سعد سعيد الديوه جي
إن أحد أهم أسباب قيام الحركات العبثية في التاريخ، هو تقديم التاريخ بالصورة التي يراد بها لهذه العبثية -عمداً، وعن سابق إصرار وترصد- أن تظهر بها، فيأتي تزوير الحقائق، وإظهارها بغير ما قامت عليه، من الأمور التي يستند إليها محترفو تغيير الحقائق وقلبها. وتاريخ أي شعب من الشعوب، في أي حقبة زمنية، يجب أن يكتب بروح تلك الحقبة، وما سبقها، لا بروح ما يشتهي الكاتب. فالتطلع نحو آفاق المستقبل لا يعني لعن الماضي وإسقاطه من الحسبان بكل جوانبه.
وخلال تجوالي في مكتبات كوردستان، رأيت من الكتب الأجنبية -المترجمة والعربية- ما يشكل إساءة بالغة
لحقائق تمس تاريخ الشعب الكوردي، خصوصاً بما يتعلق بفترة اضمحلال الدولة العثمانية، وتقديمه على أنه رأس الحربة في العمليات التي أدت إلى هجرة الأقوام المجاورة لهم في السكن، كالآثوريين والأرمن. وهو أمر لا يمكن طرحه بهذه البساطة والعاطفية، لكسب ود هذا وذاك.
وروح العصر آنذاك، داخل الدولة العثمانية، كانت تتحكم بها مقومات الصراع مع الدول المتصارعة معها، والتي تقف على أعتاب نهاية (الرجل المريض) لاقتسام أسلابه، فاتخذت من مسألة الأقليات القومية، وانتمائها الديني، حجة للتدخل وإثارة المشاكل. فكان أن جری استمالة الأرمن والآثوريين، وتحريكهم ضد الدولة العثمانية، لا حباً بهم، ولكن لاستخدامهم كأداة ضغط ليس إلا، واستمالة الكورد من قبل العثمانيين، حيث يشتركون معهم في تاريخ ديني عميق يمتد لمئات السنين، وهو عامل لا يمكن إنكاره في الصراع ذلك الوقت.
إن تقديم هذه الأقليات غير الإسلامية، داخل الدولة العثمانية، على أنها حمل وديع، يلاحقه الذئب الكوردي هنا وهناك، هو أمر غير مقبول بتاتاً، لا لأني أشترك مع الكورد بالدين، ولكن لأن التاريخ يقول بأن الكورد هم من أكثر الأقوام تسامحاً وألفة ومحبةً للعيش مع الآخر، وهذا ليس كلاماً عاطفيا، إنما هو مشاعر تولدت خلال مئات الأعوام من التقارب والعيش المشترك، رغم ما أفرزته السنوات العجاف من مشاكل، هي خارج إرادة شعوب المنطقة. وكان أحد أسبابها المطامع الاستعمارية، التي خلطت الأوراق على شعوب المنطقة، سعياً وراء مصالحها.
ففي كتاب بعنوان (سورما خانم)، من تأليف (كليروبيل يعقوب)*، يتكلم فيه الكاتب عن الكارثة التي حلت بالآثوريين (المصطلح المتداول الآن: الكلدو آشوريين)، الذين خذلهم البريطانيون بعدما استنفذوا مآربهم منهم، فيقول، متحدثا عن الشخصية المعنية بالكتاب: ... حاولتْ أن تجنب الكلدو آشوريين خلال سنوات الحرب العظمى الكثير من المعاناة التي حصلت لهم، مثلما حصل للأرمن، فلاحقتهم الجيوش التركية، مدعومة بالقوات الكوردية غير النظامية، فنفذت فيهم مذابح مريعة منذ عام 1915م. وهذا الكلام عاطفي، لا يتسم بالموضوعية مطلقاً، فأحد جوانب الصراع في أحداث الحرب العالمية الأولى كان دينياً، وليس من المعقول أن يتخلى الكورد عن هذه الرابطة، حيث لم يكن ينظر للدولة العثمانية، من قبل عموم المسلمين، على أنها دولة محتلة، رغم ما ارتكبه الاتحاديون من أعمال مخزية بحق الكورد والعرب وغيرهم.
وتتكرر نفس النغمة في كتاب (المسيحيون الآشوريون – الكلدان في تركيا الشرقية وإيران والعراق)، للأب (جي.سي.جي ساندرس) **، حيث يهمل الكاتب ذكر كوردستان، كما يعطي انطباعاً، في خرائط كتابه، بأن كوردستان هي امتداد لمناطق سكن الآثوريين، الذين يسميهم كسابقه بالآشوريين الكلدان، وهو مصطلح رجراج، ليس له أي سند تاريخي، حيث إن الآشوريين كانوا من سكنة (نينوى) وأطرافها، بينما البابليون -الكلدان - كانوا من سكنة جنوب العراق - بابل- ولم يعرفوا الديانة المسيحية مطلقاً، وأن نهاية (نينوى) كانت على يد البابليين عام 612 ق.م!
يقول (ساندرس) بأن معظم المسيحيين الشرقيين هربوا عام 1915 من أمام الوحشية الكوردية، باتجاه جبال شرقي تركيا الحالية!
ويقول في ص28، وبعد حديثه عن حلم الدولة الآشورية، بالقرب من (كركوك)، وموقف الكورد من هذه المسألة: .... هنا لا بد أن نذكر أن الأكراد أنفسهم هم من نفذ مذابح المسيحيين الآشوريين - الكلدان، التي جرت عام 1915م، والتي راح ضحيتها عشرات بل مئات الآلاف منهم!!
وهذا الكلام مجافٍ للحقيقة، فإن تعميم الأحداث الطائفية، وصبها فوق رؤوس الكورد بالعموم، فيه إساءة بالغة لهم، حيث عشرات الكنائس والأديرة المنتشرة في كوردستان الآن، تنفي هذا الكلام، والذي يعطي صبغة العنصرية للكورد.
وبالإجمال، فكأن المسألة كوردية - مسيحية ليس إلا، وهي سخافة تاريخية لا مبرر لها.
وأما الكتاب الآخر، والذي يحتاج إلى كتاب كامل لنقده، فهو كتاب (الفرسان الحميدية)، للأستاذ (ماجد محمد زاخويي)، حيث يحشر المسألة الأرمنية في سياق غريب جداً، ويجعلها في صلب الكتاب. و(الفرسان الحميدية) هي قوات أسسها السلطان (عبدالحميد الثاني)، من القبائل الكوردية عام 1891، وكان لها باع طويل في حفظ الأمن في المناطق الكوردية، وغيرها، من الدولة العثمانية، وفي الدفاع عن حدودها. وهي مسألة تاريخية معقدة، لا يمكن القفز عليها بإلقاء التهم جزافاً على (الفرسان الحميدية)، وربطهم بالمسألة الأرمنية، على نفس نغمة الكتابين السابقين، حيث يتم حشر المسألة الأرمنية في سياق الكتاب بصورة مباشرة، في غاية الغرابة، وتلقى تهم المذابح على رأس الفرسان الحميدية (الكوردية )!
فالكورد لم يكونوا غافلين تجاه الأطماع الروسية والأرمنية والآثورية في مناطقهم، ويورد المؤلف أبياتاً للشاعر (الحاج قادر الكويي) عن تلك المخاوف، تؤكد شعور الكورد بهذه المسألة:
أرض الجزيرة وبوتان، أي بلاد الكورد
يا للأسف يجعلوها (أرمنستان)
قسماً بالقرآن مئة مرة، لم يبق غيرة عند الكورد
إذا ظهرت (أرمنستان) لن يبقَ أحد من الكورد.
فالكاتب في معلوماته المشتتة، وغير المركبة، يقول بأن المسلحين الأرمن في عام 1894، قتلوا سكان عشرين قرية كوردية، وأحرقوا ممتلكاتهم، ولا يسمي تلك الأحداث مذابحاً. وفي مكان آخر يقول: اقتحمت القوات الروسية، مع وحدات أرمنية غير نظامية، مناطق (بايزيد)، وشرعت الوحدات الأرمنية بالقتل دون تمييز، فقضوا على آلاف الكورد، ودمروا عدداً كبيراً من قراهم. وأما عند كلامه عن ردة فعل الكورد، فإن الكاتب (في ص118)، وبالاستناد إلى مراجع غربية، يجعل من (الفرسان الحميدية) مؤسسة غير نظامية، خارجة عن القانون، فاقت بقسوتها تصورات العقل، حيث قتلوا الشيوخ والأطفال والنساء، وأحرقوا القرى، والأسرى، وكانوا يشترون قوافل الأرمن من الجنود فيسلبونهم وينهبوهم، ومن ثم يقتلوهم. ولم يكلف الكاتب نفسه مسألة تحليل النصوص، وأيها السابق، وأيها اللاحق.
لقد دس المستشرقون أكاذيب وادعاءات بشأن كل من وقف بوجههم من شعوب الشرق، وكان الكورد في طليعة هذه الشعوب، حتى أن المصادر الحديثة أكدت بأن (ثورة العشرين)، التي قامت ضد الانكليز في جنوب العراق، كان لكوردستان سبق بها عام 1919م! ولذلك يجب أن نكون بمنتهى الحذر والفطنة عندما ننقل عنهم ومنهم.
ومن المغالطات الموجودة في الكتاب، وضع السلطان (عبدالحميد)، و(الاتحاد والترقي) في خط واحد، تجاه سياسة التتريك. وهذا بحد ذاته يلقي بظلال من الشك على مصداقية الكتاب، لأن هذا الأمر، إن كان كذلك، فإنه ينسف كل أسس التاريخ الحديث!
إن دخول أرمني ويهودي وألباني وتركي على السلطان (عبدالحميد)، عند خلعه عام 1909، ينفي تماماً موقف السلطان (عبدالحميد) من الأقليات، التي لم تحارب الدولة العثمانية.
ومن المغالطات الأخرى، قول الكاتب بأن (بديع الزمان النورسي) كان يرفض وينتقد السياسة التوسعية للسلطات العثمانية، تحت غطاء الإسلام، واستخدامه في اضطهاد الشعوب غير الإسلامية. بينما الحقيقة أنه كان ل(النورسي) موقف مؤيد للمشروطية، في البداية، على ضوء الشورى، وعندما تبين له حجم المؤامرة حول المشروطية، من قبل (الاتحاد والترقي)، وأن المشروطية التي يتصورها هي ليست مشروطية (الاتحاد والترقي)، التي ذهب ضحيتها أئمة الطرق الصوفية، كالشيخ عبدالسلام البرزاني - رحمه الله - عام 1914، وغيره، ممن وقف ضد أطماع (الاتحاد والترقي)، اعتذر (النورسي) - رحمه الله - لاحقاً عن موقفه هذا، ووقف ضد (الاتحاد والترقي)، مما أدى إلى اعتقاله، وإلقائه في السجن.
ولا زالت كثير من الأحزاب التركية الحالية تتلمس طريق (النورسي)، وتدين له بالولاء لتعاليمه - رحمه الله - بعد أن أيقن أن الاستعمار لا يهمه إلا تمزيق الشعوب، على أسس إثنية وطائفية.
لقد كان على الكاتب أن يضع النصوص، والنصوص المضادة، ويقوم بمقارنتها، وتحليلها تحليلاً علمياً، لا أن يضع اللوم على (الفرسان الحميدية)، ويكون بذلك حاطب ليل، لتبدو -مع النصوص السابقة- اتهامات بشأن الكورد ككل، ليس إلا.
وهنا لا بد من التذكير بأننا ضد فتح جراح الماضي، جملة وتفصيلاً، وأنه يجب دراسة التاريخ بموضوعية واتزان، لا أن نتهم ذاك، ونلعن هذا، ونبرئ هذا، ونحب ذاك، على أسس عاطفية فقط، ولا ننسى أن الشعوب دائماً تدفع أثمان الصراعات الاستعمارية.
------------
الهوامش:
*سورما خانم 1883 – 1975، تأليف: كلير ويبل يعقوب، ترجمة: نافع توما، مراجعة: الأب توما مرقس، منشورات مجلة الفكر المسيحي، بغداد 2011م.
** المسيحيون الآشوريون - الكلدان في تركيا الشرقية وإيران والعرق، تأليف: الأب د.جي، سي، جس ساندرس، ترجمة: نافع توما، منشورات مجلة الفكر المسيحي، بغداد 2007م.
*** الفرسان الحميدية، تأليف: ماجد زاخويي، دار سبيريز للطباعة والنشر، دهوك 2008م.[1]