موقف فرنسا من الحقوق القومية الكوردية في سوريا المنتدبة - (القسم الاول)
كان السياسيون الفرنسيون ينظرون إلى سوريا، منذ بداية احتلالها، على أنها لا تشكل وحدة سياسية واجتماعية، وتدل على ذلك الرسائل البرقيات المتبادل بين الجنرال غورو ورئيس الوزراء الفرنسي ميلران بين السادس والثالث والعشرون من آب 1920، والموجودة في أرشيف وزارة الخارجية الفرنسية، ففي برقية سرية من ميلران إلى غورو تحمل عنوان: (مخطط لتنظيم الانتداب الفرنسي في سوريا)، يورد الأسباب التي من أجلها تمت تصفية الحكم العربي الفيصلي في دمشق، فيرى أنه من غير الممكن إقامة دولة واحدة موحدة ، بل يجب إقامة سلسلة من الدول، تتناسب وتنوع الأعراق والديانات والحضارات، ويمكن أن تشكل فدرالية تحت السلطة الفرنسية العليا.
يشرح ميلران إمكانية إنشاء هذه السلسلة من الدويلات أو الاستقلالات الإدارية، ويتطرق لوضع لبنان وإسكندرون وسوريا الداخلية والقبائل العربية، أما ما يسميه البلاد الكوردية، والتي تضم عنتاب، بيره جك، كلس، والأراضي الكوردية (شرق الفرات مع أورفة وماردين)، ويقصد بها منطقة الجزيرة وجزيرة بوتان، وهي مناطق تقع في الشمال والشمال الشرقي من سوريا، فأن ميلران يرى، أنه لا يمكن إدخال هذه المنطقة في الفدرالية السورية، لأنها تفتقد إلى رابطة قومية مع سوريا، وأنه من الممكن مبدئياً تسليم الحكم فيها إلى أحد الزعماء المحليين مثل (محمد بك) زعيم عشائر المللية الكوردية، على أن يجري تعديل رسم الحدود كي لا تقسم عشائر المللية إلى قسمين. وبرأيه أن مثل هذا الوفاق مع الكورد، وتوطين عناصر كلدانية وآشورية على طول خط سكة الحديد في شرق الفرات، يضع فرنسا في وضع سياسي مثالي حيال كوردستان، ويخلص ميلران للقول إنه يجب أن يتغلغل النفوذ الفرنسي إلى المناطق الكوردية ولكن بحذر، وبناءاً على طبيعة هذا التغلغل، سيتم تقرير إذا ما كان بالإمكان دمج هذه المنطقة في الاتحاد السوري أو إقامة نظام مستقل لها، ولكن في الوقت الحاضر – يقول ميلران – يجب إقامة تمييز واضح بين هذه المناطق والبلاد السورية.
وبماء على ماورد عملت فرنسا خلال الأعوام الممتدة من عام 1920 – 1932 على توطيد نفوذها في المناطق الكوردية، إلا أنه في البداية لم تكن تشمل منطقة نفوذها، إلا منطقة كورداغ. وبعد عام 1921، استطاعت أن تتغلغل إلى منطقة الجزيرة، وتضعها تحت السيطرة العسكرية الفرنسية المباشرة.
=KTML_Bold=تقسيم سوريا الى دويلات:=KTML_End=
عند دخول فرنسا كقوة منتدبة على سوريا، وبعد القضاء على الدولة العربية الفتية، في تموز 1920 واحتلال دمشق، بدأت ببسط سيطرتها على البلاد، وقامت فرنسا بتقسيم البلاد إلى خمس دويلات (دمشق – وحلب – ودولة لبنان الكبرى (الموارنة) ودولة جبل الدورز ودولة العلويين، واعتبرت فرنسا أن مهمتها كدولة منتدبة على البلاد، تقضي عليها بإتباع سياسة تثقيفية على المدى البعيد في الحقلين الإداري والسياسي، مع إظهار الاحترام لرغبات الأقليات، ولذلك لم تتردد فرنسا اعترافها بوجوب وجود دولتين مستقلتين في المنطقة التي سلمت لها، هما لبنان وسوريا، وقسمت سوريا إلى الأقسام السابقة، (بمنح الأقليات الدينية والطائفية كيانات خاصة بها)، مراعية بذلك الظروف الإقليمية والطائفية، وقامت فرنسا كجزء من سياسة فرق تسد التجنيد العسكري، إلى استغلال التركيبة الاجتماعية بتنوعاتها السكانية الاثنية والدينية، من خلال العمل على تجنيد فرق خاصة من القوى المحلية من الدروز الشركس والعلويين والكورد، عام 1921، تحت أمرة ضباط فرنسيين، أطلق عليها اسم (قوات المشرق الخاصة )، ومن ثم الاعتماد عليها في بسط سيطرتها على الكثير من مرافق الحياة في البلاد
وضع الكورد في بداية الانتداب:
أما بالنسبة للكورد والذين يشكلون ثاني أكبر مجموعة قومية في سوريا من حيث السكان، لم تمنحهم فرنسا، الاستقلال الذاتي الذي طبقته في مناطق أخرى، ولم تلتفت إليهم في هذه التسوية، أي أنها لم تحقق ما حققته لغيرهم، من الدروز والعلويين مثلاً، رغم كون الكورد يشكلون أكثرية عرقية في مناطق سكناهم، ومع ذلك فأن تعاون سلطات الانتداب مع الكورد في سوريا، كان قد تم في فترة مبكرة، وذلك من خلال تحرك بعض العشائر الكوردية الموجودة في منطقة الجزيرة، الذين رغبوا في الاستفادة من الوجود الفرنسي للقيام بالعمليات العسكرية ضد عدوتهم التقليدية (تركيا)، وذلك عقب إعلان فرنسا أنهم سيساعدون العرب والكورد ضد الأتراك، ولتحقيق ذلك الهدف، توجه إسماعيل بك وتمر بك بأمر من محمود بك زعيم عشائر المللية، إلى حلب لمقابلة قائد القوات الفرنسية الجنرال الفرنسي (دي لاموت) عام 1920، وخلال اللقاء، تم الاتفاق بين الطرفين (الكوردي – الفرنسي) على اتفاق ينص على تعهد فرنسا مبدئياً بتحقيق نوع من الحكم الذاتي في المناطق الكوردية، بقيادة زعماء المللية، مقابل قيام العشائر الكوردية بطرد المخافر التركية في المنطقة، وبذلك قدمت السلطات الفرنسية كميات من الأسلحة إلى العشائر الكوردية، التي تمكنت من دحر المخافر التركية في مناطق: الرقة دير الزور والبوكمال والميادين، واستلموا السلطة في دير الزور أكثر من عام، وواصلوا تقدمهم باتجاه ويرانشهر.
=KTML_Bold=ظهور تركيا الكمالية :=KTML_End=
تغيرت الظروف الدولية، بعد انتصار الحركة الكمالية، وقيام الدولة التركية الحديثة، ونتيجة تحسن العلاقات الفرنسية – التركية، بعد عقد اتفاقية فرإنكلين – بويون في العشرين من تشرين الأول عام 1921، وبموجب ذلك انتهت أيام التعاون (الكوردي – الفرنسي)، بمجرد ظهور بوادر تحسن العلاقات بين تركيا وفرنسا، وتمثل ذلك بطلب السلطات الفرنسية من رؤساء العشائر الكوردية، بإلقاء أسلحتهم والتوقف عن محاربة الأتراك.
لاشك أن الموقف الفرنسي تجاه الحقوق القومية الكوردية في سوريا كانت تتحكم فيه عوامل متداخلة، تأتي في مقدمتها الرغبة الفرنسية بعدم إثارة الحفيظة التركية على الجانب الآخر من الحدود السورية الشمالية، والتي كانت تراقب أوضاع الكورد السوريين عن كثب، ولا ترغب في غض الطرف عنهم، لاسيما أن العلاقات التركية – الفرنسية، شهدت نوعاً من الهدوء بعد عقد الاتفاقية السابقة، بسبب انشغال تركيا بمشكلة الموصل، وحرصها في هذه الفترة على ضمان حياد الموقف الفرنسي تجاه المشكلة، فضلاً عن الرغبة الفرنسية في التقرب من تركيا، وكان ذلك يعني أن الطرفين قد استطاعا اجتياز الأزمة التي حدثت بينهما عام 1922، بسبب حشد تركيا لقواتها على الحدود مع سوريا، وتهديد منطقة الإسكندرونة.
إن المعارضة التركية العنيدة ورفضها لأي مستقبل سياسي للكورد، ليس في كوردستان سوريا فحسب، بل في بقية أجزاء كوردستان الأخرى؛ دفعت فرنسا إلى استثمار القضية الكوردية وتوظيفها لصالحها، وتحويلها إلى ورقة ضغط على تركيا طوال عقود الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي.
ملاحظة : الصورة ل ميلران الذي كان رئيساً للوزراء من 20 كانون الثاني 1920 إلى 23 أيلول 1920، ثم في العام نفسه أصبح رئيساً للجمهورية، من 23 أيلول إلى 11 حزيران 1924.
=KTML_Bold=المصدر :=KTML_End=
من رسالة الماجستير التي تقدم بها الباحث برهان نجم الدين شرفاني إلى جامعة زاخو- كردستان العراق، بعنوان « كوردستان- سوريا خلال الانتداب الفرنسي 1921- 1946»
مجلة الحوار – العدد /70/ وسأقوم بنشره على اقسام
[1]