد الرحمن أفندي نقيب أشراف بغداد ورئيس مجلس الوزراء يوضح فيها قبول استقالة الوزارة ويختتم الرسالة بما يلي: .... وفي الختام أتشرف بإبلاغ معاليكم بأن جلالة الملك جورج الخامس قرر منحكم وسام الشرف البريطاني من الدرجة الأولى لما أبديتموه من خدمات جليلة في سبيل البلاد.
لقد منح الملك جورج الخامس وسام الشرف البريطاني لرئيس الوزراء العراقي عبد الرحمن النقيب، وذلك لأن النقيب كان مستعداً لخدمة المصالح البريطانية في العراق الجديد بسبب اقتناعه اقتناعاً تاماً بالانتداب البريطاني على العراق، وهذا مما سهل وصول الأمير فيصل لعرش العراق. وتحققت بذلك أهداف الحكومة البريطانية التي بذلت المستحيل في سبيل تحقيق مصالحها من خلال تنصيب الأمير فيصل بن الشريف حسين ملكاً على عرش العراق.
تم تبادل برقيات التهاني بين صاحب الجلالة الملك جورج الخامس وصاحب الجلالة الملك فيصل بتاريخ 23 -08- 1921. وتعتبر هذه البرقيات عن الصداقة بين البلدين وتؤكد على عقد معاهدة التحالف بين بريطانيا والعراق الجديد بأقرب وقت ممكن.
وهذا يعني بأن الحكومة العراقية المؤقتة انتهى دورها وقدمت استقالتها وبذلك انتهى دور الحكومة الانتقالية (المؤقتة) وتألفت الحكومة المحلية الدائمة، وهي حكومة الملك فيصل الذي اختار بتوجيه من قبل بريطانيا السيد عبد الرحمن النقيب ليؤلف أول وزارة في عهد الملك فيصل.
* كان الغاية من مؤتمر القاهرة في آذار/مايس 1921 حل المشكلة الاقتصادية ونفقات بريطانيا خلال الحرب
كانت الخزانة البريطانية العامة تئن من ثقل النفقات التي أوجبتها تكاليف الحرب العالمية الأولى ونتائجها، فجاءت التدابير العسكرية التي اتخذت لإخماد الثورة العراقية الكبرى عام 1920 ضغثاً على إبالةمما حمل الرأي العام البريطاني على المناداة بوجوب الجلاء البريطاني عن العراق، والحكومة البريطانية على التفكير في وجوب إنقاص (تقليل) نفقاتها الناجمة عن الالتزامات الخارجية إلى أدنى حد ممكن، مع المحافظة على المصالح البريطانية العامة محافظة تامة. فنقل مستر ونستن تشرشل من منصب وزارة الحربية إلى منصب وزارة المستعمرات في 14 -02- 1921م، بعد أن استقال اللورد ميلنر من هذا المنصب – وزارة المستعمرات- وعهد إليه ونستن تشرشل بالبحث عن أفضل السبل لإنقاص النفقات المذكورة، وإيجاد أسهل الطرق فألف ونستن تشرشل دائرة خاصة (لشؤن الشرق الاوسط والادنى) في (وزارة المستعمرات) تتوحد فيها المصالح والمسؤوليات البريطانية في الشرق الأدنى Middle East Department (رغبة في تخفيف عبء الضرائب على المكلف (المواطن) البريطاني بأسرع ما يمكن، كما جاء في التقرير الرسمي)( ) وكانت المصالح والمسؤوليات المذكورة في الشرق الأوسط والأدنى تدار قبل ذلك من قبل وزارة الهند (الحاكم البريطاني ونائب الملك في الهند) وكان هو المستر مونتاكو، ووزارة الخارجية، ومن قبل وزارة الحرب البريطانية.
وكان (مستر مونتاكو Montagu) وزير الهند، قد اقترح على الحكومة البريطانية في السابع عشر من شهر مايس سنة 1920م، أن تعقد الهند مع العراق الجديد معاهدة توضح الخطوط الأساسية للعلاقات بين الطرفين، وتتضمن بنود الانتداب ومبادئه، كما عهد به مجلس الحلفاء الأعلى قبل شهر، لتقضي على الغموض الذي كان يكتنف هذه العلاقات، وتؤسس حكما واضحا يدين لها بالولاء، غير أن اللورد كرزون، وزير الخارجية البريطانية لم يصغ إذ ذاك إلى هذا الاقتراح فأهمل. فلما عهد منصب (وزارة المستعمرات) إلى مستر ونستن تشرشل وأنيطت به شؤون العراق، بعث الاقتراح المذكور اعلاه (اقتراح مستر مونتاكو) من مقره، معتقداً أن إدارة هذه البلاد (العراق العربي الجديد) من قبل حاكم عربي يقنع بالسلطة التنفيذية، ويؤازره الشعب بصورة علنية، يكون مربوطاً بعرفان الجميل، وضامنا لعقد معاهدة تصاغ فيها بنود الانتداب البريطاني صوغا، وتؤمن فيها المصالح البريطانية العامة، ويرعاها الحاكم العربي المذكور بنفسه (الأمير فيصل)، أفضل كثيرا من أن تحكم حكما مباشرا (من قبل بريطانيا) يكلف دافع الضريبة البريطاني كثير، ويؤدي إلى انتشار روح الكراهية والعداء للسلطة الحاكمة، فاتصل ونستن تشرشل بالأمير فيصل بن الشريف حسين وفاوضه بما يكنه ويرتأيه. وبعد أن أطلعه على مشروع الانتداب البريطاني على العراق الجديد، ومسؤوليات الحكومة المنتدبة (بريطانيا) تجاه عصبة الأمم، وعلى المصالح البريطانية فيه وضرورة نسيان المتاعب التي سببها له الجنرال غورو (القائد الفرنسي في سوريا والذي طلب من الأمير فيصل مغادرة سوريا) وطمأنة فرنسا بعدم إزعاجها بمحاولات الانتقام والظاهر أن الملك فيصل اقتنع بكل ما سمعه من ونستن تشرشل فقال له الوزير البريطاني ونستن تشرشل: إنه يعده بعقد معاهدة بين بريطانية والعراق الجديد تقوم مقام الانتداب (المعاهدات) إذا ما قدر له أن يكون الحاكم على العراق الجديد، فاستحسن الأمير فيصل بن الحسين هذا الحل ووافق عليه.
ولأجل أن يحقق ونستن تشرشل الآمال التي عقدت على خبرته وفطنته في معالجة القضايا المعلنة، قرر دعوة الممثلين العسكريين والسياسيين البريطانيين في مناطق الشرق الأوسط والشرق الأدنى إلى الاجتماع به في مؤتمر يعقد في القاهرة في 12-24 آذار 1921م. وقد تم عقده في فندق سميراميس فكانت مهمة المؤتمر أثناء عقده إنقاص النفقات البريطانية في المناطق المذكورة (الشرق الأوسط والأدنى)، وإعادة النظر في السياسة البريطانية المتبعة فيﮪا وذلك بتقرير:
1- علاقات الدولة الجديدة المقبلة (العراق العربي) ببريطانيا العظمى من حيث النفقات.
2- اختيار شخصية عربية من سيتولى حكم وعرش العراق الجديد.
3- نوع وشكل قوات الدفاع في الدولة الجديدة (العراق العربي)، التي ستتمتع بمسؤولية أوسع في الدفاع عن نفسها، وقد بحث المؤتمر (القاهرة) أيضا وضع المناطق الكوردية وعلاقتها بالعراق العربي الجديد.
وسافر الأمير فيصل إلى القاهرة ليرتقب الحوادث عن كثب، وتألف الوفد العراقي إلى مؤتمر القاهرة المذكور من سير برسي كوكس المعتمد السامي، وجنرال إيلمر هولدن قائد القوات البريطانية في العراق، وجعفر العسكري الكوردي الأصل وزير الدفاع في الحكومة المؤقتة العراقية، وزميله ساسون حسقيل اليهودي الأصل وزير المالية في الحكومة العراقية المؤقتة ومن مستشاري المالية والأشغال سيلترو أتكنسن ومستشار وزارة الدفاع بالوكالة، ميجر إيدي، ومس بيل السكرتيرة الشرقية للمعتمد السامي البريطاني بيرسي كوكس، وقد ناب بونام كارتر مستشار العدلية في الحكومة العراقية المؤقتة وناب عن برسي كوكس أثناء غيابه في المؤتمر، فلما عرضت القضية العراقية على طاولة التشريح، قال بيرسي كوكس بعد مذاكرة جنرال هولدن /هالدين القائد الاعلى للقوات البريطانية وجعفر العسكري وزير الدفاع العراقي: إن باستطاعة العراق أن يساهم بمدى واسع في المسؤوليات المترتبة على بريطانية في العراق، وذلك بتأليف جيش عراقي محلي من خمسة عشر ألف محارب، وتخصيص 15 بالمائة من إيرادات العراق العامة له، على أن يزاد (يزداد) هذا المبلغ حتى يصل إلى 25 بالمئة، وان تزداد قوة (الليفي) المحلية، التي ستقوم الحكومة البريطانية بإدارتها ونفقاتها، من أربعة آلاف مقاتل إلى 7500 وان يعزز ذلك بستة أسراب من الطائرات البريطانية ترابط في محلات إستراتيجية في العراق، فتنسحب القوات الانكليزية من العراق بالتدريج، ويحل التفاهم والوئام محل التشاكس والخصام بين السلطة المنتدبة البريطانية وأهل العراق الذين يستنكرون كل هيمنة أجنبية عليهم.
ارتاح ونستن تشرشل وزير المستعمرات البريطانية لاقتراح برسي كوكس ارتياحا كبيرا فوقف بعد أيام قليلة في مجلس العموم البريطاني معلنا إنقاص النفقات البريطانية في الشرقين الأوسط والأدنى من 35 مليون باون إلى 27.5 مليون في ميزانية السنة 1921 المالية ومؤكدا إمكان هبوط هذا إلى تسعة ملايين أو عشرة في ميزانية السنة التي تليها 1922.
فلما عرضت فكرة ترشيح أمير عربي يتولى شؤون العراق العربي الجديد، استعرضت أسماء طلاب العروش لتولي عرش العراق الجديد وهم كل من، فالسيد عبد الرحمن النقيب رجل هرم ليس في عائلته من يصلح ليحل محله إذا انتقل إلى دار البقاء، والسيد طالب النقيب وإن كان من الشخصيات التي تستطيع أن تؤدي خدمات ممتازة، فإن خصومه في البصرة وبغداد في ازدياد مستمر، والأمير برهان الدين العثماني لا يمكن أن يحظى برضى البريطانيين، وابن سعود الذي رددت الدوائر الرسمية اسمه كثيرا يخلق ترشيحه خللا في التوازن في الجزيرة، وهكذا خلقت بعض الموانع للشيخ خزعل شيخ المحمرة، ولغلام رضا خان أمير بشت كوه ولاغا خان زعيم الإسماعيلية. أما فكرة الجمهورية في العراق فقد قيل بصراحة أن عدم حصول العراق على درجة من الرقي لا تمكنه أن يمارس هذا الضرب من الحكم الجمهوري، فلما عرض اسم الأمير فيصل، علت وجوه الحاضرين ابتسامة ذات مغزى بعيد، فقال ونستن تشرشل: إن فيصل من بيت رفيع، وهو ابن الملك الشريف حسين بن علي شريف مكة الذي وطد نفوذه بين عامة العرب، وثبت شخصيته بين رجال الدين، فهو خليق أن ينال تشجيع الحكومة البريطانية إذا انتخبه العراقيون فأومت الرؤوس أي نعم، فهتف الناس ليحيى الملك فيصل ملك العراق، وهمس إبليس في أذن الزمان ليحيى ونستن تشرشل، وقد أوجب تدخل البريطانيين في اختيار الامير فيصل لعرش العراق الجديد مباحثات دقيقة وأقوالاً كثيرة( ) وانتهت أعمال المؤتمر (القاهرة) في 24-03- 1921.
وقد أثيرت في مؤتمر القاهرة قضية المجلس التأسيسي (البرلمان) وضرورة جمعه لينادي بفيصل بن الشريف الحسين ملكاً على العراق الجديد واحتمال ظهور معارضة فيه (المجلس التأسيسي) قد تؤدي إلى إفشال الخطط البريطانية المؤيدة لترشيح الامير فيصل فقال ونستن تشرشل أن لا يعرف سابقة لمجلس تأسيسي (البرلمان) قام بدور انتخاب ملك للبلاد. وهكذا تقرر صرف النظر عن دعوة مجلس الوزراء لهذا الغرض وأن على المندوب السامي البريطاني بيرسي كوكس أن يستعمل دهاءه وذكاءه لمداواة الأمر.
يقول كولونيل لورنس في هامش الصفحة 276 من كتابه أعمدة الحكمة السبعة طبعة عام 1943:
عهدت وزارة المستعمرات البريطانية – المتضايقة – إلى المستر ونستن تشرشل تسوية قضايا الشرق الأوسط فاستطاع في بضعة أسابيع، أن يذلل كل معضلة بواسطة مؤتمر القاهرة آذار 1921، وأن يوجد حلولا تفي على ما أظن، بوعدنا نصا وروحا، على قدر ما يستطيع بشر، دون أن يضحي بأية مصلحة لإمبراطوريتنا أو مصلحة للشعوب التي يهمها الأمر.
ويقول الأستاذ هولمس ريتشر في كتابه مقاييس الكفاءة للاستقلال ص19:
وبعد مفاوضات كثيرة عرض العرش – العراق – على الأمير فيصل بن الشريف حسين، الذي كان قد أخرج حديثا من الدولة العربية التي شكلها في سورية من قبل الفرنسيين (الجنرال غورو). ومع أن انتخاب الأمير فيصل يعود قسم منه دون شك إلى النفوذ البريطاني، فكانت ثمة أدلة كافية، حتى قبل أن تعرف رغبة بريطانية على أن سموه كان المنتخب عن طيب نفس من العناصر المهمة في العراق الجديد.
وفي طريق عودة ونستن تشرشل إلى لندن، مر بالقدس يوم24 -03- 1921 وعقد اجتماعا مع الأمير عبد الله بن الشريف حسين الأخ الأكبر للأمير فيصل حضره عوني عبد الهادي وهربت صموئيل المندوب السامي البريطاني في فلسطين وسكرتيرها الروندهام ديدس والعقيد لورنس وقد أبدى ونستن تشرشل في هذا الاجتماع النصح بوجوب انصراف الأمير فيصل عن سورية وسفره إلى العراق العربي الجديد ليصبح ملكا. وطلب إلى الأمير عبد الله أن يساعده في هذه الطبخة بالتأثير على والده الشريف حسين وعلى العراقيين وأعرب عن أمله بأن تعاد سورية إلى العرب بعد ستة أشهر.
أما دار (دائرة) الاعتماد البريطانية في بغداد فتقول في تقريرها الخاص عن تقدم العراق:
وفي الوقت نفسه كان الرأي العام العراقي يميل ميلا محسوسا إلى الملكية، وأخذت الرغبة العامة تتجلى في أن يقدم الأمير فيصل نفسه للشعب العراقي كمرشح للعرش، وقد كانت مكانته وخدماته الثمينة لقضية الحلفاء إبان الحرب تشفع له لدى الشعبين: العراقي والبريطاني على السواء، وبعد التأكد من أن سموه وقف تماما على المسؤوليات المترتبة على حكومة صاحب الجلالة تجاه عصبة الأمم، وانه سيكون مستعدا – إذا قدر له أن يصبح ملكا على العراق الجديد - أن يتفاوض لعقد معاهدة انكليزية – عراقية على المنوال المشروح في صك الانتداب البريطاني، أعلنت حكومة بريطانية موافقتها لترشيحه لعرش العراق الجديد.
ومن لطيف ما يروى عن مؤتمر القاهرة آذار 1921 أن ساسون حسقيل وزير مالية العراق سأل مستر ونستن تشرشل قائلاً: جرت العادة في البلاد المنسلخة من الإمبراطورية العثمانية أن يأتيها أمراؤها من الشمال إلى الجنوب، ولم يسبق أن جاءها أمير من الجنوب إلى الشمال، فكيف تعللون هذا الحدث؟ فأجاب تشرشل أن ذلك لصحيح، ولكن لا تنسى يا ساسون حسقيل أن مستر كرنواليس ذاهب مع الأمير فيصل وهو من الشمال.
وفي الواقع أن كرنواليس أشغل منصب مستشار وزارة الداخلية في العراق سنة 1921 إلى سنة 1935م. وهكذا مهد الإنكليز لإقامة دولة عربية في العراق الجديد كانت إحدى الدول الصنائع أو الدول الزبائن التي قرر الغرب إقامتها في الأجزاء التي انسلخت من الإمبراطورية العثمانية في أعقاب الحرب الكبرى الأولى. ذلك لأن دول الغرب كانت تستهين بالقومية العربية وتفشل في إدراك دافعها السياسي.[1]